25- في الممارسات الباطنيةِ الخاصةِ لراغبي الكمال

1٬449

في الممارسات الباطنيةِ الخاصةِ لراغبي الكمال

بالإضافة إلى الممارساتِ الخارجية التي أتيت على ذكرها، والتي لا يجبُ تركُها عن إهمالٍ أو احتقار، قدر ما تسمحُ حالةُ كلِ واحدٍ وظروفُه، أُقدّمُ ممارساتٍ باطنية مقدسة كثيراً لأولئك الذين يدعوهم الروحُ القدس إلى الكمال.

وأُلخصُها بهذه الكلمات الأربع: أن نعملَ كلَّ أعمالنا بواسطةِ مريم، مع مريم، ولأجل مريم، لكي نعملَها بنوعٍ أكملَ بواسطةِ يسوعَ، ومع يسوع، وفي يسوع، ولأجلِ يسوع.

1- أن نعملَ بواسطةِ مريم

أي يجبُ طاعةُ مريمَ في كلِ شيء، والانقيادُ لروحِها الذي هو روحُ الله القدوس. فمن يقودُهم روُح الله، هُم أبناءُ الله (روميه 8: 14) ومن يقودُهم روحُ مريمَ هم أبناءُ مريم، وبالنتيجة أبناءُ الله.

بينَ المكَّرسين الكثيرين للعذراء ، محبون  حقيقيون وأُمناء، يقودهم روحُها، الذي قلت، هو روحُ الله. لأنها لم تنقاد بروحِها الخاص قط، بل دائماً بروح الله المسيطر عليها كُلياً حتى أصبحَ روحُها. لذا يقولُ القديسُ امبروسيوس: «لتكن في كل واحدٍ نفسُ مريم تُعظمُ الله، ليكن في كلِ واحدٍ روحُ مريمَ ليفرحَ بالله».

كم تكون سعيدةً تلك النفسُ التي على مثال الأخِ رودريكس اليسوعي (أعلن بعده قديساً في 1888) هي ممتلكةٌ ومحرَكة من روحِ مريم، الذي هو روحٌ وديعٌ وقويٌ، غيورٌ وفَطِنٌ، متواضعٌ وشجاعٌ، نقيٌ ومخصب.

ولكي تنقادَ النفسُ لروح مريمَ يجب التخلي عن الروح والأنوار والإرادة الخاصة، مثلاً قبلَ القيام بالصلاة، أو الاشتراكِ بالقداس، أو التناولِ والخ لأنَّ ظلماتِ روحِنا وخبثَ ارادتِنا الخاصةِ واعمالنا التي إذا ما نتبعُها، ولو أنها تظهرُ لنا صالحةً، فإنها تُعرقلُ روحَ مريم القدوس.

لذا يجبُ الاستسلامُ لروح مريم، لنحركَ منه ونتقادَ إليه، كما هي تريد. لنضع ذاتَنا بين يديها البتولية كآلةٍ صماء بين يدي مُشغلها، أو كناي بيدِ عازفٍ حاذق. يجبُ فقدانُ شخصيتِنا لنتركها لها كحجرةِ تُلقى في اليم، الأمر الذي يتمُ فوراً بنظرةٍ روحية إليها، أو بحركة صغيرة إرداية أو شفهياً قائلين: أتخلى عن نفسي وأقدمُها لكِ يا أمي الحبيبة، ورغمِ أننا لا نشعر بأية حلاوةٍ حسيةٍ في هذا العملِ الإرادي، إلّا أنه حقيقيٌ ومقبول.

ثم من وقت إلى آخر، نجددُ أثناءَ عملِنا وبعدَه، فعل التقدمةِ والاتحاد، وعلى قدر ما نعمَلُه، فإننا نتقدسُ أكثرَ فأكثرَ، ونصِلُ أسرعَ إلى الاتحاد بيسوع المسيح، لأنه يتبعُ دائماً وضرورة الاتحاد مع مريم. لأنَّ روحَ مريمَ هو روحُ يسوع.

2- أن نعملَ مع مريم

أي يجبُ أن ننظرَ إلى مريمَ كما إلى مثالٍ كامل، لكلِ فضيلةٍ في أعمالنا. هذا المثالُ الذي صاغَهُ الروح القدس في خليقة لكي نقتديَ به حَسَبَ طاقتِنا الضعيفة، إذ ننظرُ في كلِ عملٍ إلى مريم، كيف عملته أو كانت تعمله، لو كانت مكانَنا. لذا يجبُ أن نفحَصَ ونتأملَ الفضائلَ الكبيرةَ التي مارسَتها في حياتها، خاصة:

أ- إيمانُها الحي، الذي بواسطتِه آمَنَتْ دونَ تَردُدٍ بكلمةِ الملاك، آمنَتْ بأمانةٍ وثباتٍ حتى تحتَ أقدامِ الصليب، فوق الجلجلة.

ب- تواضُعُها العميقُ الذي جعلَها أن تختفيَ وتسكُتَ وتخضَعَ لكلِ شيء وتجلسَ آخر الكل.

ج- طهارتُها الساطعةُ التي لم يصرْ لها نظير، وهكذا في كل فضائِلها الأخرى. لنتذكر بأنَّ مريمَ هي قالَبُ الله الكبير والوحيد واللائق بعملِ صورٍ حية لله، بنفقاتِ قليلةٍ وفي زمنِ قصير، وأن النفسَ التي وجدَتْ هذا القالبَ وتَفقدُ ذاتَها فيه، تتغيرُ سريعاً في يسوع المسيح الذي طبيعياً يمثلُه هذا القالب.

3- أن نعملَ في مريم

لفهم هذه الممارسةِ جيداً، لا بُدَّ من معرفة أنَّ العذراءَ القديسةَ هي الفردوسُ الأرضيُّ لآدمَ الجديد، وأنَّ الفردوسَ القديمَ لم يكنْ إلا رمزاً له لا غير. في هذا الفردوس، غنى وجمالٌ وأشياء نادرة وملذاتٌ لا توصف، تركها فيه آدمُ الجديد، يسوع، الذي فيه طابَ له المقام مدَّة تسعةِ أشهر، عَمِلَ فيه آياتٍ مظهراً غناه بأُبَّهة إليهة.

يتألفُ هذا المكانُ المقدسُ من أرضٍ بكرٍ طاهرة، صيغَ فيها آدمُ الجديد وتغذى، دون وصمةٍ ولا شائبة، بقوةِ الروح القدس الحالِ فيه. في هذا الفردوس، تجدُ شجرةَ الحياة الحقيقية، التي حملت يسوعَ المسيح، ثمرةَ الحياة، وشجرةَ معرفةِ الخيرِ والشر، التي أعطتِ النورَ للعالم. في هذا المحلِ الإلهي، توجد أشجارٌ مغروسةٌ من الله، ومسقيةٌ من عذوبتِه، لا زالت تحمِلُ كلَّ يوم ثماراً ذاتِ نكهةٍ الهية. فيه حدائقُ مزدانةٌ بورودٍ جميلةٍ، مختلفةِ الفضائل تُعطرُ حتى الملائكة. فيه مروجٌ خضراء للرجاء وحصون محصنةٌ وبيوتٌ خلابة تمنح الثقةَ، والروحُ القدس فقط يقدر أن يكشفَ الخفيةَ لهذه الأمورِ المادية.

في هذا المكانِ هواءٌ نقيّ بلا عدوى، نهارٌ رائعٌ بلا ليل، للبشرية المقدسة، شمسٌ ساطعةٌ دون ظلٍ لللاهوت، أتونٌ مضطرمٌ ودائمُ المحبةِ يستعرُ فيه الحديدُ ويتحولُ إلى ذهبٍ، فيه نهرٌ للتواضعِ ينبجسُ من الأرض ليسقيَه، ينقسمُ إلى أربعةِ فروعٍ، هي الفضائلُ الرئيسية الأربع.

يدعو الروحُ القدسُ بفمِ الآباءِ القديسين، العذراءَ القديسة:
1) الباب الشرقي الذي يدخلُ منه ويخرجُ الحبرُ الأعظم يسوع المسيح إلى العالم (حزقيال 2:44- 3). دخل المرة الاولى بواسطتها، وسياتي مرة أخرى أيضاً هكذا،
2) إنّها هيكل اللاهوتِ وموضعُ راحةِ الثالوثِ الأقدس، فهي عرشُ الله ومدينتُه ومذبحُه وهيكلُه وعالمُه. كلُّ هذه الصفاتِ المختلفةِ والإطراء هي حقيقةٌ تماماً، نَظراً إلى المعجزات المختلفةِ التي فَعَلها العليُّ في مريم.

يا لَلغنى ويا لَلمجد ويا لَلذة، يا لَسعادةِ الإنسان إذا ما يقدر على الدخول والمكوث في مريم، حيث وضع العليُّ عرشَ مجدهِ الأعظم. كم هو صعبٌ لخطأةٍ مثلنا الحصولُ على السماحِ والقدرةِ والنورِ للدخول إلى موضعٍ كذا عالٍ ومقدسٍ، محروسٍ ليس من كاروبيم كما كان الفردوسُ القديم (تكو 24:3) ولكن من الروح القدس ذاتِه الذي صار السيدَ المطلقَ عليه كما قال: «بستانٌ مغلقٌ هي أختي، عروستي، بستانٌ مغلقٌ وينبوعٌ مختوم» (نشيد 12:4) فمريم هي مغلقةٌ، مختومةٌ، وابناء آدم وحواء التعيسون المطرودون من الفردوس، لا يقدرون أن يدخلوها إلّا بنعمةٍ خاصة يستحقونها من الروح القدس.

فبعدَ قبول هذه النعمةِ الساميةِ، على المرءِ البقاءُ في باطنِ مريم البديع، عن طيبِ خاطرٍ، ويستريحُ فيه بسلام، مستنداً عليه بثقةٍ، ومختفياً فيه كما في مأمن، ليَفْقدَ فيه ذاتَه بلا تحفُظ، حتى يتغذى في هذا الحشا البتولي، من حليبِ النعمةِ ورحمتِها الوالدية، ويتلخص من قلقه ومخاوفِه ووساوسِه، وينجوَ من كلِ أعدائِه، أي الشيطان والعالمِ والخطيئة. لذا نقولُ بأنَّ الذين يَدخلون اليها لا يُخطئون البتة، (سيراخ 30:24)، أي أولئك الذين يسكنون فيها بالروح لا يرتكبون خطيئةً كبيرةً قط، ويُصاغون في يسوع وهو فيهم، لأنَّ حشاها كما يقولُ الآباءُ هو «غرفةُ الأسرار» الإلهية، حيث صنعَ يسوع كلَّ المختارين، «وُلد منها إنسانٌ وإنسان» (مز 5:86).

4- أن نعملَ لأجلِ مريم

أخيراً علينا أن نفعل كلَّ أعمالِنا من أجل مريم، لأنه إذا سلَّمْنا ذواتِنا بجملتها إلى خدمتها، فمن العدل أن نعملَ كلَّ شيء لأجلها كما يفعلُ كلّ خادمٍ أو عبدٍ، ليس لأنها هي غايتُنا الاخيرة، إذ هذه هي يسوع المسيح وحده، ولكن كغايةٍ قريبةٍ، ووسيطٍ سري ووسيلةٍ سهلةٍ للبلوغ إليها. هكذا لا نَبقى بطَّالين بل كعبدٍ صالح وخادم آمين، أن نقومَ بعملِ أشياء كثيرة لهذه الملكةِ السامية، مستندين على حمايتها. فنحامي عن امتيازاتها عندما يجادلون عليها، وندافعُ عن مجدِها عندما يُهاجَمُ، ونجذُب كلَّ العالم، إذا أمكنَ، إلى خدمتِها، وممارسةِ الإكرامِ الحقيقي لها، والتكلمِ والصراخِ ضدَّ أولئك الذين يُسيئون استعمال إكرامِها لإهانةِ ابنِها، وفي عينِ الوقت أن نثبتَ الإكرامَ الحقيقيَّ، ولا نُطالبُها من أجل خدماتِنا هذه الصغيرة، إلّا بشرفِ الانتماءِ إلى أميرةٍ كذا محبوبة، وسعادةِ الاتحادِ بواسطتها مع ابنِها يسوع، برباطٍ لا يَقبلُ الانفصام، لا في الزمن ولا في الأبدية.

المجدُ ليسوعَ في مريم

المجدُ لمريمَ في يسوع

المجدُ لله وحده.


كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
 ✞  السابق     ✞  البداية     ✞  التالي 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.