26- تقدمة المعمدان وآلام القديس يوسف | قصيدة الإنسان – الإله

1٬263
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

26- تقدمة المعمدان إلى الهيكل
وآلام القديس يوسف

05 و 06 / 04 / 1944

هذا ما رأيتُه في ليلة الأربعاء-الخميس مِن الأسبوع العظيم المقدّس:

مِن عربة فاخرة رُبِطَت إليها مطيّة مريم أيضاً، أرى زكريّا يَهبط مع أليصابات ومريم التي تحمل يوحنّا الصغير، وكذلك صموئيل ومعه الحَمَل وطير الحمام في قفص. يَنزلون جميعهم قرب الإسطبل حيث ينبغي أن يقف عادة كلّ الحجّاج القادمين إلى الهيكل ليضعوا مطاياهم.

تُنادي مريم رجلاً قصير القامة، هو المالك للإسطبل وتسأله إذا ما كان ناصريّ قد وَصَلَ في الأمس أو في الساعات الأولى مِن صبيحة اليوم. «لا أحد سيّدتي.» يُجيب العجوز القصير. تُدهَش مريم ولكنّها لا تُضيف شيئاً.

تَجعَل صموئيل يفكّ حمارها وتَلحَق بزكريّا وأليصابات، تُعلّل تأخير يوسف: «قد يكون أمر ما أخَّرَه، ولكنّه سيأتي اليوم حتماً.» ثمّ تعود فتأخذ الطفل الذي كانت قد أعطته لأليصابات، ويتوجّهون إلى الهيكل.

يتلقّى زكريّا ترحيب الحرّاس وتحيّات وتهاني الكَهَنَة الآخرين. زكريّا اليوم متألّق بثيابه الكهنوتيّة وفرحه كأب سعيد، حتّى كأنّه بطريرك. أعتقد أنّ إبراهيم كان يشبهه يوم ابتهاجه بتقديم اسحق للربّ.

أرى طقوس تقدمة الإسرائيليّ الجديد وتطهير الأُمّ. إنّه أكثر أُبّهة مِن تقدمة مريم، لأنّ يوحنّا ابن كاهن، والكَهَنَة يَحتَفِلون بشكل أكثر فخامة. إنّهم يَهرَعون بأعداد ويَنهَمِكون حول مجموعة النساء الصغيرة والمولود الجديد.

ويدنو بعض الناس أيضاً على سبيل الفضول، وأَسمَع التعليقات. وبما أنّ مريم كانت تحمل الطفل أثناء توجّههم إلى المكان المعتاد فقد ظَنَّ الناس أنّها أُمّه. ولكنّ امرأة تقول: «هذا مستحيل، أفلا تَرَون أنّها حامل؟ عُمر الطفل لا يتجاوز أيّاماً وهي ما تزال حاملاً.»

يقول آخر: «مع ذلك، لا يوجد غيرها يمكنها أن تكون الأُمّ، فالأُخرى عجوز. يُفتَرَض أنّها إحدى القريبات، إنّما لا يمكنها أن تكون أُمّاً وهي في هذه السن.»

«فلنتبعهم، وسوف نرى مَن هو الـمُحِقّ.»

ويتزايد الذهول عندما يُلاحَظ أنّ التي تُكمِل مراسم التطهير هي أليصابات التي تُقَدِّم الحَمَل الذي يثغو إلى المحرقة وطير الحمام إلى المعصية.

«إنّها هي الأُمّ، أرأيت؟»

«لا!»

«نعم.»

يتهامَس الناس وهم لا يزالون غير مصدّقين. يُحدِثون أصواتاً كثيرة حتّى إنّ «بشت» بلهجة آمرة تَصدُر عن مجموعة كَهَنَة يَحضرون المراسم. يَصمت الناس بُرهة ولكن الهمس يعود بشكل أقوى عندما تأخذ أليصابات المتألّقة، بإباء مقدّس، الطفل وتَدخُل به إلى الهيكل لتقدّمه للربّ.

«إنّها هي حقّاً!»

«الأُمّ هي التي تقوم بالتقدمة دائماً.»

«يا لها مِن معجزة! هل حَدَثَ مثلها قطّ؟»

«تُرى، ماذا سيكون مِن أمر هذا الطفل الذي أُعطِيَ لهذه المرأة في مثل هذه السنّ المتقدّمة؟»

«بماذا يُنبئ ذلك؟»

يُجيب أحدهم وقد وَصَلَ وهو يَلهَث: «ألا تعلمون؟ إنّه ابن زكريّا الكاهن مِن نسل هارون، هذا الذي أصبَحَ أبكماً عندما كان يُقدّم البخور في قدس الأقداس.»

«يا لهذا السرّ! والآن هو يتكلّم مِن جديد! وِلادة ابنه حلّت عقدة لسانه!»

«تُرى ما يكون الروح الذي كَلَّمَه وجَعَلَ لسانه ميتاً ليُعوّده على الاحتفاظ بالصمت في ما يخصّ أسرار الله؟»

«يا له مِن سرّ! أيّة حقيقة كُشِفَت لزكريّا؟»

«هل ابنه هو ماسيا الذي تنتظره إسرائيل؟»

«لقد وُلِدَ في اليهودية وليس في بيت لحم، ولا مِن عذراء، فلا يمكن أن يكون ماسيا.»

«مَن هو إذن؟»

أمّا الإجابة فقد بَقِيَت في سرّ الله، وأمّا الناس فقد ظلّوا في فضولهم.

تنتهي الطقوس الدينيّة، ويَحتَفِل الكَهَنَة الآن بالأُمّ والابن معاً. أمّا الوحيدة التي لم ينتبه إليها أحد والتي تحاشاها الجميع عند ملاحظة حالها، هي مريم.

ما أن تنتهي التهاني حتّى يمضي أغلب الناس، كلّ في طريقه، وترغب مريم في العودة إلى النَّزل لترى ما إذا كان يوسف قد وَصَلَ. إنّه لم يَصِل بعد. وتبقى مريم شاردة الذهن تعتريها خيبة أمل.

تهتمّ أليصابات لحالها: «يمكننا البقاء معكِ حتّى الساعة السادسة. ولكن يجب أن نرحل بعدها لنصل إلى البيت قبل العشيّة. إنّه ما يزال صغيراً ولا يحتمل البقاء إلى ما بعد هبوط الليل.»

وتُجيب مريم وهي ما تزال تُحافِظ على هدوئها، إنّما حزينة: «سأبقى في إحدى ساحات الهيكل، سأذهب للقاء معلّماتي… لستُ أدري ولكنّني سأفعل شيئاً.»

يتدخّل زكريّا باقتراح يحظى بالموافقة الفوريّة باعتباره حلّاً جيّداً: «فلنذهب إلى بيت أهل زبدى، فمِن المؤكّد أن يبحث عنكِ يوسف هناك، وإن لم يأتِ، فسيكون من السهل إيجاد مَن يصطحبكِ إلى الجليل. ففي هذا البيت يوجد صيّادون مِن جنيسارت في حركة ذهاب وإياب دائمة مِن وإلى هناك.

يأخذون مطيّة مريم ويمضون إلى بيت أهل زبدى، وهُم أصلاً الذين استضافوا مريم ويوسف قبل أربعة أشهر.

تمضي الساعات مُسرِعة ويوسف لم يَظهَر بعد. تُسيطر مريم على محنتها بأن أخَذَت تُهدهِد للصغير، إنّما كان انشغال البال بادياً عليها، كأن تحاول إخفاء حالتها بعدم نزع معطفها رغم الحرارة التي أسالت عَرَق الجميع.

أخيراً تُسمَع ضربة قويّة على الباب تُعلِن عن قدوم يوسف. يَسطَع وجه مريم مستعيداً صفاءه.

يُحيّيها يوسف بعد أن تتقدّم هي أوّلاً وتُحيّيه باحترام: «بركة الربّ تحلّ عليكِ يا مريم!»

«وعليكَ كذلك يا يوسف، والتسبيح للربّ لأنّكَ وَصَلتَ! ذلك أنّ زكريّا وأليصابات كانا سيذهبان ليَصِلا بيتهما قبل حلول الليل.»

«لقد وَصَلَ مرسالكِ إلى الناصرة بينما كنتُ أنا في قانا أقضي بعض أعمالي، ولم أَعلَم سوى أمس مساء فانطلقتُ في الحال. ولكن بما أنّني سِرتُ بدون توقّف، فقد أخَّرَني الحمار بفقدانه نعلاً. سامحيني.»

«بل سامحني أنتَ لبقائي طويلاً بعيدة عن الناصرة! ولكن انظر: لقد كانا سعيدَين جدّاً لكوني معهما، لذا أردتُ أن أُسعِدهما ببقائي معهما حتّى الآن.»

«حسناً فعلتِ يا امرأة. والطفل، أين هو الطفل؟»

يَدخُلان إلى الغرفة حيث توجد أليصابات التي ترضع ابنها قبل الرحيل. يُهنّئ يوسف أهل الطفل لكونه شديداً عتيداً. فترفعه أليصابات عن صدرها لتُريه ليوسف، ولكنّه يَصرخ ويتخبّط كما لو كان أحدهم يَسلَخه، فيضحك الجميع مِن احتجاجه، حتّى أهل زبدى الذين أسرعوا في إحضار الفواكه الطازجة للجميع، والحليب والخبز مع صحن سمك، يضحكون وينضمّون إلى حديث الآخرين.

مريم تتكلّم قليلاً. إنّها تَجلس في إحدى الزوايا هادئة صامتة، ويداها على صدرها تحت المعطف، حتّى وهي تشرب فنجان الحليب وتأكل عنقود العنب الذهبيّ مع القليل مِن الخبز، إنّها تتكلّم قليلاً ولا تتحرّك أبداً. إنّها تَنظُر إلى يوسف بمزيج مِن المعاناة والقلق. وهو كذلك كان ينظر إليها، وبعد برهة ينحني على كتفها ويسألها: «هل أنتِ تَعِبة؟ هل تتألّمين؟ فأنتِ شاحبة وحزينة.»

«إنّي أتـألّم لابتعـادي عن يوحنّـا الصغير. فأنـا أحبـّه كثيراً، ولقد ضممتُه إلى قلبي منذ ولادته تقريباً…»

لم يَطرح يوسف أسئلة أخرى.

حان موعد رحيل زكريّا. تتوقّف العربة قُرب الباب ويدنو الجميع. تتعانق النسيبتان بحنان. تُقبّل مريم الطفل قبلات كثيرة قبل أن تعود أُمّه لتضمّه إلى صدرها وهي تَجلُس في عربتها. ثمّ تُحيّي زكريّا طالِبة منه بركته، وعندما تجثو أمام الكاهن يَنزَلِق المعطف ويَظهَر شكلها مُفَصَّلاً تحت أنوار بعد ظهيرة يوم صيف كاشفة. لم أَعلَم إذا ما كان يوسف قد لاحَظَ ذلك في تلك اللحظة التي كان فيها مُنهَمِكاً بوداع أليصابات… وتبتعد العربة.

ويَدخُل يوسف مع مريم التي تعود إلى مكانها في الزاوية نصف المضاءة. «إذا كنتِ لاتمانعين في السفر ليلاً، فإنّني أقترح الرحيل عند الغَسَق. فالحرارة في النهار شديدة، بينما الليل بارد وهادئ. أقول هذا مِن أجلكِ لكي لا أُعرّضكِ كثيراً للشمس. بالنسبة لي، لا يهمّني التعرّض للقيظ، إنّما أنتِ…»

«كما تريد يا يوسف. نعم، أعتقد أنّ السفر ليلاً أفضل.»

«البيت مرتّب جيّداً وكذلك الحديقة. سترين الزهور كم هي جميلة! سوف تَصِلين في الوقت المناسب لتَجِدي كلّ شيء مُزهِراً. شجرة التفاح والتين والكروم محمَّلة بالثمّار أكثر مِن أيّ وقت مضى، أمّا شجرة الرمّان فقد اضطُرِرتُ لوضع دعامات لها لكثرة الحِمْل على أغصانها، وقد أَخَذَت الثمار أشكالها كما لم نرَ مثيلاً لها في مثل هذا الوقت.

وثمّ شجرة الزيتون… سوف تَحصَلين على زيت وافِر. لقد أزهَرَت بشكل مُعجِز، ولم تَفقد زهرة واحدة، بل إنّ كلّ زهرة فيها أضحت الآن زيتونة صغيرة. وعندما ستنضج ستغطّي الشجرة بلآلئ سوداء. ولا يوجد في الناصرة كلّها مَن يمتلك حديقة بهذا الجمال غيركِ. حتّى الأهل دُهِشوا بها. وحلفا قال إنّها معجزة.»

«عنايتكَ بها هي التي جَعَلَتها كذلك.»

«آه! لا! يا لي مِن رجل مسكين! ماذا فعلتُ أنا؟ بعض العناية بالشجر وبعض الماء للزهر… أتعلمين؟ لقد عملتُ لكِ سبيلاً، فلن تضطري للخروج بغية الحصول على الماء. لقد أوصَلتُه للداخل إلى جانب المغارة، وجَعَلتُ له فسقيّة. لقد جَرَرتُه مِن النبع الموجود فوق زيتونة متّيا. إنّ مياهه نظيفة وغزيرة. جررتُها بواسطة مجرى صغير، وصَنَعتُ قناة صغيرة مغطّاة. والآن تَصِل المياه وتغنّي مثل قيثارة. لقد كنتُ أتألّم لرؤيتكِ تذهبين إلى نبع البلدة لتعودي مُحمَّلة بجِرار مليئة ماء.»

«شكراً لكَ يا يوسف، فأنتَ طيّب!»


يَصمت العروسان الآن لتعبهما حتّى إنّ يوسف قد نام بينما مريم تصلّي.

يَحلّ الليل. يُصِرّ المضيفون على أن يَأكلّا قبل الرحيل. فيأكل يوسف خبزاً وسمكاً بينما لم تأكل مريم سوى الفواكه مع شربها الحليب.

ثمّ هو الرحيل. يمتطيان حماريهما. وكما أثناء الذهاب، يَضَع يوسف صندوق مريم أمامه، وقبل أن تَصعَد مريم يتفقّد السرج إذا ما كان موضوعاً جيّداً. أُلاحِظ أن يوسف يَنظُر إلى مريم وهي تَصعَد فوق السرج، ولكنّه لم يَقُل شيئاً. يبدأ السفر في اللحظة التي أخَذَت أولى النجوم تتلألأ في السماء.

يُسرِعان باتّجاه الأبواب لبلوغها قبل احتمال إقفالها. وعندما يَخرُجان مِن أورشليم ويَسلكان الطريق الرئيسيّة المتّجهة إلى الجليل، تَظهَر النجوم بكثرة على امتداد السماء كلّها. أمّا في القرية فقد خَيَّم صمت مطبق. لم يَعُد يُسمَع سوى تغريد عندليب وصوت حوافر الحمارين التي تضرب بإيقاع أرض الطريق التي أصبَحَت قاسية بفعل جفاف الصيف.


تقول مريم:

«إنّها ليلة الخميس المقدّس. ستبدو هذه الرؤيا للكثيرين خارجة عن الموضوع. ولكنّ ألمكِ كعاشقة ليسوع المصلوب هو في قلبكِ ويستمرّ حتّى بوجود رؤيا عذبة. إنّها كالحرارة المنتَشِرة مِن الشعلة، هي مِن النار كذلك، إلاّ أنّها لم تعد ناراً. فالنار هي الشعلة وليست الحرارة المنتشرة حولها. إنّ أيّة رؤيا مطوِّبة أو مطهِّرة لن تأتي لتنَزَع مِن قلبكِ هذا الألم. انظري إليه كشيء ثمين أكثر مِن حياتكِ ذاتها: إنّه بالفعل، أكبر نعمة يمكن أن يمنحها الله لمن يؤمن بابنه. ثمّ إن رؤياي في سلامها تتوافق بشكل جيّد مع إحياء ذكرى هذا الأسبوع.

إنّ يوسف قد نال أيضاً عذاباته التي بدَأَت مِن أورشليم عندما انتَبَه إلى حالتي، ودامت أيّاماً كما دامت ليسوع ولي. روحيّاً، لم تكن أقلّ ألماً. إنّ قداسة يوسف عروسي وحدها هي التي حافَظَت على هذه الحالة بشكل لائق وسرّي بحيث مرَّت دون أن يُعرَف عنها عَبر الأجيال إلاّ القليل.

آه! أولى آلامنا! مَن يمكنه التحدّث عن الشدّة الداخليّة الصامتة؟ مَن يستطيع التكلّم عن ألمي لدى ملاحظتي أنّ السماء لم تكن قد برَّرَتني بإظهارها السرّ ليوسف؟ السرّ الذي كان يجهله. وقد أدركتُ ذلك برؤية احترامه لي ببساطة كالعادة. فلو كان يَعلَم أنّني أحمل كلمة الله في داخلي لكان عَبَدَ هذه الكلمة في أحشائي بطقوس عبادة مخصَّصَة لله، ولم يكن ليُقَصِّر في ممارستها، كما أنّي لم أكن لأرفض تقبُّلها لا لأجلي، إنّما لأجل مَن كان يسكن فيَّ، الذي كنتُ أحمله كما كان تابوت العهد يحمل لوحي الوصايا وآنية المنّ.

مَن يمكنه وصف معركتي ضد الفتور الذي كان يحاول إرهاقي ليُقنِعني بأن رجائي بالربّ باطل؟ آه! أظنُّها كانت حَملَة هوجاء مِن الشيطان! كنتُ أُحِسُّ بالشكّ يُمسِكني مِن كتفي ويُطيل مجسّاته ليأسر نفسي ويمنعها مِن الصـلاة. الشـكّ الخطير جدّاً، القـاتل للروح. إنّه قاتل، ذلك أنّه الإصابة الـمَرَضيَّة الأولى والتي تسمّى “اليأس”، حيث يجب أن يتصرّف الروح في مواجهتها بكلّ قواه لكي لا تَصِل النَّفْس إلى الهلاك وفقدان الله.

مَن يمكنه التحدّث بدقة عن ألم يوسف وأفكاره واضطراب عواطفه؟ إنّه مثل قارب صغير وسط عاصفة هوجاء، وكان قد وَجَدَ نفسه في زوبعة مِن الأفكار المتناقضة وردود فعل، كانت الواحدة منها أكثر ألماً وشراسة مِن الأخرى. لقد كان في الظاهر رجلاً مخدوعاً مِن قبل زوجته، فكان يرى انهيار سمعته الطيّبة واحترام العالم معاً بسببها، كان يرى نفسه مُشاراً إليه بالبَنَان وموضوع إشفاق البلدة. وكان يرى الحبّ والاحترام اللذين كان يكنُّهما لي يموتان أمام بَيّنة الفِعلة.

وهنا تلألأت قداسته وأشرَقَت أكثر مِن التي لي. وأشهد لذلك بحبّي كعروسة، إذ أَرغَب في أن تحبّوا يوسف، هذا الرجل الحكيم والفَطن، الصَّبور والصالح، الذي لم يكن غريباً عن سرّ الفداء الذي ارتَبَط به بشكل وثيق لأنّه استخدَمَ ألمه وذاته لهذا، وذلك بإنقاذ المخلّص دافعاً الثمن تضحيته، وبقداسته العظيمة: فلو كان أقلّ قداسة لكان تَصَرَّف بشريّاً بأن يشي بي كزانية لأُرجَم فتموت معي ثمّرة خطيئتي. لو كان أقلّ قداسة لما كان الله قد مَنَحَه النور ليرشده في مثل هذا الاختبار.

إنّما يوسف كان قدّيساً. وكان روحه الكلّيّ الطُّهر يحيا في الله. فالمحبّة كانت متأجّجة فيه وقويّة. وبمحبّته أنقَذَ لكم المخلّص، تارّة بعدم الوشاية بي إلى الشيوخ، وتارّة بتركه كلّ شيء وفق طاعة سريعة، ليَحمل يسوع إلى مصر أيّاماً لم تكن كثيرة، ولكنّها فظيعة بِشِدّتها، لقد كانت أيّام آلام يوسف وآلامي، تلك الأيّام الأولى التي كان ينبغي لي أن أعاني فيها، فقد كنتُ أُدرِك معاناته ولا أستطيع انتزاعها مطلقاً لأبقى وفيّة لأمر الله القائل لي: “اصمتي!”.

عندما رأيتُه، حال وصولنا إلى الناصرة، يتركني بعد تحيّة مُقتَضَبة، حانياً ظهره، حتّى ليبدو وكأنّه شاخ في وقت قصير، وعندما لم يأتِ إليَّ في المساء كعادته، أَعتَرف لكم، أبنائي، أنّ قلبي المفطور قد عانى مِن ألم حادّ.

مُحتَبَسة ووحيدة في البيت حيث كلّ شيء يُذكّرني بالبشارة والتجسّد، وحيث كلّ شيء يعيد إلى قلبي ذكرى يوسف المتّحد بي في بتوليّة لا عيب فيها، كان ينبغي لي أن أُقاوِم الفتور ووساوس الشيطان، وأن أرجو وأرجو وأرجو؛ وأن أصلّي وأصلّي وأصلّي؛ وأن أغفر وأغفر وأغفر ليوسف ريبته وتمرّده كَبَارٍّ اغتاظ.

أبنائي: عليكم بالرجاء والصلاة والصّفح للحصول على تدخّل الله ونيل حظوة لديه. وأنتم أيضاً عليكم أن تعيشوا آلامكم، فإنّ خطاياكم قد استَحَقَّتها. وأنا أُعَلِّمكم كيف تتجاوزونها وتُحوُّلونها إلى فرح، أُرجوا دونما حساب، صلّوا دونما شك، واغفروا ليُغفَر لكم. ومغفرة الله، يا أبنائي، ستكون هي السلام الذي تتوقون إليه.

لن أقول لكم أيّ شيء آخر في الوقت الحاضر سوى أنّه بعد انتصار القيامة سيكون الصمت. أَشفِقوا على ما تحمَّلَه فاديكم، اسمَعوا أنّاته وعُدّوا جراحاته ودموعه. فكلّ دمعة انسَكَبَت كانت مِن أجلكم، وجراحاته تَقَبَّلَها مِن أجلكم. وأيّة رؤيا أخرى تُمحى أمام تلك التي تُذكّركم بالفداء الذي حَقَّقَه لكم.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.