ما معنى عيد العنصرة وكيف نعيشه ؟
نحتفل بعيد العنصرة الذي يختتم الزمن الفصحي بعد خمسين يومًا من أحد القيامة. ويُعتبر عيدُ العنصرة عيد ميلاد الكنيسة في القدس، أمّ الكنائس كلّها، لأنها كنيسة القيامة وكنيسة الروح القدس. تعلّم الكنيسة الأولى أن المسيح الذي مات وقام وصعد الى السماء وتمجَّد عن يمين الآب تمّم عمله بإفاضة الروح على جماعة الرسل يوم العنصرة (أعمال 2: 23- 32). وعليه تُشكّل العنصرة إكمال الفصح والصعود. ويذكرنا هذا العيد بحلول الروح القدس على الرسل والتلاميذ الآخرين الذين كانوا مجتمعين للصلاة مع مريم العذراء في العلية. وكانت عدد الجماعة نحو مئة وعشرين شخصاً (أعمال الرسل 1: 14-15). إن يسوع القائم من الموت والذي صعد الى السماء أرسل روحه الى الكنيسة ليجعلنا نعيش العنصرة من جديد (أعمال الرسل 2، 1-11) كي يتمكن كل مسيحي من مشاركته حياته الإلهية، ويصبح شاهدًا حقيقيًّا له في العالم.
ومن هنا نتسأل معنى العنصرة وما هي علاماتها وكيف نعيش العنصرة وأين تمت العنصرة؟
ما معنى العنصرة في المفهوم اليهودي والمسيحي؟
أطلق لفظ “عنصرة” على العيد الذي يحتفل به بعد الفصح بخمسين يوماً. وقد تطوَّر موضوع هذا العيد: كان أولاً عيداً زراعياً، ثم أخذ يعني، فيما بعد، ذكر حادث العهد التاريخي. وأخيراً أصبح هبة الروح، معلناً إنشاء العهد الجديد على الأرض.
عنصرة لفظة عربية مأخوذة من العبرية עצרה (عتصيرت) ومعناها اجتماع أو احتفال. واما التسمية اليونانية للعيد πεντεκοστεν “البندكُستين”، والانكليزية Pentecost اي “الخمسين، لأنه كان يحتفل به بعد مرور سبعة اسابيع (تثنية الاشتراع 16/9) او خمسين يومًا بعد الفصح (احبار 23: 16). نجده في يوسيفوس فلافيوس (3 :252) والكتابات الرابينيّة، فيدلّ على ختام “الخمسين الفصحيّ”. ودُعي أيضًا “عيد الأسابيع” שבועות “شفوعوت” (طوبيا 2 :1). ويعتبر عيد العنصرة (عيد الاسابيع) أحد أعياد الحج اليهودية الثلاثة مع عيد الفطير (الفصح) في الربيع وعيد الاكواخ (قطف الثمار في الخريف) (تثنية الاشتراع 16/13 واحبار 23/ 34). يحتفل به اليهود به في حضرة الله مع جميع أهل البيت ومع الفقراء. وبعد دخولهم ارض كنعان كان يحتفل اليهود بهذه الاعياد في الهيكل.
وعليه احتفل اليهود في البداية في عيد العنصرة في الربيع كعيد شكر لحصاد القمح (خروج 23 :16) . فكان يتحتم على الذكور من الشعب أن يجتمعوا معاً للعبادة (أحبار 23: 21). وسمي “يوم البواكير” (عدد 28:26) لأنه كان يقدمون فيه رغيفين من الدقيق الذي طحن من غلة الحصاد ( أحبار 23:17 )، ويقدمون عشر ذبائح (أحبار 23:18) ويذكرون المحتاجين ( تثنية 16:11). عنصرة هو عيد اختتام عيد الفطير ( تث 16 :8) أو عيد المظال ( أحبار 23 :36).
وفي القرن الثاني قبل الميلاد تطور العيد وأصبح ذكرى نزول الشريعة على يد موسى كليم الله في طور سيناء لان الشريعة أعطيت خمسين يوماً من بعد الفصح أي عبور الشعب من ارض العبودية إلى صحراء الحرية (خروج 19: 1- 16). وفي قمران تبدو العنصرة أهم الأعياد التي فيها يحتفلون بتجديد العهد. ولكن المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس (3 :252) تجاهل مدلول العيد هذا واكتفى بالحديث عن عيد زراعي في التوراة. وكذلك في الكتابات الرابينيّة، فيدلّ على ختام “الخمسين الفصحيّ”.
ومنذ القرن الثاني ب. م. ظهر المعنى الديني للعنصرة في الكتابات الرابينيّة (كتاب اليوبيلات ف 6). فبدت وكأنّها تأثّرت بخبر الفصح المسيحيّ كما رواه أعمال الرسل 2.
اما في المفهوم المسيحي في العهد الجديد فيشير عيد العنصر الى مواصلة التجلّيات الإلهية في العهد القديم بحلول الروح القدس. يوضح بطرس الرسول أن العنصرة تحقق مواعد” الله: ففي الأيام “الأخيرة سوف يعطى الروح للجميع” (يوئيل 3: 1- 5، حزقيال 36: 27). وسبق يوحنا المعمدان وتنبأ بحضور ذلك الذي كان مزمعاً أن يعمّد بالروح القدس (مرقس 8:1). وقد ثبَّت يسوع بعد قيامته هذه المواعيد: “تعمَدون بالروح القدس بعد أيام قليلة ” (أعمال 1: 5).
في يوم الخمسين بعد الفصح حين كان كثيرون قد أتوا إلى أورشليم واجتمعوا بمناسبة عيد العنصرة تمّ إنجاز وعد ربنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح بإرسال الروح القدس على التلاميذ الأطهار (اعمال 1:2-14). ويستعمل كتاب أعمال الرسل لوصف العنصرة رموز للإشارة إلى الروح القدس : صورة ريح عاصفة وصورة النار والتكلم باللغات.
– صورة ريح عاصفة: يشير أعمال الرسل بصورة العاصفة إلى ظهور الله في سيناء، الذي يتحدث عنه سفر الخروج (19، 16 – 19) والتثنية (4، 10) وهي علامة للجبروت الإلهي، الذي يشعر الإنسان بحضوره أنه خاضع وأنه عدم. ومما لا شكّ فيه أنّ روح الرّبّ قد أعطي للتلاميذ قبل صعود الرّب إلى السّماء عندما “نَفَخَ فيهم وقالَ لَهم: خُذوا الرُّوحَ القُدُس مَن غَفَرتُم لَهم خَطاياهم تُغفَرُ لَهم، ومَن أَمسَكتُم عليهمِ الغُفْران يُمسَكُ علَيهم” (يو20: 23-24). ولكن قبل العنصرة لم نسمع صوت الروح القدس ونرى إشراقة قوّته. ولكن ومنذ يوم العنصرة صار ” صَوتُ الرَّبِّ على المِياه … صَوتُ الرَّبِّ يَقُدُّ شُهُبَ نار… وكلٌّ يقولُ في هَيكَلِه: لَه المَجْد” (مز 29 : 3) وبدد خوف التلاميذ.
– صورة النار: بهيئة ألسنة “كأنها من نار” حل الروح القدس على التلاميذ في صباح العنصرة وملأهم منه (اعمال 3: 2-4). وترمز النار الى قدرة اعمال الروح القدس. بشَّر يوحنا المعمدان بالمسيح معلنا انه هو الذي “سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار” (لو 3:3: 16)؛ هذا الروح الذي سوف يقول عنه يسوع: “جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!” (لو 12: 49). حمل يسوع إلى الأرض النار أي الروح القدس بواسطة أكبر فعل حب في التاريخ: موته على الصليب. اختار الله يسوع ابنه الوحيد لكي “يلقي النار على الأرض”. ولقد حفظ التقليد الروحي رمز النار كأفصح تعبير عن عمل الروح القدس “لا تطفئوا الروح” (1 تس 5:19).
– التكلم بالغات: هي صورة من المواهب الروحية التي نجدها لدى الجماعات المسيحية الأولى وإن كان الكلام بالألسن غير مفهوم في ذاته (1 قورنتس 14: 1-25)، إلا أن جميع الحاضرين فهموه. وهذه المعجزة، القائمة في الاستماع، تدل على انتشار الجماعة المسيحية لتشمل كافة الشعوب، وعلامة من علامات دعوة الكنيسة الجامعة، حيث يأتي إليها المستمعون من مختلف العالم (أعمال 2: 5-11). وتحقق العنصرة في أورشليم الوحدة الروحية بين اليهود والمهتدين من كافة الشعوب التي تفتتَّت بسبب برج بابل (تكوين 7: 1-9). ومن هنا اصبحت الكنيسة زمن الكنيسة والازمنة الاخيرة والوحدة.
ما هي علامات العنصرة؟
في البدء، ووفقًا لمخطّط الله، كان “رُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه” (تكوين 1: 2) وكانت قوّته “تَمتَدُّ مِن أَقْصى العالَمِ إِلى أَقصاه وتُدَبّر كُل شيء لِلفائِدَة (حكمة 8: 1)، أما في إطار عمله لتقديس الإنسان، وبدءاً بيوم العنصرة صار “روح الرَّبِّ يَملأ المَسْكونَة” (الحكمة 1: 7)”، فالآب والابن يرسلان اليوم روح الوداعة ليقدّس كلّ مخلوق حسب المخطّط الجديد وبطريقة جديدة وتعبير جديد عن جبروته وقوّته. فمن اهم علامات العنصرة افتتاح زمن الكنيسة والازمنة الاخيرة وزمن الوحدة والتفاهم والمشاركة.
أولاً: العنصرة زمن الكنيسة: يوم العنصرة افاض السيد المسيح الروح القدس على الكنيسة لكي يعلمها ويذكرها بكل ما قال (ت ك 92)، وينشئها على حياة الصلاة (ت ك 2623) ويقدسها أيضاً باستمرار” (ك 4). ويكشف لنا كتاب أعمال الرسل، وهو “إنجيل الروح القدس”، بالمكانة التي يحتلّها الروح سواء في إدارة الكنيسة ونشاطها الرسولي (أعمال 4: 8، 16: 6)، أو بتجلياته الخارجية (4: 31 ، 10: 44 ). فالكنيسة في مسيرتها نحو لقاء الرب، تتلقّى منه باستمرار الروح الذي يجمعها في الإيمان والمحبة، ويقدسها، ويوفدها للرسالة.
فعطية الروح هذه افتتحت عهدا جديدا ؛ وكما ورد في تعليم الكنيسة الكاثوليكي “هي زمان الكنيسة، الملكوت الذي صار ميراثنا منذ الآن ولما يكتمل بعد” (732). “فظهرت الكنيسة ظهورا علنيا امام الجماهير وابتدأ نشر الانجيل مع الكرازة” (ل 6). في هذا الزمن أيضا يعلن المسيح عمله الخلاصي ويفعله ويوزِّعه، من خلال ليتورجيا كنيسته، “إلى أن يأتي” (1كو 11: 26). على امتداد زمن الكنيسة هذا، يحيا المسيح ويعمل في كنيسة ومع كنيسته بوجه جديد يلائم هذا الزمن الجديد. انه يعمل بواسطة الاسرار المقدسة. منذ العنصرة يجري الروح القدس نعمة القداسة عبر الاسرار في الكنيسة (ت ك 1125). فمثلا “سر التثبيت يواصل، نوعا ما، في الكنيسة، موهبة العنصرة” كما ورد في تعليم الكنيسة الكاثوليكي (ت ك 1288).
ثانياً: العنصرة افتتاح الازمنة الاخيرة : تميِّز هبة الروح “الأزمنة الأخيرة”، وهي الفترة التي تبدأ بصعود الرب وتنتهي بمجيئه الثاني في اليوم الأخير. يمنح الله الروح من أجل شهادة يجب أن نحملها حتى أقاصي الأرض (أعمال 1:8 ). فتشكّل العنصرة نقطة الانطلاق لرسالتها ويعتبر خطاب بطرس الذي ألقاه “واقفاً مع الأحد عشر” (أعمال 2: 14)، أول عمل الرسالة” التي كلّفه يسوع بها: “ولكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض” (1: 8). ويرى الانبياء في العنصرة منح الشريعة الجديدة للكنيسة (إرميا 1 3: 33، حزقيال 36: 27) والخلق الجديد (تكوين 1: 2).
ثالثاً: عيد العنصرة هو عيد الوحدة والتفاهم والمشاركة كما وضّح البابا بندكتس في عظته عن العنصرة لهذا العام 2102. “مع تطوّر العلم والتقنيات، تمكّنا من السيطرة على قوات الطبيعة، ونحقق ما نريده بأنفسنا”. ولكننا نلاحظ أنّنا نعيش من جديد قصّة بابل. ولكن ما هو بابل؟ يجيب البابا: “إنّه وصف لمملكة حيث بذل الناس جهداً كبيراً معتقدين أنّه بإمكانهم التغلّب على إله بعيد ويكونوا أقوياء كفاية لبناء درب بمفردهم يقودهم حتى السماء وأخذ مكان الله. ولكن، لاحظوا فجأة أنّهم كانوا يبنون بعكس بعضهم. وفقدوا أهمّ عنصر في الطبيعة البشريّة: القدرة على الاتفاق والتفاهم والعمل سوياً. يمكن للوحدة أن تتحقّق فقط من خلال نعمة روح الله، التي تمنحنا قلباً جديداً ولساناً جديداً وقدرة جديدة على التخاطب. هذا ما حصل في العنصرة. في عيد العنصرة، حيث كان الانقسام والتباعد، ولدت الوحدة والتفاهم. ويقول القديس بولس في الواقع: “إنّ ثمر الروح هو المحبّة والفرح والسلام” (غلاطية 5، 22).
كيف نعيش العنصرة في أيامنا؟
في عيد العنصرة، يقول لنا الكتاب المقدس كيف يجب أن تكون الجماعة، كيف يجب أن نكون لكي ننال هبة الروح القدس وبالتالي شهودا ومبشرين.
يذكر الكاتب المقدس أن التلاميذ “كانوا متواجدين كلهم في مكان واحد”. هذا “المكان” هو العلية، “حيث أقام يسوع مع تلاميذه العشاء الأخير، وحيث ظهر لهم بعد قيامته من الموت؛ هذه العلية باتت “سدة” الكنيسة الناشئة (أعمال الرسل 1، 13). ولكن لا يسلَّط سفر أعمال الرسل الضوء على المكان بقدر ما سلّطه على حالة التلاميذ الداخلية: “كانوا مثابرين على الصلاة بقلب واحد” (أعمال 1، 14). وبالتالي فإن اتفاق التلاميذ هو الشرط لكي يأتي الروح القدس؛ وركيزة الاتفاق هي الصلاة. الجماعة المصلية هي العلامة المميِّزة للجماعة المسيحية الأولى في أعمال الرسل.
وهذا الأمر ينطبق أيضًا على كنيسة اليوم. إذا أردنا ألا يضحي عيد العنصرة مجرد رتبة وذكرى، بل أن يكون حدث خلاص آني، يجب أن نستعد بانتظار تقوي لهبة الروح القدس من خلال إصغاء متواضع وصامت للكلمة مواظبين على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات على مثال الكنيسة الناشئة. وعلى مثال الرسل نؤدي الشهادة بقيامة الرب يسوع ونبشّر به بمؤازرة الروح القدس. فعيد العنصرة تحدٍّ كبير ودعوة ملحة موجهة إلى كنيسة اليوم في العالم.
وعليه الإيمان بعيد العنصرة يقتضي الشهادة والتبشير العلني. لا مجال للمسيحي أن يفكّر بأن الإيمان أمر فردي. الإيمان هو القرار بأن نكون مع الربّ لنعيش معه. وهذا “الكيان معه” يدخلنا في تفهّم الأسباب التي من جرائها نؤمن. الكنيسة يوم العنصرة تظهر بوضوح البعد العلني لقرار الإيمان وللقيام بجرأة بإعلان إيماننا الذاتي لكلّ إنسان. إنّ موهبة الروح القدس هي التي تؤهّل للرسالة وتقوّي شهادتنا بجعلها صريحة وشجاعة.
وخير دليل على ذلك تجربة التجدد بالروح القدس الكاهن الايطالي فولفيو بريشاني. كان في التاسعة من عمره عندما توفي والده. أبعده الألم الشديد عن الله والكنيسة، وأصبح فولفيو شابًا شيوعيّا وقال مؤكدا “كنت أومن حقا وكنت مقتنعا بأن الشيوعيّة ستغيّر العالم”. عمل جاهدا، بالمنشورات وبالعضويّة. وأصبح أمين عام لاتحاد الشباب الشيوعي الإيطالي. وهكذا تم انتخابه إلى الأمانة العامة للحزب. درس كيفيّة تجنيد الشباب. وكان قلقا إزاء الحركات الكاثوليكيّة التي كانت تنتزع من الحزب الشيوعي أعضاءه. وأصبح مديرًا لحركة الشباب الشيوعي. اهتم بحركة التجدد بالروح القدس لمعرفة وفهم كيفيّة جذبهم للشباب. لكن هذا اللقاء مصحوب بالصلاة والتراتيل فتح قلبه. وعندما بلغ من العمر الرابعة والعشرين طلب دخول المعهد الاكليريكي المدرسة واصبح كاهنا ومندوب حركة التجدد بالروح القدس للشباب. ويوضح عمل الروح القدس فينا بقوله “تتركز ثقافة عيد العنصرة التي تتحدث عنها جماعة التجدد بالروح القدس على التثبيت، لأنه إذا كان الروح فينا، يمكننا أن نصبح جنود المسيح في خدمة الكنيسة”. تستند جاذبيّة هذه الحركة على ثلاثة عوامل: الثقة بالكنيسة والشغف بكلمة الله والأسرار المقدسة، وبالصلاة المستمرّة والفرحة.
عندما جاء بيننا، وهبنا يسوع الحياة الإلهية التي تحول وجه الأرض وتجعله جديدا (راجع رؤيا 21/5) ولم يجعل منا الوحي مجرد مستفيدين من الخلاص بل مبشرين وشهود له. وأعطانا المسيح القائم القدرة على إعلان الإنجيل بقوة في العالم كله. هذه هي خبرة الجماعة المسيحية الأولى التي رأت الكلمة تنتشر بالوعظ والشهادة (أعمال 6/7). وعليه العنصرة هي انطلاقة التبشير الجديد حسب قول البابا بندكتس السادس عشر. ان تبشير الرسل انطلق من اورشليم (اعمال الرسل 1/8). التبشير الجديد لا يعني أن هناك “انجيل جديد” لأن يسوع المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد (عبرانيين 13/8). إن التبشير الجديد يعني: الرد المناسب على علامات الأزمنة وعلى حاجات البشر والشعوب اليوم وعلى كل السيناريوهات التي ترسم ملامح الثقافة التي نكتشف من خلالها هوياتنا ونبحث فيها عن معاني وجودنا. فالتبشير الجديد يسلط الضوء على ثقافة متجذرة بعمق في الإنجيل: وذلك يعني اكتشاف الإنسان الجديد الذي فينا بفضل الروح القدس الذي وهبه لنا الآب بيسوع.
“كما أن ليس هناك كنيسة من دون عنصرة، كذلك، ما من عنصرة من دون مريم” كما يقول قداسة البابا بندكتس. فلا بد من المثابرة على الصلاة مع مريم أم يسوع وأمنا (أعمال 1/ 14) فهي التي تطلب لنا بصلواتِها عطيَّةَ الروح الذي كان حلَّ عليها يومَ البشارة.
في أي مكان تمّ حلول الروح القدس يوم العنصرة؟
اتفق علماء الاثار والكتاب المقدس على ان حلول الرح القدس تم في علية صهيون. وتقع علية صهيون على جبل صهيون في القدس. صهيون كلمة سريانية و ציון بالعبرية، وتعني بالعربية صوّان أو صوّة، ومعناها قلعة أو صرح. وفي الأجيال المسيحية الأولى أطلق اسم صهيون على الموضع الذي تم فيه العشاء السري الأخير (أعمال الرسل 2: 29) ومن هنا جاءت الكلمة اللاتينية (Coenaculum) التي تعني مكان العشاء المأخوذة من اليونانية ἀνώγεον (مرقس 14: 15) التي تعني عليّة أي غرفة استقبال الضيوف. واتخذ العديد من الرسامين العالميين العشاء الأخير كموضوع للوحاتهم لعل أهمها هي لوحة الفنان ليوناردو دافينشي.
جرت في علية صهيون حوادث إنجيلية على غاية الأهمية، نذكر منها:
– عشاء الفصح (مرقس 14: 12).
– رسم سر الافخارستيا وسر الكهنوت (مرقس 14: 22-25).
– نزول الروح القدس على الرسل والعذراء، (العنصرة) (أعمال الرسل 1 ،2).
– ترائي يسوع للتلاميذ، (يوحنا 20، 19).
– صلاة يسوع لأجل الوحدة، (يوحنا 17، 21).
– اختيار متيا خلفاً ليهوذا، (أعمال الرسل 1، 15-26).
– التئام مجمع أورشليم، (أعمال الرسل 15، 5-22).
في بدء الكنيسة تحوّل جبل صهيون إلى مركز الجماعة المسيحية الأولى وقد أقيمت كنيسة على مكان العلية. وفي القرن الرابع أعاد يوحنا الثاني بطريرك القدس بناء كنيسة بيزنطية باسم (صهيون المقدسة) بقرب العلية. وعند اجتياح الفرس عام (614) احرق كسرى هذه الكنيسة. فأعاد بناءها جزئياً البطريرك مودستس.
في عام (1009) هدم الحاكم بأمر الله الكنيسة. ولكن الصليبيون في القرن الثاني عشر بنوا كنيسة كبيرة تضم صهيون المقدسة وكنيسة الرقاد وسمّوها “أم جميع الكنائس أو سيدة جبل صهيون” غير أن هذه الكنيسة دُمّرت على يد الخوارزميين عام (1244).
في عام 1333 اشترى ملك نابولي “روبرت انجو” وزوجته كل منطقة جبل صهيون من سلطان مصر مالك الناصر محمد بن قالون، ووهبها إلى الآباء الفرنسيسكان. فقاموا بترميم كنيسة العلية حسب الفن القوطي. فالعلية كما نشاهدها اليوم تعود إلى ذلك التاريخ.
وفي عام (1552) استولى سلطان القسطنطينية سليمان القانوني على كنيسة العلية. في عام (1928) حوّل المسلمون كنيسة العلية نفسها إلى مسجد، غير انه بقي للآباء الفرنسيسكان حق الاحتفال الديني رسمياً في العلية مرتين في السنة: يوم خميس الأسرار، ويوم العنصرة.
في عام (1948) احتلت إسرائيل منطقة القدس حيث تقوم العلية وحولت الطابق السفلي كنيساً بحجة انه قبر الملك داود، وجعلت الطابق العلوي (العلية) مفتوحا للجميع.
دعاء
لنسبح الله ونمجده مع الكنيسة قائلين:
“قدّوس الله الآب الذي أبدع كل شيء بالابن ومؤازرة الروح القدس.
قدّوس الله الابن الذي به عرفنا الآب وأتى الروح القدس إلى العالم.
قدّوس الله الروح القدس المعزي الذي لا يموت. المنبثق من الآب والمستريح في الابن.
أيّها الثالوث القدوس المجد لك”.
وبشفاعة رسلك القديسين أفض علينا روحك القدّوس وثبّتنا في إيمان الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة.
ولنصلي مع الطوباوية مريم يسوع المصلوب، بنت الجليل، ومؤسسة دير الكرمل في بيت لحم والناصرة:
“أيها الروح القدس، ألهمني يا حب الله أفنني وإلى طريق أرشدني
يا مريم أمي انظريني، مع يسوع، باركيني ومن كل شر، ومن كل خداع، ومن كل خطر صونيني”.
وإذ نحن في ختام شهر ايار، نلتمس من أمّنا مريم العذراء سيدة فلسطين أن تشفع بنا لدى ابنها يسوع لكي يفيض روحه القدوس علينا أجمعين، هاتفين: “أرسل روحك أيها المسيح، فيتجدَّد وجه الأرض”.
الأب د. لويس حزبون