59- العودة إلى الناصرة بعد الفصح مع التلاميذ الستة | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}
59- العودة إلى الناصرة بعد الفصح مع التلاميذ الستة
31 / 10 / 1944
يَصِل يسوع مع ابن عمّه والتلاميذ الستّة إلى مَشارِف الناصرة. مِن أعلى المنحدر حيث هم موجودون تُرى المدينة الصغيرة، بيضاء وسط الخُضرة الصاعدة والهابطة وفق المنحدرات التي قد بُنِيَت عليها. تتماوج الطريق بلطف وهي بالكاد مرئيّة مِن هنا، بينما مِن هناك هي بارزة الملامح أكثر.
«ها قد وَصَلنا يا أصدقائي. وهذا هو بيتي. ووالدتي في داخله، ذلك أنّني أرى الدخان يتصاعد مِن البيت. قد تكون تخبز. أنا لا أقول لكم: “امكثوا”، لأنّني أظنّكم على عَجَلة للوصول إلى بيوتكم، إنّما إذا أردتم كسر الخبز معي والتعرّف على مَن قد تعرَّفَ عليها يوحنّا، فأقول لكم: “تعالوا”.»
كان الحزن قد بدأ يُخَيِّم على الستّة بسبب الفراق الوشيك، إلّا أنّ السرور عاد ليملأهم، ويَقبَلون الدعوة عن طِيب خاطر.
«إذاً هيّا بنا.»
يهبطون الهضبة الصغيرة بنشاط ويسلكون الطريق الرئيسيّة. الوقت حوالي المساء. لا يزال الطقس حارّاً، ولكنّ الظلام قد بدأ يُرخي سُدوله على القرية حيث بدأ القمح ينضج. يَدخُلون البلدة. نساء ذاهبات إلى العَين أو عائدات منها، رجال على عتبات الـمَشاغِل أو في الحدائق، يُحيّون يسوع ويهوذا. ثمّ يتهافت الأطفال جماعات حول يسوع.
«هل عُدتَ؟»
«ستمكث هنا الآن؟»
«لقد كسرتُ عجلة عَرَبَتي مِن جديد.»
«أَتَعلَم يا يسوع؟ أصبَحَت لي أخت صغيرة وأَسمَيناها مريم.»
«لقد قال لي المعلّم بأنّني أعرف كلّ شيء وأنّني ابن حقيقيّ للشريعة.»
«سارة ليست هنا لأنّ أُمّها مريضة جدّاً. إنّها تبكي لأنّها خائفة.»
«أخي إسحق قد تزوَّجَ وكان الاحتفال عظيماً.»
يسوع يَستَمِع، يُلاطِف، يُهَنِّئ ويَعِد بالعَون. وهكذا يَصِلون إلى البيت. أصبَحَت مريم عند العَتَبَة، فقد أخطَرَها صبيّ صغير مُندَفِع.
«وَلَدي!»
«ماما!»
ويتعانق الاثنان. ومريم الأقصر مِن يسوع تَسند رأسها على أعلى صدر ابنها الـمُتَلَملِم في محيط ذراعيها. وهو يُقَبِّل شعرها الأشقر. ويَدخُلان البيت.
التلاميذ، بما فيهم يهوذا، يبقون خارجاً تاركين لهما حريّة إظهار عواطفهما وهي في ذروتها.
«يسوع، وَلَدي!» يرتجف صوت مريم كما لو كانت مُوشِكة على البكاء.
«لماذا هذا التأثّر يا أُمّاه؟»
«وَلَداه! لقد رُوِيَ لي… في الهيكل، كان أناس مِن الجـليل ومِن النـاصرة، ذاك اليوم… لقد عادوا… ورووا… يا وَلَدي!…»
«ولكنّني، كمـا تَـرَين، يـا أُمّي، على ما يرام. لم يُصِبني أذى، وقد حلَّ مجد الله في بيته.»
«نعم، أعرف، يا ابن قلبي. أعلم أنّ ذلك كان كالجرس أيقَظَ النِّيام. وأنا سعيدة مِن أجل مجد الله… سعيدة لأنّ هذا الشعب الذي هو شعبي قد تَنَبَّهَ لله… أنا لن ألومكَ… لن أمنعكَ… إنّني أفهمكَ… و… أنا سعيدة… ولكنّني قد أنجبتُكَ يا وَلَدي!…» وما تزال مريم مُحاطَة بذراعَيّ يسوع. وتتكلّم ويداها مفتوحتان ومُستَنِدَتان إلى صدر ابنها، ورأسها مرفوع باتّجاهه، وعينها أكثر لمعاناً بسبب الدمعة التي تُوشِك أن تسيل. إنّها تَصمت الآن مُسنِدَة رأسها مِن جديد على صدر يسوع. تَحسَبها يمامة رماديّة، إذ كانت ترتدي ثوباً رماديّاً، في ظلّ جناحين كبيرين أبيضين، فيسوع كان ما يزال يرتدي ثوبه ومعطفه الأبيَضَين.
«ماما، والدتي المسكينة، يا أُمّي الحبيبة!…» ويُعاوِد يسوع تقبيلها، ثمّ يقول: «ها أنتِ تَرَين أنّني هنا، ولستُ وحدي. معي تلاميذي الأوائل، ولديَّ آخرون في اليهوديّة، وكذلك ابن عمي يهوذا معي ويتبعني…»
«يهوذا؟»
«نعم يهوذا. أعرف لماذا أنتِ مندهشة. بالتأكيد، ضِمن الذين تحدّثوا عن الذي جرى كان حلفا وأولاده… ولن أكون مخطئاً إذا قلتُ إنّهم قد انتَقَدوني. إنّما لا تخافي. اليوم كذا وغداً مختلف. فالإنسان مثل الأرض، في المكان الذي كانت الأشواك تنمو، أصبَحَت تنمو الورود. ويهوذا الذي تحبّينه حبّاً جمّاً هو الآن معي.»
«أين هو الآن؟»
«إنّه هناك خارجاً مع الآخرين. هل لديكِ خبز يكفيهم؟»
«نعم يا وَلَدي. فمريم زوجة حلفا في الفرن، وهي تُخرِج الخبز منه. إنّها طيّبة جدّاً، ومريم إلى جانبي. الآن بشكل خاص.»
«ليمنحها الله المجد.» ويذهب إلى الباب ويقول: «يهوذا والدتكَ هنا، تعالوا أيّها الأصدقاء!»
يَدخُلون ويُلقون التحيّة. بينما يهوذا يُقَبِّل مريم ويَجري باحثاً عن والدته.
يُقَدِّم يسوع الخمسة بأسمائهم: بطرس، أندراوس، يعقوب، نثنائيل، فليبّس. أمّا يوحنّا فقد باتت مريم تعرفه، وهو حيّاها بعد يهوذا مباشرة وانحنى لِتَقَبُّل بركتها.
تَردّ مريم التحيّة وتدعوهم للجلوس. إنّها ربّة البيت وتهتمّ بالضيوف. ومع ذلك فهي ما تزال تحتفظ ليسوع بنظرة هيام. تبدو روحها مع عينيها تُكمِل نقاشاً صامتاً مع ابنها. لقد كانت تبغي جَلبَ المياه لتنعشهم، ولكنّ بطرس يَندَفِع: «لا يا امرأة، لا يمكن أن أسمح لكِ بذلك. امكثي أنتِ إلى جانب ابنكِ، أيّتها الأُمّ القدّيسة، وأنا سأذهب، بل نذهب جميعنا إلى الحديقة لِنَغتَسِل.»
ها هي مريم زوجة حلفا تَهرَع حمراء ويكسوها الطحين. تُحَيِّي يسوع الذي يباركها ثمّ تقود الستّة إلى الحديقة صوب الفسقيّة. وها هي تعود سعيدة لتقول للعذراء: «آه! مريم! لقد أخبَرَني يهوذا. كم أنا سعيدة! مِن أجل يهوذا ومِن أجلكِ أنتِ يا “سِلفَتي”. أعرف أنّ الآخرين سيزجرونني. إنّما لا يهم. سأكون سعيدة يوم يُصبِحون جميعهم ليسوع. فنحن الأُمّهات، نعرف… نحسّ ما فيه خير أبنائنا. وأنا أحسّ أنّكَ، أنتَ يا يسوع، خير أبنائي.»
يُلاطِف يسوع رأسها وهو يبتسم.
يَعود التلاميذ، وتُقَدِّم لهم مريم زوجة حلفا الخبز ساخناً مع الزيتون والجبن. ثمّ تَجلب جرّة عصير العنب الأحمر الذي يسكبه يسوع لأصدقائه. إنّ يسوع هو الذي يُقَدِّم ويُوَزِّع على الدوام.
في البدء كان التلاميذ مُرتَبِكِين قليلاً، أمّا بعدئذ فَيَهدأ روعهم. وهم يتحدّثون عن بيوتهم وعن رحلتهم إلى أورشليم وعن المعجزات التي اجتَرَحَها يسوع. إنّهم متحمّسون، وَدودُون، ويُحاوِل بطرس أن يتحالف مع مريم ليحظى بالمكوث إلى جانب يسوع مباشرة دون الحاجة إلى الانتظار في بيت صيدا.
تُقَدِّم له مريم النصيحة مع ابتسامة لطيفة: «افعَل ما يقوله لكَ. وسيكون هذا الانتظار بالنسبة لكم أكثر نفعاً مِن السفر المباشر معه. فيسوعي يُجيد كلّ ما يفعله.»
يَخيب أمل بطرس، لكنّه يُذعِن عن طيب خاطر سائلاً فقط: «هل سيدوم هذا الانتظار طويلاً؟»
يَنظر يسوع مبتسماً، إلّا أنّه لا يقول شيئاً. ومريم تُؤَوِّل هذه الابتسامة كدليل حُسن التفات: «يا سمعان بن يونا، إنّه يبتسم… وأنا أقول لكَ: إنّ زَمَن انتظاركَ الـمُطيع سوف يمرّ بسرعة مثل طيران السنونو فوق البحيرة.»
«شكراً لكِ يا امرأة.»
«ألا تتكلّم يا يهوذا؟… وأنتَ يا يوحنّا؟»
«أَنظُر إليكِ يا مريم.»
«وأنا كذلك.»
«أنا كذلك أَنظُر إليكم… وهل تَعلَمون؟ يعود إلى ذهني زمن بعيد. فحينئذ كذلك كان لديَّ ثلاثة أزواج مِن العيون تتعلّق بوجهي بحبّ. هل تَذكُرين تلاميذي الثلاثة يا مريم؟»
«آه! طبعاً أتذكّر! هذا حقيقيّ! فالآن أيضاً هم ثلاثة، في سنّ متماثل بشكل محسوس. يَنظرون إليكِ بكلّ الحبّ الذي لديهم. أظنُّ أنّ يوحنّا هذا يبدو لي مثل يسوع آنذاك، بشعره الأشقر وخدّيه الحمراوين وهو أصغرهم سنّاً.»
يُريد الآخرون معرفة الأمر، فتَروي الذكريات والطّرائف. يمرّ الوقت ويهبط الليل.
«أصدقائي، لا غرف مفروشة لديَّ. إنّما ذاك هو الـمَشغَل حيث كنتُ أَعمَل. فإن شئتم بإمكانكم إيجاد مأوى… إنّما ليس فيه سوى مقاعد.»
«وهي أَسِرّة تفي بالغرض بالنسبة إلى صيّادين اعتادوا النوم على ألواح خشبيّة ضيّقة. شكراً يا معلّم. فالنوم تحت سقفكَ شرف لنا وتقديس.»
يَنسَحِبون بعد عدّة تحيّات. ويبتعد كذلك يهوذا مع أُمّه. إنّهما يمضيان إلى بيتهما.
ويَمكث في الغرفة يسوع ومريم جالِسَين على الصندوق، على ضوء مصباح صغير، وذراع كلّ منهما حول كَتِفَيّ الآخَر. يسوع يروي ومريم تُنصِت مَفتونة ومُرتَجِفَة وسعيدة…
هكذا تتوقف الرؤيا.
ارحمنا يا الله بعظيم رحمتك