شهادة من الجحيم… حقائق مرعبة عن جهنم يلزم الكل معرفتها قبل فوات الأوان
شهادة من الجحيم
مقدّمة:
إنّنا نأمل لهذا الكتيّب الذي يعرض حدثاً فريداً وهاماً للغاية، وافقت النيابة العامة في روما على صحتّه وضرورة نشره، ان يكون حافزاً لتوعية الضمائر والعودة الى سلوك “الطريق الضيّق المؤدّي الى الخلاص، وترك الطريق الواسع والرحب المؤدي الى الهلاك”. (متى: 7/13) وإذ نمنح بركتنا لكافّة المؤمنين الذين سيطّلعون على مضمونه، نؤكّد صحة الترجمة وأمانتها.
لا مانع من طبعه
المطران جورج رياشي رئيس أساقفة طرابلس وسائر الشمال للروم الملكيّين الكاثوليك.
طرابلس في 13 أيار 2010
توطئة:
لقد وصف القديس “بادري بيو” (الملّقب ب”أعجوبة القرن العشرين”) هذا الزمن على أنّه “زمن الظلام المطبق”؛ فإنّ رؤية وتقييم وتمييز كافة الشؤون، خاصة الروحية منها، بدقة، لك يعد بالأمر السهل للعديدين، ولا بمتناول يد الكثيرين، لذا تأتي السماء، بفعل رحمة عظيم، لتمنح الأرض وسكانها أنواراً ساطعة، علّها تمزّق كثافة الظلمة المحيطة بعقولنا، وأفكارنا، وضمائرنا، وقلوبنا، وتعيدنا الى الحقيقة التي تصرخ ضرورة التوبة.
ومن أهمّ هذه الأنوار، بحسب رأينا المتواضع، هو هذا الحدث الذي سمحت به الحكمة الأزليّة، والتي ترويه الصفحات التالية. فإنّ أحد المفاهيم الخاطئة المساهمة في تسبيب الظلمة هي النظرة الى “رحمة الله” وكأنّها ستطال الجميع، أخياراً كانوا أم أشرار، مما يجعل من جهنّم أسطورة، أو “خبريّة” للأطفال الصغار، لا يليق بالإنسان “العاقل” أخذها بموقف الجدّ.
وما ساهم في ذلك هو تفاسير وتصاريح شخصيّة وخاطئة لبعض اللاهوتيين ومفسرّي الكتاب المقدّس لبعض تعابير ك “رحمة الرب تدوم الى الأبد” و “يشرق شمسه على الأخيار والأشرار” و “رحمة الله للجميع” وغيرها من الكلام الإلهي المنتشر في الكتاب المقدّس، غافلين مقاطع أخرى ك “رحمة الله للتائبين،” للذين يعودون إليه بكل قلوبهم،” “توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات،” “إنّ لم تتوبوا، تهلكوا بأجمعكم”، مما يؤدي الى فصل الأخيار عن اليمين، والأشرار عن اليسار…
فإنّ تعليم الكنيسة الصحيح هو أن رحمة الله لامتناهية وتطال الجميع ما داموا لا يزالون على هذه الأرض الفانية، وادي الدموع، في مسيرتهم نحو الوطن الأبدي الحقيقي، في السماء. فرحمة الله تمنحهم الفرص، والمعونة، والصبر، والعون… حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم، وحتى أثناء نزاعهم، لكيما يتوبوا فيخلصوا. أمّا المصرّين على رفض الله، وعدم إرادة الإنصياع لوصاياه، والعيش في الخطيئة، فإنّ ما سوف نقرأه في هذه الصفحات المرعبة في حقيقتها، البسيطة والعميقة في مضمونها، لهو خير مثبت لتعليم الكنيسة وآباءها، وقديسيها.
فلنورد، مثالاً على ذلك، ما كتبه في هذا الشأن القديس فرنسيس الأسيزي، قديس السلام والأخوة الشاملة وحب الطبيعة والحيوانات، الذي لم يخف عن المؤمنين حقيقة وهول ما ينتظرنا عند الموت، قائلاً:
“أمّا جميع الّذين، واللّواتي، لا يحيون التّوبة، ولا يتناولون جسد ربّنا يسوع المسيح ودمه، ويستسلمون للرذائل والخطايا، ويسيرون في إثر الشّهوة الفاسدة، ورغبات جسدهم الشّريرة؛ ولا يتقيّدون بما وعدوا به الرّبّ، ويخدمون، جسديّاً، العالم، بالرّغبات الجسديّة، ومشاغل الدّنيا، وهموم هذه الحياة، فهم أسرى لإبليس، إذ إنّهم أبناؤه، ويعملون أعماله، وهم عميان، لأنّهم لا يرون النور الحقّ، ربّنا يسوع المسيح. وليس لديهم حكمة روحيّة، لأن ليس لديهم ابن الله، حكمة الآب الحقيقيّة. فيهم قيل: “لقد ابتلعت حكمتهم”، وقيل أيضاً: “ملعونون هم الذين يبتعدون عن وصاياك”. إنّهم يرون الشرّ، ويقرّون به، ويعلمونه، ويفعلونه؛ وهم ذاتهم يخسرون نفوسهم، عن معرفة.
انظروا، أيها العميان، المخدوعون بأعدائكم، الجسد، والعالم، وإبليس؛ فإنّه لعذب للجسد ارتكاب الخطيئة، ومرّ هو القيام بخدمة الله… وأينما، وكلّما مات إنسان، بأيّ شكل من الاشكال، وهو في حالة الخطيئة المميتة، من غير توبةٍ ولا تكفير، إن هو كان قادراً على التكفير، ولم يكفّر، فيخطف إبليس نفسه من جسده، بكثيرٍ من الضيق والشّدة، لا يستطيع معرفة مدى هولهما سوى من يكابدهما… ويلتهم الدّود الجسد، ويفقدون، هكذا، الجسد والنّفس، في هذا الدّهر القصير الأمد، ويذهبون الى جهنّم، حيث يعذّبون الى ما لا نهاية.”
علّ الله، من خلال هذا الحدث الواقعي، الحقيقي، التاريخي، الذي نال كافة الأذونات الكنسية لنشره (وقد وضع بالطبع إسمين رمزيين للفتاة التي هلكت في جهنّم” آنيت” ولصديقتها “كلارا”، محافظة على شعور أقاربهما وبحسب الأصول المتّبعة)، يساعدنا على تبديل سيرة حياتنا، والإلتجاء الى رحمة الله من خلال سرّ التوبة بصدق، وحفظ وصايا الله وعيش الأسرار باحترام وخشوع وإيمان، ملتجئين الى والدة الإله وأمنا العذراء مريم الكلية القداسة من خلال التكرّس لقلبها الطاهر وصلاة ورديتها، والى القديس يوسف خطيبها وجميع الملائكة والقديسين، طالبين شفاعتهم، ذاكرين بأنّ أقوالاً عديدةً من الكتب المقدّسة ك “لم تجاهدوا بعد حتّى الدمّ في وجه الخطيئة” (عبرانيين…) و “البارّ بالكاد يخلص” ليسوا سوى صدى لقول الربّ يسوع نفسه “ضيق وكرب هو الطريق المؤدي الى الخلاص، وقليلون يجدونه، وواسع ورحب الطريق المؤدي الى الهلاك، وكثيرون يسلكونه.” (متى: 7/13).
جمعيّة “جنود مريم”
آنيت وكلارا (شهادة من الجحيم)
إنّ الحدث المعروض هنا هو ذات أهميّة فائقة العادة. النسخة الأصليّة موجودة في اللغة الألمانيّة، وقد تمّت ترجمتها ونشرها في لغات أخرى.
أعطت النيابة العامّة في روما الإذن في طبعها ونشرها. و”اللامانع من طبعه” Urbe يضمن صحّة الترجمة من اللغة الألمانيّة، كما جديّة هذا الحدث المريع.
إنّها صفحات سريعة ومرعبة، تخبر عن نمط حياة، يعيشه الكثيرون في مجتمعنا المعاصر. إنّ رحمة الله، بسماحها في حدوث ما نرويه، في ما يلي، ترفع الستار عن السرّ الأكثر هولاً ورعباً والذي ينتظرنا في نهاية حياتنا.
هل ستعرف النفوس كيف تستفيد من ذلك؟
كلارا وآنيت هما شابّتان يافعتان كانتا تعملان سويّاً في إحدى الشركات التجاريّة *** في المانيا. لم تكن تربطهما صداقة عميقة جداً، بل احترام وتقدير اجتماعيّ سليم وبسيط. كانتا تعملان يوميّاً الواحدة الى جانب الأخرى، فلم يكن من الممكن إلا أن تتجاذبا أطراف الحديث من حين الى آخر. كانت كلارا تعلن جهاراً تديّنها وكانت تشعر بواجب تثقيف آنيت وتوعيتها، لكون هذه الأخيرة تظهر السطحيّة واللامبالاة نحو الدين.
أمضيتا بعض الوقت سويّاً، ثم تزوّجت آنيت وابتعدت عن تلك الشركة. وفي خريف سنة 1937، بينما كانت كلارا تمضي فرصتها السنويّة على ضفاف بحيرة “غارذا”، قرابة منتصف أيلول، أرسلت إليها أمّها رسالة تقول فيها: “لقد ماتت آنيت… ذهبت ضحيّة حادث سير، ودفنوها الأمس في “والدفريدهوف”.
أرعب هذا الخبر الصبيّة الصالحة، لكونها تدري أنّ صديقتها لم تكن متديّنة بما فيه الكفاية. هل كانت حاضرة للمثول أمام الله…؟ كيف كانت حالة نفسها يا ترى وقد ماتت فجأة على هذا النحو…؟
فشاركت في اليوم التالي في القداس الإلهيّ، وتقدّمت من المناولة المقدّسة على نيّتها ولراحة نفسها، مصلية بحرارة. وفي الليلة التالية، وتماماً بعد عشر دقائق من منتصف الليل، حصلت هذه الرؤيا…
كلارا، لقد هلكت!
“كلارا، لا تصلّي من أجلي! لقد هلكت. وإن كنت أعلمك بهذا الأمر وأخبرك مطوّلاً عنه، فلا تعتقدي بأنّ ذلك يتمّ من أجل صداقتنا. فنحن هنا لم نعد نكنّ المحبّة لأحد. بل أفعل ذلك لكوني ملزمة على ذلك. أفعل ذلك ك “جزء من تلك القدرة التي تريد دائماً الشرّ وتصنع الخير”.
في الحقيقة، أتمنّى لو أراك أنت أيضاً تنتهين الى حالتي هذه، حيث ألقيت مرساتي الى الأبد.
لا تتضايقي بسبب نيّتي هذه. هنا نفكّر كلّنا على هذا النحو. فإنّ إرادتنا تجمّدت في الشرّ كالصّوان – فيما تدعونه أنتم “شرّاً” -. وحتّى عندما نقوم نحن بشيء ما “صالح”، كما أفعل أنا الآن فاتحة عينيك على حقيقة جهنّم، فهذا لا يتمّ بنيّة صالحة.
ألا تزالين تذكرين كيف تعرّفنا، منذ أربع سنوات، في ***؟ كان عمرك حينئذ ثلاث وعشرين سنة، وكنت تعملين هناك قبل ستّة أشهر من وصولي.
لقد خلّصتني من بعض المآزق، وكما مع مبتدئة جديدة، أعطيتني توجيهات صالحة. لكن ما معنى “صالح”؟
كنت أمدح، آنذاك، “حبّك للقريب”. يا للسخافة! إنّ معونتك كانت نابعة من حبّ الكلام فقط، كما كنت أحسب منذ ذلك الحين. نحن هنا لا نعرف شيئاً صالحاً، لدى أيّ كان.
يا ليتني لم آتِ الى الوجود
زمن صبايا، تعرفينه. لكنّني سأملأ هنا بعض الفراغ. فحسب مخطّط أهلي، في الحقيقة، لم يكن عليّ حتّى أن أتواجد. حصلت لهما مصيبة، فقد كانت أختاي في سنّ ال 14 وال 15 عاماًً، عندما ظهرت للنور.
يا ليتني لم آت للوجود أبداً! لو باستطاعتي الآن أن أتلاشى وأهرب من كل هذا العذاب! ما من لذّة تعادل فرح إمكان التخلّي عن وجودي، كما يضيع لباس من رماد في العدم.
لكن عليّ أن أتواجد. يجب أن أتواجد على النحو الذي صنعته أنا بنفسي: وجود فاشل.
عندما انتقل أبي وأمي، وهما بعد يافعان، من الريف الى المدينة، كانا فقدا كليهما أيّة صلة بالكنيسة، وكان هذا أفضل. تصادقا مع أناس غير مرتبطين بالكنيسة.
تعارفا في لقاء رقص، وبعد ذلك بنصف سنة، كانا مرغمين على الزواج (كانت أمّها حاملاً مسبقاً).
في حفل الزواج، بقيت كميّة من المياه المصلاّة عليها عالقة عليهما، بحيث أن أمّي كانت تذهب الى الكنيسة من أجل حضور قداس الأحد مرّتين أو ثلاث مرّات في السنة. لم تعلّمني يوماً أن أصلّي حقاً. كانت تتفانى في الاهتمام في شؤون الحياة اليوميّة، رغم أن وضعنا الاجتماعيّ لم يكن سيّئاً.
كره من في جهنّم لله والبشر
كلمات مثل: “القدّاس”، “التعليم الدينيّ”، “الصلاة”، “الكنيسة”، أتلفّظ بها باشمئزاز داخليّ لا مثيل له. أشمئزّ من كل شيء، كما أنّني، أبغض كل الذين يذهبون الى الكنيسة، وفي الإجمال جميع البشر وكل الأشياء.
فكلّ شيء، بالفعل، يسبّب لنا العناء. كلّ معرفة حصلنا عليها لحظة الموت، وكلّ ذكرى لأمور عشناها وعرفناها، هي كنار محرقة بالنسبة إلينا. كلّ الذكريات تظهر لنا الجانب الذي فيها، كان “نعمة”، وقد احتقرناه نحن. كم يسبّب ذلك لنا عذاباً! نحن لا نأكل، لا ننام، لا نسير على الأقدام، مسجونين روحيّاً، ننظر كالمدووخين “بصراخ وصريف أسنان” الى حياتنا التي ذهبت هدراً، كارهين ومتألّمين!
أتسمعين؟ إنّنا هنا نشرب الكراهيّة مثل الماء، حتّى يشعر بها الواحد تجاه الآخر. ونحن نكره الله فوق كلّ شيء. أريد أن أجعل ذلك مفهوماً بالنسبة إليك. على الطوباويّين في السماء أن يحبّوه، لأنّهم يرونه من دون حجاب، في بهائه المذهل. وذلك يجعلهم طوباويّين، لدرجة لا يمكن وصفها. نحن نعرف ذلك، وهذه المعرفة تجعلنا نستشيط غيظاً.
إنّ البشر على الأرض، الذين يعرفون الله من خلال الخلق ومن خلال الوحي، يستطيعون أن يحبّوه، لكنّهم ليسوا ملزمين على ذلك. إنّ المؤمن – أقول ذلك صارفة أسناني – الذي يتأمّل، وهو يتحضّر للموت، المسيح المصلوب، وذراعيه المفتوحتين، سيتوصّل الى أن يحبّه.
أمّا ذاك الذي يقترب منه الله فقط في الإعصار، كمعاقب، كمن يثأر بحقّ وعدل لأنّه رفض يوماً ونبذ من هذا الأخير، كما حصل معنا، فلا يستطيع سوى أن يكرهه، بكلّ قوّة إرادته الشرّيرة الى الأبد، بقوّة القبول الاختياري الحرّ بكائنات انفصلت عن الله. إنّه تصميم. لفظنا روحنا لحظة موتنا ونحن معتنقينه، ولا نتراجع عنه حتّى الآن، ولن نملك أبداً الإرادة للعدول عنه.
أفهمت الآن لماذا تدوم جهنّم الى الأبد؟ لأنّ عنادنا لن ينفصل بتاتاً وأبداً عنّا.
رحمة الله
ملزمة بذلك، أضيف أنّ الله هو رحوم حتى نحونا نحن. وأقول ذلك “ملزمة”. لأنّني حتّى ولو أقول هذه الأمور بإرادتي، ليس مسموحاً لي أن أكذب، كما كنت لأرغب فعله بطيبة خاطر. فأمور عدّة أؤكّدها بالرغم من إرادتي، فحتّى الكلام البزيء الذي أرغب في التفوّه به، عليّ أن أخنقه وأحبسه.
كان الله رحوماً تجاهنا، حيث أنّه لم يسمح لإرادتنا الشرّيرة أن تأخذ مداها أكثر على الأرض، كما كنّا مستعدّين. كان ذلك ليزيد من خطايانا، وبالتالي من عذابنا، فهو جعلنا نموت قبل الأوان، كما هي الحال معي، أو جعل ظروفاً أخرى تتدخّل وتخفّف من وطأة الأمور.
والآن يظهر نفسه رحوماً معنا أيضاً، من خلال عدم إلزامه إيّانا بالإقتراب منه أكثر ممّا نحن عليه في هذا الموقع الجهنّمي البعيد. فذلك يخفّف العذاب، حيث أنّ كلّ خطوة تقرّبني أكثر من الله كانت ستسبّب عقاباً أسوأ وأكثر ألماً ممّا ستسبّبه لك خطوة تقرّبك من آتون نار مستعرة.
المناولة الأولى
ارتعبت عندما أخبرتك، ذات يوم، بينما كنّا نمشي سويّاً، أنّ أبي قال لي قبل أيام من مناولتي الأولى: “يا ابنتي حنّة، حاولي أن تحصلي على ثوب جميل للمناولة الأولى، أمّا كلّ ما تبقّى فهو مسرحيّة”.
بسبب ردّة فعلك المرتعبة، توصّلت حتّى الى أن أخجل. أمّا الآن فأسخر من ذلك. الأمر الوحيد المعقول في تلك “المسرحيّة” هو أنّه كان يتمّ قبولنا الى المناولة الأولى فقط في سنّ الثانية عشرة. كنت حينها مأخوذة بما فيه الكفاية بالتسلية والترفيه، حيث أنّني، ومن دون وجع ضمير، كنت أضع جانباً الأمور الدينيّة ولم أعط أهميّة كبيرة للمناولة الأولى.
أمّا ذهاب الأطفال اليوم الى المناولة الأولى في سنّ السابعة، فيجعلنا نستشيط غيظاً. نفعل ما بوسعنا لجعل الناس يعتقدون أنّ الأطفال لا يملكون الوعي الكافي لما يقومون به. فيجب عليهم قبل ذلك، بالنسبة إلينا، أنّ يرتكبوا بعض الأخطاء المميتة. حينئذٍ، لا تعود تلك القربانة البيضاء الصغيرة تسبّب لهم ضرراً كبيراً، كما يكون الأمر حين لا يزال الإيمان والرجاء والمحبّة في قلوبهم – تفوه! هذا الشيء الذي نناله أثناء المعموديّة. ألا تزالين تذكرين كيف أنّني بدأت أدافع عن هذه الآراء وأنا على الأرض؟
موت أبيها
لقد تطرّقت فليلاً الى أبي. كان مراراً في صدام مع أمّي، وكنت نادراً ما ألمّح لك بذلك، إذ كنت أخجل منه. الخجل من الشرّ شيء سخيف! كلّ شيء سيّان بالنسبة إلينا هنا.
لم يكن والداي ينامان سويّاً حينها في غرفة واحدة، بل كنت أنام أنا مع أمي، بينما كان أبي ينام في الغرفة المجاورة، حيث يستطيع العودة الى البيت عندما يشاء وبحريّة. كان يشرب كثيراً، ويبذّر بالتالي رأسمالنا شيئاً فشيئاً. كانت أختاي موظّفتين، وكانتا محتاجتين، بحسب قولهما، الى المال الذي تكسبانه، فبدأت أمّي تعمل لتكسب بعض المال.
وفي السنة الأخيرة من حياته، كان أبي يضرب أمّي مراراً، عندما لم تكن تريد إعطاءه شيئاً. أمّا تجاهي، فكان محبّاً دائماً. وفي أحد الأيام – وقد أخبرتك بذلك، وأنت حينذاك تشكّيت من نزواتي (وما الذي لم يشكك من قبلي؟) – فقد اضطرّ في أحد الأيام أن يعيد، مرّتين، الاسكربينة التي اشتراها لي، لأنّ شكلها وكعبها لم يكونا على الموضة بالنسبة إليّ.
في الليلة التي أصيب فيها أبي بجلطة مميتة، حدث أمر لم أستطع يوماً أن أخبرك به، خوفاً من أن تفسّريه تفسيراً لا يروق لي. لكن يجب أن تعرفيه الآن. إنّه مهمّ للسبب التالي: للمرّة الأولى وقتها، انتابتني الروح المعذّبة التي أحيا برفقتها اليوم.
كنت أنام في الغرفة مع أمي، وكان تنفّسها المنتظم علامة لنومها العميق. فجأة سمعت أحداً يناديني باسمي، صوتاً لا أعرفه، يقول لي: “ماذا يحدث إن مات أبوك”؟
لم أعد أحبّ أبي حينها، لكونه كان يعامل أمّي بهكذا قساوة، كما لم أعد أحبّ منذ ذلك الحين أحداً، لكنّني كنت متعلّقة فقط ببضعة أشخاص كانوا صالحين تجاهي. أمّا المحبّة من دون رجاء نيل المقابل أرضيّاً، فتحيا فقط في الأنفس التي في حال النعمة. لكنّني لم أكن كذلك.
فأجبت عن ذلك السؤال الغامض على النحو التالي، من دون أن أشغل بالي حول مصدره: “لكنّه لن يموت الآن”!.
بعد وقفة وجيزة، دوّى من جديد السؤال عينه، مسموعاً بوضوح. “لكنّه لن يموت الآن” هو ما خرج من فمي مرّة أخرى، بغلاظة.
وللمرّة الثالثة، سئلت من جديد: “ماذا سيحدث لو مات أبوك”؟ فبادر الى ذهني كيف كان أبي يأتي مراراً الى البيت شبه سكران، فيعامل أمّي بعنف، وكيف وضعنا في حالة مذلّة أمام الناس. لذا صرخت بانزعاج: “ذلك خير له”!
حينئذ صمت كلّ شيء.
وفي صباح اليوم التالي، عندما أرادت أمي ترتيب غرفة أبي، وجدت الباب مقفلاً بالمفتاح. حوالي منتصف النهار، تمّ فتح الباب بالقوّة، فوجد أبي، وهو نصف عريان، ملقى على الفراش جثّة هامدة. فلدى ذهابه لشراء البيرا، لا بدّ أنّه تعرّض لحادث ما، فهو كان مريضاً بعض الشيء منذ وقت طويل.(*)
(*) إضافة: هل ربط الله خلاص الأب بفعل صالح من قبل ابنته، لكونه كان دائماً محبّاً معها؟ فكم كبيرة مسؤوليّة كلّ منّا، عندما ندع فرص صنع الخير مع الآخرين تذهب سدى!
أهميّة الصلاة
مارتا ك… وأنت، دفعتما بي الى الانتساب الى “جمعيّة الشبيبة”. في الحقيقة، لم أخفِ يوماً، أنّني كنت أجد توجيهات مرشداتك، تتماشى نوعاً ما مع الموضة. أمّا رعويّاً فالألعاب كانت مسليّة، وأخذت فوراً دوراً قياديّاً فيها، فكما تعلمين، كان ذلك يناسبني جدّاً. الرحلات أيضاً كانت تعجبني، حتّى أنّني سمحت بعض المرات لنفسي بالاعتراف والمناولة. في الحقيقة، لم يكن لديّ شيء أعترف به. لم أكن أعتبر الأفكار والأحاديث ذات أهميّة. أمّا بالنسبة للأفعال الأكثر شناعة، فلم أكن حينها فاسدة بما فيه الكفاية للقيام بها.
أنّبتني مرّة بقولك: “يا حنّة، إذا لن تصلّي، ستذهبين الى الهلاك”! كنت فعلاً أصلّي قليلاً ولكنّ من دون رغبة.
للأسف، كنت على حقّ أنذاك، فكلّ الذين يحترقون في الجحيم، لم يصلّوا، أو لم يصلّوا بما فيه الكفاية. فالصلاة هي الخطوة الأولى نحو الله، وتبقى الخطوة الحاسمة، خصوصاً الصلاة لمن كانت أمّ المسيح، والتي لا نلفظ اسمها هنا. فالتعبّد لها ينتزع من أيدي الشيطان نفوساً لا تحصى، كانت الخطيئة تمكّنه من إمساكها بين يديه.
اتابع التكلّم وأنا أستشيط غيظاً، فقط لأنّني ملزمة بذلك. الصلاة هي أسهل عمل يستطيع الإنسان القيام به على الأرض. وبهذا الأمر السهل جدّاً، ربط الله خلاص كلّ امرىء… فهو يمنح شيئاً فشيئاً أنواراً كثيرة، لمن يواظب على الصلاة، ويقوّيه بحيث أنّه، في النهاية، حتّى ولو كان أكثر الخطأة تصلّباً، يستطيع أن يعود ويقف بثبات، حتى ولو كان غارقاً في الوحل حتّى عنقه.
في السنوات الأخيرة من حياتي، لم أعد أصلّي فروضاً أو واجبات، وهكذا حرمت ذاتي من النعم التي من دونها، لا يستطيع أحد تخليص نفسه.
خطورة تأجيل التوبة الى اللحظة الأخيرة وحماقته
هنا، لا نعود نحصل على أيّة نعمة، بل حتّى ولو فرض علينا نيلها، لرفضناها بلؤم.
كلّ “تقلّبات” الحياة الأرضية (أيّ إمكان تبديل القرارات) انتهت في الحياة الأخرى.
لديكم، على الأرض، يستطيع الإنسان أن يرتفع من حالة الخطيئة الى حالة النعمة، ومن النعمة الى السقوط في الخطيئة، مراراً عن ضعف، وأحياناً عن خبث.
مع الموت، تنتهي هذه التقلّبات، لأنّ جذورها متواجدة في حالة عدم استقرار الإنسان على الأرض. فنحن الآن بلغنا حالتنا النهائيّة واستقرّينا فيها.
تصبح التقلّبات نادرة مع التقدّم في السنّ. من الصحيح، أنّ بمقدور الإنسان العودة الى الله أو الابتعاد عنه قبل الموت، لكن مع ذلك، فإنّ الذي تعوّد على أمر ما غالباً ما يرى نفسه، حتّى عند الموت، مقاداً بالعادة التي كان عليها أثناء حياته. فالعادة تصبح طبيعة ثانية، أصالحة كانت أم لا، وهي تجرّه معها.
هذا ما حصل لي أيضاً، إذ كنت أعيش منذ سنوات بعيدة عن الله. ولهذا السبب، عندما نادتني النعمة نداءها الأخير، صمّمت ألاّ أختار الله.
ليس كوني كنت أسقط غالباً في الخطيئة، ما حتّم عليّ الهلاك، إنّما كوني لم أشأ النهوض. كم من مرّة، نصحتني بالذهاب الى الاستماع للوعظ ولقراءة كتب تقويّة، فكان جوابي المعتاد: “ليس لديّ الوقت”. وهذا ما كان يزيد من ضياعي الداخليّ.
ثمّ، عليّ أن ألاحظ الأمر التالي: بما أنّ وضعي كان بلغ حدّاً متقدّماً من الضياع، قبل خروجي بقليل من “جمعيّة الشبيبة”، كان من الشاقّ جدّاً عليّ تبديل خطّ سيرتي. صحيح أنّني كنت أشعر بعدم الأمان والتعاسة، لكن كان هناك جدار يقف بيني وبين التوبة.
وجود الشيطان وتأثيره
لا أعتقد أنّك كنت تشعرين بدقّة حالتي. كنت تتصوّرين أن الأمور بسيطة عندما قلت لي في أحد الأيام: “قومي باعتراف جيّد يا حنّة، وكلّ شيء سيكون على ما يرام”.
رغم أنّني كنت أشعر بأنّ الأمر صحيح حسب قولك، فإنّ العالم، الشيطان والجسد باتوا حينها يمسكونني بشكل حازم للغاية في قبضتهم. لم أكن أؤمن أبداّ بتأثير الشيطان. أمّا الآن، فأشهد أنّه يؤثّر بشكل قوّي جدّاً على الأشخاص الذين يتواجدون في الحالة التي كنت أتواجد أنا فيها آنذاك.
كان بإمكان صلوات كثيرة من الآخرين ومنّي، مصحوبة بإماتات وعذابات، انتزاعي منه. وحتّى ذلك، كان سيتمّ شيئاً فشيئاً فقط. إن كان الشيطان يمتلك القلائل من الخارج، فإنّ عدد الذين يسيطر عليهم داخليّاً، لا يحصى. لا يستطيع الشيطان أن يخطف حريّة الإرادة لمن هم تحت تأثيره. لكنّ نتيجة ابتعادهم وجحودهم التدريجيّ، ولو البطيء، عن الله، يسمح ل “الشيطان”، كعقاب، أن يعشعش فيهم.
إنّني أكره الشيطان أيضاً، ومع ذلك فهو يعجبني، لأنّه يبحث عن إهلاككم أنتم أيضاً. إنّهم ملايين، هو وعملاؤه، الأرواح التي سقطت معه في بدء الزمن، يطوفون الأرض مثل أسراب الذباب، وأنتم لا تلاحظون ذلك بتاتاً.
لا يعود علينا نحن الساقطون أن نجرّبكم، فهذه وظيفة الأرواح الساقطة. في الحقيقة، كلّ مرّة يتمكّنون من استدراج أنفس بشريّة الى جهنّم، فذلك يزيد عذابهم أكثر. لكن ما الذي ليس مستعدّاً الحقد القيام به؟
كيف تخنق روح العالم وحبّ الملذّات نعمة الله فينا؟
رغم أنّني كنت أسير في دروب بعيدة عن الله، فالله كان يتبعني.
كنت أهيء الطريق للنعمة بأفعال رحمة طبيعيّة، كنت أقوم بها من حين الى آخر بموجب ميل في طبعي.
فكان الله يجتذبني حيناً الى الكنيسة، وكنت أشعر آنذاك بالحنين. وعندما كنت أهتمّ بأمّي المريضة، رغم عملي في المكتب نهاراً، وكنت عندها أضحّي بذاتي حقّاً، كانت حينها تأثيرات الله تعمل فيّ بقوّة.
ذات مرّة، في كنيسة المستشفى حيث اقتدتني خلال استراحة منتصف النهار، شعرت بشيء ما يصيبني، بحيث كنت على قاب قوسين من توبتي، فبكيت!
لكنّ أفراح العالم كانت تعود وتمرّ كالنهر الجارف فوق النعمة، وكانت حبّة القمح تفطس وسط الأشواك. ومع التصريح أنّ الديانة هي بحسب ذوق كلّ فرد ورأيه، كما كانوا يردّدون دائماً في المكتب، أغلقت الباب في وجه نداء النعمة، كما النداءات الأخرى كلّها.
قمت بتأنيبي إحدى المرّات، لأنّني بدلاً من إحناء الركبة حتّى الأرض، قمت بالكاد بانحناء ملتوي، طاوية ركبتي قليلاً، واعتبرت ذلك كسلاً. لم يكن يبدو عليك ظلّ الشك في كوني لم أعد أؤمن منذ ذلك الحين بحضور المسيح في سرّ القربان. الآن أؤمن، لكن فقط بشكل طبيعيّ، كما نعتقد بوجود عاصفة لكوننا نلاحظ وقائعها ونتائجها.
محاولات إسكات الضمير
حينئذ، كنت قد اخترعت ديانة على ذوقي، بحسب ما يناسبني. كنت أدافع عن الرأي الذي كان سائداً في المكتب عندنا، أنّ النفس تعود بعد الموت وتعيش في كائن آخر، وتتابع هكذا تجوالها من دون نهاية. وبذلك، كنت أدع جانباً السؤال المزعج: “ماذا هنالك بعد الموت”؟ فلا يعود يزعجني.
فلماذا لم تعودي تذكريني مثل الغنيّ ولعازر الفقير؟ حيث المسيح، مخبرها، يرسل فوراً بعد الموت أحدهم الى جهنّم والآخر الى الفردوس؟ لكن، ماذا كنت ستنالين؟ لا شيء أكثر ممّا نلته في أحاديثك التافهة الأخرى!
فخلقت بنفسي شيئاً فشيئاً إلهاً، لديه ما يكفي لأدعوه إلهاً، بعيداً منّي لدرجة لا نضطرّ الى إقامة علاقة معه، مبهماً بما فيه الكفاية بحيث لا نضطرّ عند الحاجة، الى تبديل ديانتنا… لم يكن لهذا الإله أيّ فردوس يقدمّه لي، ولا أيّة جهنّم يعاقبني من خلالها. كنت أدعه بسلام، وهذا ما كانت تقتصر عليه عبادتي له.
سهل الإيمان بما يطيب لنا. على مرّ السنوات، جعلت نفسي مقتنعة بما فيه الكفاية بديانتي هذه، وبهذه الطريقة كنت أستطيع العيش.
قيمة الألم الخلاصيّة
كان بإمكان شيء واحد فقط كسر عنادي وصلابتي: ألم طويل وعميق. لكنّ هذا الألم لم أشعر به!
أتفهمين الآن ما معنى قول الكتاب المقدّس: “إنّ الله يعاقب الذين يحبّهم”؟
التعلّقات ومحبّة الجنس الآخر البشريّة: ماكس
في يوم أحد من شهر تموز، نظّمت “جمعية الشبيبة” رحلة الى ***. كان الانضمام الى الرحلة يطيب لي، لكنّ الأحاديث التقويّة التافهة، وما يشبهها، جعلتني أعدل عن الأمر.
إضافة الى ذلك، كان هنالك شخص يختلف كثيراً عن شخص عذراء*** (التي كانوا ذاهبين لزيارتها) احتلّ مذابح قلبي منذ فترة. إنّه “ماكس ن” الجذّاب… الذي يعمل في المتجر الملاصق لنا. كنا منذ فترة تبادلنا المزاح بضعة مرّات.
وكان دعاني الى القيام بنزهة في الأحد نفسه الذي تقام فيه الرحلة. فالفتاة التي كان يخرج معها كانت مريضة في المستشفى.
كان فهم جيّداً أنّه يعجبني. لم أكن أفكّر حينها بعد بالزواج منه. كان ميسوراً، لكنّه كان يتصرّف بكثير من اللباقة مع الفتيات كافّة. وحينها، كنت أبغي رجلاً يكون ملكاً لي وحدي. إن كان عليّ أن أكون زوجة، فيجب أن أكون الوحيدة. كنت أملك منذ البدء شعوراً طبيعيّاً بالاحترام وعزّة النفس.
وكان ماكس خلال تلك النزهة لبق التصرّف وكثير اللطف. ومع ذلك، لم تكن أحاديثنا رهبانيّة، كما تفعلن أنتنّ!
في اليوم التالي وفي المكتب، عاتبتني لأنّني لم آتِ معكنّ الى ***. فشرحت لك عن تسليتي ذلك الأحد.
أهميّة القداس الإلهيّ يوم الأحد
كان أوّل سؤال لك: “هل ذهبت الى القدّاس؟ فأجبتك: “يا للهبلاء المسكينة”! كيف كان باستطاعتي ذلك والنزهة بدأت عند الساعة السادسة صباحاً؟! وأنت تعلمين كيف أضفت أيضاً، وأنا مضطربة: “إنّ الله لا يملك عقليّة محدودة كعقليّة كهنتكم التافهين”!
أمّا الآن فعليّ أنّ أقرّ بأنّ الله، رغم صلاحه اللامتناهي يزن الأمور بدقّة تفوق دقّة جميع الكهنة سويّاً.
حبّ العالم والأفكار الشيطانيّة
بعد هذه الرحلة الأولى مع ماكس، أتيت مرّة واحدة فقط الى الجمعيّة، في عيد الميلاد، للاحتفال بالعيد. كان شيء ما يغريني الى العودة، لكن داخليّاً، كنت ابتعدت عنكنّ، وكانت السينما والرقص والنزهات تتتالى تباعاً. حدثت بين ماكس وبيني بعض الخلافات والمشادّات، لكنّني كنت أعرف دائماً كيف أعلّقه بي من جديد.
كم كنت أنزعج من حبيبته الأخرى التي فور خروجها من المستشفى، تصرّفت كالمهووسة، وكان ذلك لصالحي حقّاً، لأنّ هدوئي النبيل أثّر تأثيراً قويّاً في ماكس، الذي توصّل الى أخذ القرار بانتقائي أنا كالمفضّلة لديه.
كنت عرفت كيف أجعله يكرهها، متكلّمة ببرودة إيجابيّة خارجيّاً، نافثة السمّ داخليّاً. إنّ هذه المشاعر والتصرّفات تهيّء في شكل ممتاز الطريق الى جهنّم. إنّها استراتيجيّات شيطانيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. لماذا أخبرك هذه الأمور؟ لكي أعلمك كيف انفصلت كليّاً عن الله.
تأليه الإنسان الذي نحبّ يؤدّي الى الجحود تجاه الله
مع ذلك لم أكن قد وصلت، في علاقتي مع ماكس، الى الاستسلام كليّاً، لأنّني كنت أعلم أنّ مقامي سيضحي أقلّ أهميّة أمام عينيه، لو سمحت له بكلّ شيء، قبل أوانه. لذا عرفت كيف أمتنع وأضبط نفسي.
لكن، في العمق، كنت مستعدّة للقيام بكلّ شيء في كلّ مرّة كنت أعتبر ذلك ضروريّاً. كان يتوجّب عليّ أن أحصل على ماكس، وكنت أعتبر أنّ لا شيء باهظ الثمن من أجل بلوغ تلك الغاية. كما أنّنا بدأنا نحبّ بعضنا البعض شيئاً فشيئاً، لأنّ كلّ منّا كان يمتلك مزايا كثيرة، تجعلنا نقدّر الواحد الآخر. كنت شاطرة، قديرة، عذبة الرفقة، فأمسكت بماكس بشكل متين، وتمكّنت، أقلّه في الأشهر الأخيرة قبل الزواج، أن أضحي الوحيدة في حياته وأن أمتلكه.
وعلى هذا، قام جحودي تجاه الله، فقد رفعت خليقة الى مستوى صنم عبادة. فما من أمر يستطيع أن يؤدّي الى هذه الحالة، بحيث تطال كامل الإنسان، أكثر من الوقوع في غرام شخص من الجنس الآخر، عندما يبقى هذا الحبّ مقتصراً على الإشباعات الأرضيّة. فهذا ما يشكّل الجاذب، المحرّض والسمّ. ف “العبادة” التي اعتنقتها نحو شخص ماكس أضحت بالنسبة إليّ ديانة معاشة.
الجحود تجاه الله يؤدّي الى التهجّم عليه والثورة على كنيسته
كانت تلك الفترة تتزامن مع تهجّمي الشرس، في المكتب، على الذين يكثرون التردّد الى الكنيسة، والكهنة والغفرانات، وترداد صلاة الورديّة وتفاهات مماثلة.
أمّا أنت فحاولت، بنوع من العناد والثبات، أن تدافعي عن تلك الأمور، وذلك ظاهريّاً. من دون أن تشكّي أنّه، في عمق أعماقي، لم يكن الأمر يتعلّق في الحقيقة بهذه الأمور، بل كنت في الأحرى، أبحث عن سند يريح ضميري – كنت لا أزال حينها في حاجة لهكذا سند – لكي أبرّر بالعقل أيضاً جحودي هذا.
أمّا في عمق أعماقي، فكنت أثور في وجه الله. لم تكوني تدركين ذلك، لم تفهميه، كنت لا تزالين تعتبرينني كاثوليكيّة. لا بل كنت أريد أن أدعى كذلك، كنت لا أزال أدفع الضرائب الكنسيّة، كنوع من “بوليصة تأمين”، وكنت أعتقد أنّه ما من ضرر في ذلك.
ربّما كانت أجوبتك أحياناً تصيب في الصميم، ومع ذلك، لم تكن تؤثّر فيّ كثيراّ، لأنّه كان يجب ألاّ يكون معك حق.
وبسبب هذه العلاقة الهشّة بيننا، لم يكن ألم افتراقنا الواحدة عن الأخرى ذات شأن كبير بالنسبة إليّ، وذلك عندما افترقنا بسبب زواجي.
هتك الأقداس وما يسبّبه من موت للضمير
قبل الزواج، تقدّمت من سرّي الاعتراف والمناولة مرّة أخرى، لأنّه كان مفروض القيام بذلك. كنت وزوجي نملك وجهة النظر نفسها حول هذا الموضوع، لماذا لا يتوجّب علينا تتميم هذه المسألة الشكليّة؟ فأتممناها كإتمامنا كلّ الأمور الشكليّة الأخرى.
أنتم تسمّون هكذا مناولة، مناولة على خلاف الاستحقاق. فاعلمي أنّه، بعد تلك المناولة “على خلاف الاستحقاق”، أضحى ضميري أكثر ارتياحاً (وتحديداً، مات صوته أكثر). وكانت تلك، آخر مناولة في حياتي.
حبّ العالم ورغد العيش
أمّا حياتنا الزوجيّة، فكانت في الإجمال، متناغمة الى حدّ كبير. كنّا نتشاطر وجهات النظر في مختلف الأمور، حتّى في الأمر التالي: لم نكن نريد أن نلقي على أكتافنا الحمل الثقيل، حمل الحصول على أولاد. في العمق، كان زوجي ليرغب في الحصول على ولد واحد، لا أكثر بالتأكيد، لكنّني عرفت مع الوقت أن أبدّل رأيه في هذا الشأن.
اللباس، الأثاث الفاخر، اللقاءات في المقاهي والمطاعم، الرحلات، الأسفار في السيّارات وغيرها، كانت أكثر ما يهمّني.
كانت سنة لذّة تلك التي عشتها بعد زواجي وقبل موتي المفاجىء. كنّا نذهب في نزهة في السيّارة كلّ يوم أحد، أو نقوم بزيارات لأهل زوجي وعائلته. أمّا أمي فكنت أخجل بها حينها. وكان أهله يعيشون حياة سطحيّة، مثلنا تماماً.
أمّا داخليّاً، فمن المؤكّد أنّني لم أشعر أبداّ بالسعادة، رغم أنّني كنت أضحك كثيراً خارجيّاً. كان هنالك شيء ما دائماً في داخلي، يصعب تحديده، يعذّبني ويتآكلني. كنت أرغب أن ينتهي ذلك بعد الموت، الذي كان من المفترض أن يكون بعيداً جدّاً.
إنّ الأمر هو حقّاً كما سمعت يوماً، وأنا طفلة، في إحدى الوعظات، وهو أنّ الله يكافىء كلّ عمل خير يقوم به الإنسان، وعندما لا يستطيع مكافأته في الحياة الأخرى، يقوم بذلك على الأرض.
فحصلت في شكل غير منتظر على إرث من إحدى عمّاتي. ونجح زوجي في رفع راتبه الشهريّ الى مبلغ جيّد للغاية، فتمكّنت بذلك أن أفرش بيتنا الجديد بشكل جذّاب جدّاً.
الابتعاد عن الله أكثر وخنق صوت الضمير أكثر
لم تعد الديانة توصل أضواءها سوى من بعيد، باهتة، ضعيفة وغير أكيدة.
لم تكن مقاهي المدينة والفنادق التي كنّا نتردّد إليها، أثناء أسفارنا، تحملنا بالتأكيد نحو الله. فكلّ الذين كانوا يتردّدون الى تلك الأماكن كانوا يعيشون مثلنا، حياة سطحيّة من الخارج الى الداخل، لا من الداخل الى الخارج.
وإن كنّا، خلال أسفار العطلة، نزور كنيسةً ما، كنّا نبحث عن الترفيه عن ذواتنا بالتأمّل في الأعمال الفنيّة فيها. أمّا الطابع الدينيّ الذي كانت تعطيه، وخصوصاً كنائس القرون الوسطى، فكنت أعرف كيف أجعله عديم التأثير من خلال انتقاداتي للكنيسة: راهب ذات منظر غريب، لباس غير نظيف، يكثر الكلام علينا، الرهبان الذين يريدون الظهور مظهر التقوى، يبيعون المشروبات الروحيّة، التهافت على المراسيم المقدّسة بينما الأمر ليس سوى قضيّة مكسب ماليّ…
حقيقة وجود جهنّم ونارها وعذابها
عرفت بذلك كيف أطرد دائماً النعمة كلّما أتت تقرع بابي، وكنت أفسح المجال لطبعي السيء في التهجّم، خصوصاً على بعض اللوحات العائدة الى القرون الوسطى المصوّرة لجهنّم، في المقابر أو مواقع أخرى، حيث نرى الشيطان يشوي النفوس على فحم مستعر ونيران، بينما يجرّ إليه رفاقه ذوو الأذناب الطويلة نفوساً جديدة أخرى.
كلارا! أقول لك الآن أنّه باستطاعتنا ربما أن نخطىء في رسم جهنّم ووصفها، لكن لا نستطيع أبداً أن نبالغ، فمهما قلنا، إنّه أقلّ من هول الحقيقة.
كنت أسخر دائماً وفي شكل خاصّ من نار جهنّم. أنت تعلمين كيف أنّه، خلال أحد أحاديثنا حول هذا الموضوع، وضعت لك ذات يوم كبريتة تحت أنفك، وقلت لك بسخرية: “الجهنّم هذه الرائحة”؟. فأطفأت الشعلة فوراً.
أمّا هنا فلا أحد يطفئها.
والآن أقول لك بنفسي: “إنّ النار المذكورة في الكتاب المقدّس لا تعني عذاب الضمير. النار هي نار! فعليكم أن تفهموا حرفيّاً ما قاله هو: “إذهبوا عنّي أيّها الملاعين الى النار المؤبّدة”! نعم حرفيّاً.
“كيف يمكن للروح أن تتأذّى من نار ماديّة؟ سوف تسألين. الجواب هو: “كيف يمكن لنفسك أن تتألّم على الأرض عندما تضعين إصبعك فوق لهيب النار؟ بالفعل، ليست النفس التي تشتعل، ومع ذلك، فيا للعذاب الذي يشعر به الشخص بكلّيته!
على النحو نفسه، نحن هنا “مترابطون” روحيّاً بالنيران، بحسب طبيعتنا وقدراتنا. إنّ نفسنا محرومة من حريّة عملها الطبيعيّ، فلا نستطيع أن نفكّر بما نريده ولا كما نريد. لا تتعجّبي من كلامي هذا، فإنّ حالتنا، التي لا تستطيعون فهمها، تحرقني من دون أن تستهلكني كالعلّيقة المشتعلة من دون أن تحترق.
هول عذاب فقدان الله
يقوم عذابنا الأكبر على معرفتنا الأكيدة أنّنا لن نعود ونرى الله أبداً. كيف يمكن لهذا الأمر أن يعذّب لهذه الدرجة، بينما يبقى المرء على الأرض لامبالٍ الى درجة كبيرة؟
فطالما السكّين قابعة على الطاولة، تبقين غير مبالية. نرى كم أنّها مسنونة، لكن من دون وضعها قيد التجربة. أمّا إن أدخلت السكّين في اللحم، تبدأين بالصراخ من جرّاء الألم. نحن الآن نشعر بفقدان الله، أمّا في السابق، كنّا نفكر في ذلك فقط.
لا تتألّم النفوس كلّها بالدرجة نفسها. فبقدر ما يخطىء الإنسان بتواتر ووعي وشرّ وخبث، بقدر ما يكون شعوره وتألّمه لفقدان الله أصعب، وبقدر ما يسترسل في الشرّ والخطيئة بقدر ما يختنق جرّاء ذلك.
فالكاثوليكيّون الهالكون في جهنّم يتألّمون أكثر من الهالكين من ديانات أخرى، لأنّهم كانوا قد حصلوا على الكثير، وداسوا النعم والأنوار بشكل أكبر.
ومن علم بالأكثر، يتألّم بضراوة أكبر ممّن كان له معرفة أقلّ، والذي خطىء عن خبث يتحمّل عذاباً أكبر من الذي خطىء عن ضعف. ولا أحد أبداً يتألّم أكثر ممّا يستحقّ. آه، لو لم يكن هذا صحيحاً، لكان لدي حينها سبب للحقد!
مفهوم الوعي قبل الموت
لقد قلت لي يوماً أنّ ما من أحد يذهب الى جهنّم، من دون أن يعرف ذلك، وأنّ هذا الأمر كشف لإحدى القدّيسات.
فضحكت لسماعي ذلك، لكنّني استبقيت في جعبتي هذا التصريح: “هكذا، في حال الضرورة، سيبقى لي الوقت الكافي لأغيّر طريقي”، كنت أقول ذلك بيني وبين ذاتي.
إنّ هذا القول صحيح، وفي الحقيقة وقبل نهاية حياتي الدراماتيكيّة، لم أعرف جهنّم على ما هي عليه. ما من إنسان يعرفها على حقيقتها. لكن كان لديّ وعي كامل حولها: “إن توفّيت، ستذهبين الى ذلك العالم مباشرة، كسهم موجّه ضدّ الله، وستتحمّلين النتائج”.
لكنّ ذلك لم يجعلني أبدّل مسيرتي، لأنّ “العادة” كانت تجرّني بتيّارها. كنت مدفوعة من ذاك التطابق، بحيث أن الإنسان بقدر ما يشيخ، بقدر ما يتابع التصرّف على النحو الذي اعتاد عليه، في الاتّجاه عينه.
موت آنيت
جاء موتي على النحو التالي: منذ أسبوع – أتكلّم هنا وفقاً لمقياسكم أنتم، لأنّه وبمقياس الألم، باستطاعتي أن أقول حقّاً، أنّني أحترق في جهنّم منذ عشرة سنوات – قمت مع زوجي برحلة في السيّارة يوم الأحد، وكانت رحلتي الأخيرة.
كان النهار مشرقاً وجميلاً للغاية، وكنت أشعر بالسعادة أكثر من قبل، كما كان انتابني شعور غريب بالسعادة، سرى فيّ طوال النهار.
لكن، فجأة وأثناء العودة، أعمي زوجي من قبل سيّارة كانت آتية بسرعة جنونيّة، ففقد السيطرة على السيّارة.
“يسع” (Jesses)* ، كانت الكلمة الأخيرة التي خرجت من فمي، كما رعشة، لا كصلاة، بل كصرخة.
*(تحوير مشوّه لكلمة يسوع، مستعمل بتواتر في بعض المناطق الألمانيّة).
شعرت بألم رهيب للغاية في كلّ جسمي – لكنّه لعب أولاد إذا ما قورن بألمي الحاضر – ثم غبت عن الوعي.
الفرصة الأخيرة وقتلها
غريب! فقد أتاني ذاك الصباح، وبشكل لا تفسير له، هذا التفكير: “لا يزال بإمكانك الذهاب مرّة بعد الى القدّاس”. وكان صداه داخليّاً مثل توسّل.
لكنّ جوابي الواضح والعازم “لا” قطع كلّ حبال الأفكار. “يجب أن ننتهي مرّة أخيرة من هذه الأمور، وأنا مستعدّة لتحمّل كلّ النتائج”! وأنا الآن أتحمّلها حقّاً.
أمّا ما حدث بعد موتي، فلا شكّ تعلمين به الآن. مصير زوجي، مصير والدتي، ما حدث لجثماني ومراسيم جنازتي، كلّها واضحة لي بتفاصيلها من خلال معرفة طبيعيّة نملكها نحن هنا.
ما يحدث بعد الموت
أمّا ما يحدث غير ذلك على الأرض، فلا نعرفه سوى بشكل ضبابيّ غير واضح. أمّا ما يخصّنا من قريب، فنعرفه. لذا أرى أيضاً أين أنت مقيمة.
أنا بنفسي استيقظت فجأة من الظلمة، لحظة انفصال روحي عن جسدي. ورأيت ذاتي وكأنّي محاطة بنور يعمي البصر. كان ذلك في الموقع عينه حيث كان جسدي ملقى. حدث كما في مسرح، عندما تطفىء في القاعة فجأة الأنوار، تفتح الستائر بضجّة، ويبدأ مشهد غير منتظر، بأنوار مرعبة: مشهد حياتي.
فظهرت نفسي أمام ذاتي كما في مرآة. رأيت كل النعم التي دستها منذ صباي وحتّى كلمة “لا” الأخيرة، أمام الله. فشعرت وكأنّني قاتلة، يؤتي إليها، خلال المحكمة، بجثّة الشخص الذي قتلته – أن أتوب؟ أبداً! أن أخجل؟ أبداً!-
ومع ذلك، لم يكن باستطاعتي الصمود أمام عيني الرب، الذي رذلته. ولم يكن أمامي سوى أمر واحد: الهرب. فكما هرب قايين من أمام جسد هابيل، هكذا دفعت نفسي بعيداً عن ذاك المنظر المرعب.
هذه كانت دينونتي الخاصّة: لقد قال الديّان اللامنظور: “إبعدي عنّي”! حينها، سقطت نفسي، كظلّ مصفرّ اللون، كبريتّي، الى موضع العذاب الأبديّ.
استنتاج كلارا
صباحاً، عند قرع جرس التبشير الملائكيّ، وأنا لا أزال أرتجف بعد تلك الليلة المرعبة، قمت وركضت على الدرج الى الكابيلاّ.
كان قلبي يقرع مؤثّراً حتّى على تنفّسي. فالضيوف القلائل، الراكعين قربي، أخذوا ينظرون إليّ، لكنّهم اعتقدوا ربما أنّني مضطربة على هذا النحو بسبب نزولي السريع على الدرج. فقالت لي بعد ذلك إحدى السيّدات الطيّبات من بودابست، وهي تراقبني: “يا سيّدتي، يحبّ الربّ أن نخدمه بهدوء، لا بتسرّع”!
لكنّها شعرت بعد ذلك أنّ شيئاً آخر جعلني على هذا النحو ولا يزال يجعلني مضطربة.
وبينما كانت تلك السيّدة توجّه إليّ كلمات أخرى صحيّة، كنت أفكّر: “الله وحده يكفيني”!
“نعم، هو وحده يجب أن يكفيني في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. أريد أن أتمكّن من التمتّع به يوماً ما في الفردوس، مهما كلّفني ذلك من تضحيات على الأرض. لا أريد أن أذهب الى جهنّم”!
نجينا يارب مين الهـلاك الابدي،ارحمنا يارب?
هليلويا لرب المجد يسوع المصلوب ها هو يتالم من اجلنا ومن اجلي خطايانا نحن البشر يجب علينا ترك الخطيىه التي تذهب بِنَا الى جهنم لتصلي وناب من رب الكل ان نكون صالحين ونسمع وصايا الله صومو صوم الرب ها هو الغفّار الذي يحفر لنا ذنوبنا ها هو زمن الغفران قبل فوات الاوان لنصلي ونطلب من الرب يسوع ان يغفر خطايانا من كل خطيىه عملناها بإرادتنا يا رب اغفر لي خطاييونور عقلي وقلبي بقوتك ورحمتك امين
توبوا فقد اقترب ملكوت السماء… نعم هذا حقيقي بامتياز
توبوا فقد اقترب ملكوت السماء
توبوا الى الرب ان الملكوت قريب