37- العائلة المقدّسة في مصر | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
37- العائلة المقدّسة في مصر
25 / 01 / 1944
الرؤيا العذبة للعائلة المقدَّسَة. إنّها في مصر. لا يمكن الشكّ في ذلك، فأنا أرى الصحراء وأحد الأهرامات.
إنّي أرى بيتاً مُوَشَّحاً بالبَياض، هو عبارة عن طابق أرضيّ فقط، بيتاً مُتواضِعاً لأناس فقراء جدّاً. جدرانه بالكاد مطليّة ومكسوّة بطبقة واحدة مِن الكلس. لهذا المنزل الصغير بابان، الواحد إلى جانب الآخر، إنّهما مَدخَلان لغرفتين وحيدتين لم أَدخُلهما بعد.
السَّكن وسط أرض صغيرة رمليّة مُسوَّرة بقصب مغروس في الأرض ليُشكّل دفاعاً واهياً ضدّ اللصوص. إنّه لا يفيد إلّا ضد كلب أو قطّة شاردة. ولكن، بالفعل، مَن ذا الذي يَخطر له على بال أن يسرق مكاناً يبدو جليّاً أنّ لا أثر للغنى فيه؟
على سور القصب عَرَّشَت بعض النباتات المتسلِّقة، جاعلة السور أكثر سماكة وأقلّ بؤساً، وتبدو لي أنّها مِن اللبلاب المتواضع. في طرف واحد فقط توجد شجيرة ياسمين مُزهِرة ودَغل مِن الورد مِن النوعيّة الصغيرة. أمّا الأرض فمُعتَنى بها بصبر رغم كونها قاحلة وجافّة ومُتواضِعة، لتُصبِح حديقة صغيرة. أرى خضراوات هزيلة جدّاً في بعض المساكب الصغيرة في الوسط تحت شجرة ضخمة لم أستطع تمييز نوعيّتها، وهي تُظلّل الأرض المحروقة بالشمس، وكذلك المنزل. ولقد رُبِطَت إلى هذه الشجرة عنزة بيضاء وسوداء، وهي تقضم وتجترّ أوراق بعض الأغصان الملقاة على الأرض.
وهنا على حصيرة ممدودة على الأرض كان الطفل يسوع. يبدو لي ابن سنتين إلى سنتين ونصف على الأكثر. يلعب بقطع خشبيّة منحوتة تُشبِه النّعاج أو الخيل مع شرائط مِن الخشب الأبيض. وهو يحاول بيديه الربيلتين الصغيرتين وضع هذه الأطواق الخشبية في رِقاب الحيوانات.
إنّه طيّب باسم. إنّه جميل جدّاً. رأس صغير ذو شعر ذهبيّ مُقصَّب بمجمله، عيناه مُتّقدتان لامعتان لازورديّتان غامقتان، مِن الطبيعيّ ألاّ يكون التعبير دقيقاً، ولكنّني أعرف لون عينيّ يسوع: إنّهما قطعتا سفير عاتمتان جميلتان جدّاً. وهو يرتدي قميصاً طويلاً ذا لون أبيض، يستخدمه كجلباب، تَصِل أكمامه حتّى المرفق.
هو الآن حافي القدمين، وحذاؤه الصغير على الحصيرة وقد تحوَّلَ بين يديه إلى لعبة، وهو يَقطره بحيواناته التي تجرّه بالسير كما لو كانت عربة صغيرة. إنّه صندل بسيط جدّاً: نعل وسيران (رباطان)، أحدهما مِن الرأس والآخر مِن الكعب. والذي مِن الرأس يتفرّع فيما بعد في مكان ما، فيَدخُل قسم منه في فتحة مِن سير (رباط) العقب ليشتبك مع القسم الآخر مُشكّلاً حَلَقة حول عنق القدم.
على مسافة قريبة منه كانت السيّدة العذراء، وهي كذلك في ظلّ الشجرة، تَنسج على نول ريفيّ وتُراقِب الطفل. أرى يديها الناعمتين البيضاوين تروحان وتجيئان مع رمي المكّوك على اللحمة، والقدم الـمُحتَذِية بصندل تُحرّك الدوّاسة. إنّها ترتدي جلباباً بنفسجيّاً مائلاً إلى الورديّ مثل لون زهرة الخبّيزة. رأسها عارٍ، وبذلك أستطيع ملاحظة شعرها الأشقر المفروق إلى خصلتين على رأسها ثمّ تجدلان بشكل بسيط وتنزلان بلطف على العنق.
أكمام ثوبها طويلة وضيّقة. لا زينة أخرى غير جمالها وتعبير وجهها العذب، لون بشرتها، لون شعرها وعينيها، شكل وجهها، كلّ شيء كما أراه في العادة. وهي تبدو هنا شابّة في العشرين مِن عمرها. بعد قليل تَنهَض وتنحني على الطفل تُلبِسه حذاءه وتربط له السير (الرباط) بعناية. ثمّ تُداعِبه وتَطبَع قبلة على رأسه وعينيه. يُتعتِع الطفل بكلام فتُجيبه، ولكنّني لم أفهم الكلام. ثمّ تعود إلى نولها لتمدّ قطعة قماش على السداة واللحمة وتأخذ الكرسي الذي كانت تجلس عليه إلى داخل المنزل. ويتبعها الطفل بِنَظَره دون إزعاجها عندما تتركه وحيداً.
يبدو أنّ العمل قد انتهى لأنّ المساء قد حلّ. بالفعل، فإن الشمس تغيب على الرمال العارية، وكأنّ حريقاً حقيقيّاً يجتاح السماء كلّها خلف الهرم البعيد.
تعود مريم لتأخذ يسوع مِن يده وتُنهِضه مِن على الحصيرة. والطفل يطيع دون مقاومة. وبينما تلملم الأُمّ الألعاب والحصيرة وتُدخِلها إلى البيت، كان هو يركض، يُهروِل بساقيه الصغيرتين باتّجاه العنزة الصغيرة، ويلفّ ذراعيه حول عنقها. تثغو العنزة وتحكّ ثغرها بكتفيّ يسوع.
تعود مريم مرّة أخرى وهي تضع وشاحاً طويلاً على رأسها وتحمل بيديها جرّة. تأخذ يسوع بيده ويتوجّهان معاً صوب الواجهة الأخرى للمنزل وهما يَدوران حوله.
أَتبَعهُما وأنا أَنظُر بإعجاب إلى هذه اللوحة. السيدة العذراء التي تضبط خطواتها على خطوات الطفل، والطفل الذي يُهروِل إلى جانبها. فأرى الأعقاب الورديّة التي تصعد وتهبط على رمال الدرب، مع الظُّرف الخاصّ بمسيرة الأطفال. أشير هنا إلى أن الجلباب لا يصل إلى القدمين، ولكنّه يصل فقط إلى منتصف بطّة الساق. إنّه شديد النظافة، بسيط جدّاً، محصور عند الخصر بحبل أبيض.
أرى السياج في واجهة البيت الأماميّة مقطوعاً بحاجز ريفي مُشَبَّك. تفتحه مريم وتَخرج إلى الشارع. إنّه شارع فقير في طرف مدينة أو بلدة تتّصل بالريف. إنّه درب رمليّ فيه منزل صغير فقير آخر مثل هذا مع حديقة صغيرة مُتواضِعة. لا أرى فيه أحداً. تَنظُر مريم إلى جهة المدينة، وليس باتّجاه القرية، كما لو كانت تنتظر أحداً، ثمّ تتّجه صوب بركة أو بئر موجود على مسافة بضعة عشر متراً إلى الأعلى وتُضفي عليه بعض النخلات ظلاً مستديراً. كما أرى الأرض في هذا المكان مُغطّاة بعشب أخضر.
وهنا أرى رجلاً يَصِل عبر الطريق الأماميّة، وهو ليس كبيراً جدّاً ولكنّه قويّ. أتعرّف عليه، إنّه يوسف وهو يبتسم. إنّه أكثر شباباً مما رأيتُه عليه في رؤيا الفردوس. يبدو في سنّ لا يتجاوز الأربعين. شَعر اللحية كثيف وأسود، البَشَرة سمراء برونزية والعينان قاتمتان؛ وجه نزيه ورضيّ، وجه يوحي بالثقة؛ لدى رؤيته مريم ويسوع يحثّ الخطى، كان يحمل على كتفه الأيسر مِنشاراً ومِسحجاً، وفي يده أدوات أخرى مِن أدوات مهنته، تبدو مختلفة عن أدوات هذا العصر إنما ليس كثيراً. يبدو كأنّه عائد مِن عمل لدى شخص ما.
يرتدي ثوباً بلون يتراوح بين لون البندق ولون الكستناء، هو ليس طويلاً جدّاً -يَصِل إلى ما فوق الكاحل بقليل- والأكمام تَصِل إلى المرفق. يتمنطق بحزام جلدي كما يبدو لي. إنّها هيئة عامل حقيقيّ. ويحتذي صندلاً تتقاطع سيوره (أربطته) عند الكاحلين.
تبتسم مريم، ويُطلِق الطفل صرخات فرح ويمدّ يده الحرّة. وعندما يلتقي الثلاثة ينحني يوسف ليقدّم للصبيّ ثمرة تبدو مِن شكلها ولونّها أنّها تفّاحة. ثمّ يمدّ ذراعيه. فيترك الصبي أُمّه ويَتَلَملَم بين ذراعي يوسف حانياً رأسه في تجويف كتفه ويأخذ يقبّله ويتلقّى منه القبلات. حركة مفعمة بالعاطفة الـمُمتِعة.
لقد فاتني القول بأنّ مريم قد أسرَعَت بأخذ الأدوات مِن يوسف لتتركه حرّاً في معانقة الطفل.
ثمّ يعود يوسف، الذي كان قد قَرفَص ليكون على مستوى يسوع، ليَنهَض ويستعيد الأدوات بيده اليسرى، أمّا بذراعه اليمنى فيشدّ يسوع الصغير إلى صدره القوي، ويتوجّه صوب البيت، بينما تمضي مريم إلى النبع لملء الجرة.
لدى دخوله مِن سور البيت، يُنزِل يوسف الطفل إلى الأرض ويُدخِل نول مريم ثمّ يَحلب العنزة. ويسوع يُراقِب هذه العمليّات بانتباه، ويَنظُر إلى يوسف الذي يُدخِل العنزة إلى تحصينة مبنيّة في إحدى زوايا البيت.
يُقبِل الليل، وأرى لون الغَسَق الأحمر الذي يتّخذ صبغة بنفسجيّة فوق الرمال، حيث يبدو الجوّ، بفعل الحرارة، وكأنّه يهتزّ. ويبدو الهرم كذلك أكثر قتامة.
يَلِج يوسف غرفة في البيت، مِن المفروض أن تكون مَشغَلاً ومطبخاً وغرفة طعام معاً. يُعتَقَد أنّ الأخرى قد خُصّصت للاستراحة. ولكنّني لم أدخل إليها. هناك على الأرض موقد مشتعل، ودائماً في هذه الغرفة، توجد طاولة نجارة، وطاولة صغيرة وكراسي صغيرة ورفوف وُضِعَت عليها بعض الأواني وقنديلا زيت. وفي إحدى زواياها نول مريم. إنّها مرتّبة جدّاً جدّاً ونظيفة جدّاً جدّاً. إنّه مَسكَن فقير جدّاً ولكنّه نظيف للغاية.
هذا ما لاحَظتُه: في كلّ الرؤى المتعلّقة بحياة يسوع البشريّة لاحَظتُ أن يسوع، وكذلك مريم ويوسف ويوحنا، يرتدون دائماً ثياباً بحالة جيّدة ونظيفة، شَعرهم معتنى به دون مُبالَغَة، الثياب بسيطة، والتسريحة بسيطة، إنما بصفاء يجعلهم متميّزين.
تعود مريم مع الجرّة. ويُغلَق الباب مع الليل الذي يهبط بسرعة. تُنار الغرفة بقنديل يُشعِله يوسف ويضعه على طاولة النجارة حيث ينحني ليعمل أيضاً أعمالاً بسيطة بينما تهيّئ مريم العشاء. والنار كذلك تضيء الغرفة. ويسوع يُمعِن النَّظَر في ما يعمله يوسف مُسنِداً يديه على الطاولة رافعاً رأسه.
ثمّ يَجلسون إلى الطاولة بعد أن يُصَلّوا. طبعاً هُم لا يرسمون إشارة الصليب، ولكنّهم يُصَلّون. يوسف يُصَلّي ومريم تُجيب. ولكنّي لم أفهم شيئاً. قد يكون مزموراً، إلّا أنّه يُتلى بلغة أجهَلُها تماماً.
ثمّ يَجلسون. القنديل الآن على الطاولة. تأخذ مريم يسوع إلى صدرها وتسقيه حليب العنزة. هي تغمس فيه قطعاً مِن خبز أسود في ظاهره وداخله. قد يكون خبز شيلم أو خبز شعير، ذلك لأنّه خبز أسمر ويُصدِر أصواتاً كثيرة. يأكلّ يوسف الخبز مع الجبن، قليل مِن الجبن مع كثير مِن الخبز. ثمّ تُجلِس مريم يسوع على كرسيّ صغير في مواجهتها، وتجلب خضاراً مطهوّة -يبدو لي أنّها مطهوة بالماء ومُبَهَّرة كما نفعلها نحن عادة- تأكل منها بعد أن يَسكب يوسف.
أمّا يسوع فيأكل تفّاحته بهدوء ويبتسم مُظهِراً أسنانه الصغيرة البيضاء. تنتهي الوجبة بزيتون أو بلح: لستُ أُدرِك جيّداً؛ فالزيتون زاه جدّاً، والبلح قاس جدّاً. لا وجود للنبيذ. إنّها وجبة أناس فقراء. إلّا أنّ السلام الذي يتم تنفّسه في هذه الغرفة عظيم جدّاً. لا يمكن لرؤية مسكن ثريّ لأحد الملوك أن تُحقّق لي متعة كهذه. يا له مِن وِفاق متآلف متناغم!
لم يتكلّم يسوع هذا المساء ولم يَشرَح لي المشهد. إنه يُعلّمني مِن خلال الرؤيا التي يهبنيها، وهذا كلّ شيء. فليكن مباركاً على الدوام وبهذا الشكل.
26 / 01 / 1944
يقول يسوع:
«الأمور التي تَرَينَها هي درس يُعطى لكِ وللآخرين. درس في التواضع وفي الخضوع وفي الوفاق الكامل، درس مُقتَرَح لكلّ العائلات المسيحيّة وبشكل خاصّ للعائلات المسيحيّة في هذا الزمن الخاصّ والأليم.
لقد رأيتِ بيتاً متواضعاً فقيراً. والمؤلم في الأمر أنّه منزل فقير في بلد غريب.
كثيرون هُم المؤمنون “الـمُقبِولون” الذين يُطالِبون بحياة ماديّة سهلة، تَقيهم أدنى المعاناة، حياة مُزدَهِرة وسعيدة، وذلك فقط لأنّهم يُصَلّون ويتقبّلونني في الإفخارستيا، لأنّهم يُصَلّون ويتناولون مِن أجل احتياجاتهم “الخاصّة” وليس مِن أجل احتياجات النفوس الـمُلِحّة ومجد الله، (بالفعل، إنّه لَمِن النادر جدّاً ألّا نكون أنانيّين في صلواتنا).
يوسف ومريم كانا يمتلكانني أنا، الإله الحقيقيّ، كابن لهما. ومع ذلك لم يكن لهما حتّى حدّ الإشباع المتواضِع لكونهما فقيرَين جدّاً، بينما في وطنهما، في بلدهما، كانا معروفَين، أو على الأقلّ كان لهما بيت صغير “يخصّهما”، ولم يكن لأحد صِلة في مسألة سكنهما؛ في بلدهما كان مِن السهل عليهما تأمين العمل وسُبُل العيش، لأنّهما كانا معروفَين، وبسببي أنا أصبَحَا لاجِئَين في مناخ مختلف وفي بلد مختلف، بلد كئيب جدّاً إذا ما قورِن بِقُرى الجليل اللطيفة، وكذلك مع لغة وعادات مختلفة، ووسط أناس لا يعرفونَهما، ولديهم تلك الريبة المعتادة التي لدى الشعوب تجاه اللاجئين والمجهولين.
لقد حُرِموا مِن مفروشات بيتهم الصغير المريحة والعزيزة، مِن كثير كثير مِن الأشياء الصغيرة المتواضعة والضروريّة، التي لم تكن لتبدو كذلك هناك، بينما هنا، مع هذا العَوَز الذي يحيط بهم، تبدو جميلة جدّاً، مثل تلك الكماليّات التي تضفي على البيوت الفارهة عذوبة خاصّة. إنّهما يشعُران بالحنين إلى وطنهما وإلى بيتهما، وأفكارهما تذهَب إلى تلك الأشياء المتواضعة هناك، وإلى البستان الصغير، أو إلى ما قد لا يَحسب لـه أحد حساباً، إلى الكرمة والتينة وإلى المزروعات الأخرى المفيدة.
إنّهما في عَوَز تأمين الغذاء اليومي، والثياب والنار، خاصّة لي أنا الطفل الذي لا يمكن إطعامي مما هو جائز لهما. وفوق كلّ ذلك آلام كثيرة في القلب، بالحنين، وبالترقُّب لما ينتظرهما غداً، في ريبة الناس المتعنّتة بهما، خاصّة في الفترات الأولى، إذ لا أحد يَقبَل بسهولة عروض عمل مِن مجهولين.
ومع ذلك فقد رأيتِ كيف يهيمن في هذا المسكن الصفاء والابتسامة والوِئام، وبِتآلف مشترَك تجري محاولة جعله أكثر جمالاً، حتّى البستان الفقير، لكي يصبح كلّ شيء مشابهاً للبيت الذي تُرِك، بل وحتّى أكثر راحة. لم تكن هناك سوى فكرة واحدة: تلك التي مِن أجلي، أنا المقدّس، أن تصبح الأرض الغريبة أقلّ بؤساً بالنسبة لي أنا الآتي مِن الله.
إنّه حبّ المؤمنين والأهل الذي يتبدّى بألف اهتمام؛ ها هي العنزة التي تَتَطلَّب إضافة ساعات كثيرة مِن العمل، واللُّعَب الصغيرة المنحوتة مِن القطع الخشبيّة الزائدة، والفواكه المشتراة لي وحدي، بينما هما يَحرمان نفسيهما مِن لقمة غذاء.
أيّها الأب الأرضيّ الحبيب، كم كنتَ محبوباً مِن الله، مِن الله الآب السماويّ، ومِن الله الابن الذي أصبَحَ مخلّصاً على الأرض!
في هذا البيت لا يوجد أناس عصبيّو المزاج، شديدو الحساسيّة، ذَوو ملامح شرسة، ولا وجود لـمَلامات متبادلة كذلك، ولا حتّى تجاه الله الذي لا يُسبِغ عليهما وضعاً ماديّاً جيّداً. فيوسف لا يُلقي باللائمة على مريم لكونها السبب في الخسائر التي مُنِيَ بها، ومريم مِن جهتها لا تلوم يوسف لعدم معرفته توفير وضع جيّد أفضل لها. إنّهما يتحابّان بقداسة وهذا كلّ ما في الأمر.
ولا اهتمام لأحدهما بمصلحته الشخصيّة، إنّما بالمصلحة المشتركة. فالحبّ الحقيقيّ لا يعرف الأنانيّة. والحبّ الحقيقيّ عفيف على الدوام، حتّى ولو لم يكن كاملاً في هذا المجال بقدر حبّ عروسين بتولين.. فالعفّة المتّحدة بالمحبّة تجرّ وراءها موكباً مِن الفضائل الأُخرى وتُحَقِّق لشخصين يحبّان بعضهما بعفاف، الكمال الزوجيّ.
حُبّ أُمّي ويوسف كان كاملاً. لقد كان يَحمِل على اكتساب الفضائل الأخرى، وخاصّة محبّة الله المبارَك في كلّ حين، حتّى ولو كانت إرادته المقدّسة تُضني الجسد والقلب؛ فلقد كان الروح عند هذين القدّيسَين أكثر حيويّة ويسود على كلّ شيء. لقد كان ذلك الروح هو الذي يجعلهما يُعَظِّمان الربّ بشكره على اختياره إيّاهما كحارِسَين لابنه الأزليّ.
في هذا البيت كانت الصلاة. ضمن البيوت الحاليّة، الصلاة قليلة الوجود جدّاً. في مَطلع النهار وفي الغَسَق، في بداية العمل ولدى الجلوس إلى المائدة، فلا يخطر على بال أحد الربّ الذي أَذِن بيوم جديد أو أَذِن بإمكانيّة الوصول إلى مساء جديد، الربّ الذي بارَكَ أتعابكم وأَذِن بأن يُوَفَّر لكم هذا الطعام وهذه النار وهذه الثياب وهذا السقف، وكذلك كلّ هذه الأشياء الضروريّة في وضعكم البشريّ.
فكلّ شيء “جيد” على الدوام حين يأتي مِن الله الصالح. حتّى ولو كانت هذه الخيرات فقيرة وقليلة، فالحبّ هو الذي يمنحها الطّعم والقيمة، الحبّ الذي يجعلكم تَرَون في الخالق الأزليّ الأب الذي يحبّكم.
في هذا البيت كان التقشّف. وكان سيبقى كذلك حتّى ولو لم يكن المال قليلاً. لقد كانت غاية الطعام استمرار الحياة، ولم تكن يوماً لإشباع الشّراهة وجَشَع النَّهَم وشهوات الشّرِهين الذين يبتلعون الأطعمة حتّى التُّخمة، ويُبذِّرون ممتلكاتهم على منتجات باهظة الثمن دون أن يفكّروا في الذين لا يجدون كفايتهم أو يُضطَرّون لأن يُحرَموا منها، دون التفكير بأنّهم في اعتدالهم يمكنهم أن يُوفِّروا على الكثيرين ألم الجوع.
في هذا البيت العمل محبوب. إنّه محبوب حتّى ولو كان المال موجوداً بوفرة. لأنّ في العمل يطيع الإنسان أوامر الله، ويَهرب مِن الرذيلة التي مثل العشقة (نبات مُعَرِّش يشبه اللبلاب) الدَّبِقَة تُطوّق وتَخنق العاطلين عن العمل الذين يُشبِهون أكواماً هامدة. الغذاء جيّد، والراحة لذيذة والقلب يرضى عندما نعمل جيّداً، كما تُقَدَّر لحظة الاستراحة بين عمل وآخر.
والرذيلة في جميع أوجهها لا يمكنها الدخول إلى بيت أو في روح مَن يحبّ العمل. وبما أنّها لا تَنبت فيهما فإن العطف ينمو وكذلك التقدير والاحترام المتبادَل. وفي مناخ الطهارة تتعاظم التَّساميات الحنونة التي تخلق في المستقبل عائلات تُزهِر فيها القداسة.
في هذا البيت يسود التواضع. وأيّ درس في التواضع للمتكبِّرين منكم. فَمِن وجهة نظر بشريّة كان لدى مريم ألف ألف سبب لتتكبّر وتجعل قرينها يَسجد لها. فهناك الكثير من النساء اللواتي يفعلن ذلك لأنّ ثقافتهنّ أوسع وعائلتهن أكثر نُبلاً وثروتهنّ تفوق ثروة أزواجهنّ. أمّا مريم، وهي عروسة وأُمّ الله، فهي تَخدم قرينها، ولا تطلب أن تُخدَم، وكذلك هي تَكُنُّ له الكثير مِن العاطفة.
ويوسف الذي وَجَدَه الله أهلاً هو سيّد هذا البيت، وهو الأهل بحقّ ليكون رأس البيت ويتقبّل مِن الله حراسة الكلمة المتجسّد وعروسة الروح الأزليّ، ومع ذلك فهو يسهَر باهتمام بالغ على تخفيف وطأة الأتعاب والأشغال عن مريم. إنّه يتحمّل أعباء البيت الأكثر تواضعاً ليوفّر على مريم العناء، وثمّ، كما يستطيع، وبالقدر الذي يستطيع، يُحاوِل إرضاءها، ويتفنّن في جعل المسكَن عَمَليّاً أكثر، وأن يجعل الحديقة الصغيرة أكثر بهجة بالزهور.
في هذا البيت يُحترَم الترتيب فائق الطبيعة والوجدانيّ والمادّيّ. الله هو السيّد الـمُطلَق وله العبادة والحبّ. وهذا هو الترتيب الفائق الطبيعة. يوسف هو سيّد العائلة وله يُقَدَّم العطف والاحترام والطاعة. وهذا هو الترتيب الوجدانيّ. والبيت عطيّة مِن الله وكذلك الثياب والمفروشات، وفي كلّ هذه الأمور تَظهَر عناية الله، هذا الإله الذي يَمنَح النِّعاج صوفها والطيور ريشها والحقول خُضرتها، وكذلك يمنَح العلف للحيوانات الداجنة، والحبوب والأوراق للطيور، وهو الذي يَنسج ثياب زنابق الوادي.
فالمأوى والملبَس والمفروشات نتلقّاها كلّها بامتنان ونحن نبارِك اليد الإلهيّة التي وفّرتها، وذلك بمعاملتها باحترام كعطايا مِن عند الربّ، دون النظر إليها باشمئزاز لكونها مُتواضِعة، ودون تخريبها مستغلّين العناية الإلهيّة. وهذا هو الترتيب المادّيّ.
لم تُدرِكي معنى الكلمات المتبادَلَة في حِوار الناصرة، ولا كلمات الصلاة، إلّا أن مَشهَد مجريات الأمور أعطى درساً عظيماً. فتأمّلوا فيه أنتم يا مَن تُعانون كثيراً مِن تقصيركم أمام الله في الكثير مِن الأمور، ومنها أيضاً تلك التي لم يُقَصِّر بها العروسان القدّيسان اللذان هما أُمّي وأبي.
أمّا أنتِ فكوني سعيدة في تذكّركِ يسوع الصغير. ابتسمي وأنتِ تفكّرين بخطواته الطفوليّة الصغيرة. فبعد قليل سوف تَرَينَه يسير تحت وطأة صليبه، وستكون رؤيا الدموع.»