12- مريم ستبوح بنذرها للعروس الذي سيمنحه الله لها | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
12- مريم ستبوح بنذرها للعروس الذي سيمنحه الله لها
03 / 09 / 1944
يا لها مِن ليلة جهنمية! يبدو أن الشياطين قد أخذوا حقاً فرصتهم على الأرض. قصف مَدافِع، رعود، برق، خطر، خوف، معاناة وجودي على سرير ليس لي، وفي وسط كلّ هذا، كان الوجود العذب لمريم كزهرة لطيفة بيضاء وسط النيران والـمِحَن، ولكنها أكبر سناً قليلاً مما كنتُ قد رأيتُها عليه في رؤيا الأمس، بضفائرها الشقراء على كتفيها، ولباسها الأبيض وابتسامتها العذبة والمتأمِّلة.
ابتسامة داخلية تميل صوب السر المجيد الذي قَبِلَتهُ في قلبها. أمضيتُ الليلة في مقارنة هذه الرؤيا بنشوتها، مع الوحشية المنتشرة في العالم، وبإعادة التفكير بكلّماتها التي قالَتها أمس صباحاً، ترتيلة محبة تُحيي في مقابل حقد يمزِّق…
وها أنا ذا هذا الصباح في صمت غرفتي الذي عدتُ إليه أرى هذا المشهد:
ما زالَت مريم في الهيكل، وفي هذه اللحظة تَخرُج مِن الهيكل مع العذارى الأخريات.
لا بدّ أنّ هناك احتفالاً، لأنّ رائحة البخور تنتشر في جو غَسَق جميل أحمر، وكأنّ الخريف قد سَبَّق مجيئه، فالسماء كئيبة نوعاً ما، كما في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، صافية تنحني على حدائق أورشليم، حيث اصفرار الأوراق التي ستقع قريباً تضع بصماتها الصفراء – الحمراء الفاتحة في أخضر الزيتون الفضي.
الثلّة، سرب الفتيات، روض عذارى تجتزن الباحة الصغيرة مِن الخلف، يصعدن المدرّجات ويمشين عبر رواق صغير ليَدخلن إلى باحة أخرى أقلّ روعة، مربّعة وليس لها سوى منفذ واحد قد دخلن منه، ويُفتَرَض أنّه المخصّص ليؤدّي إلى المساكن الصغيرة للعذارى العاملات في الهيكل، ذلك أنّ كلّ شابة تتوجّه إلى غرفتها كحَمَامة إلى عشّها، مثل حَمَامات طائرة تتفرّق بعد أن كانت مجتمعة.
كثيرات منهنّ، بل يمكنني القول جميعهنّ، يتحدّثن إلى بعضهنّ قبل الافتراق بصوت خافت لكنّه مَرِح. أمّا مريم فهي صامتة، فقط قبل أن تفارق الأخريات تحيّيهن بمودّة، ثمّ تتوجّه إلى غرفتها الصغيرة الواقعة في إحدى الزوايا إلى اليمين.
وهناك وافتها معلّمة ليست بالعجوز مثل حنّة التي لفانوئيل، ولكنّها مع ذلك مسنّة: «مريم، كبير الكَهَنَة ينتظركِ.»
تنظر مريم إليها بشيء مِن الدهشة، ولكن مِن غير أن تطرح سؤالاً. تجيب فقط: «سأذهب إليه في الحال.»
تَدخُل غرفة كبيرة، لستُ أدري إذا ما كانت تنتمي إلى منزل الكاهن أم هي جزء مِن سكن النساء العاملات في المعبد، كلّ ما أعرفه هو أنّها واسعة، جيّدة الإنارة والترتيب، وأنّ زكريّا وحنّة التي لفانوئيل موجودان فيها مع كبير الكَهَنَة بلباسه الفاخر.
لدى وصولها إلى العتبة، تنحني مريم للأرض، ولا تتقدّم إلاّ حينما يقول لهـا كبيـر الكَهَنـَة: «تقدّمي يا مريم، لا تخافي.» فتنتصب وتتقدّم ببطء، ليس لقلّة حماس منها، بل إنّما بالفطرة، بمهابة لستُ أعلم ما نوعها، تجعلها تبدو أكثر نضجاً كامرأة.
تبتسم لها حنّة لتشجّعها، أمّا زكريّا فيحيّيها: «السلام لكِ يا ابنة العم.»
ينظُر إليها الكاهن بإمعان، ثمّ يقول لزكريّا: «إنّ أصل داود وهارون واضح عليها.
أيّتها الفتاة، أنا أعرف صلاحكِ ولطفكِ. وأعرف أنّكِ تَنمين كلّ يوم بالعلم والنعمة في عيني الله والناس. كما أعرف أن صوت الله يهمس في قلبكِ أعذب الكلمات. أعرف أنّكِ زهرة هيكل الله، وأنّ شاروبيماً ثالثاً موجود أمام البيّنة منذ وجودكِ هنا. وأريد أن يستمرّ فوح عطر حياتكِ مع بخور كلّ يوم جديد.
ولكن الشريعة لها كلام آخر. لم تعودي فتاة صغيرة، بل لقد أصبحتِ امرأة، ويجب على كلّ امرأة في إسرائيل أن تتزوّج لتحمل ابنها للربّ. ستتَّبِعين أوامر الشريعة. لا تخافي ولا يعلونّكِ احمرار. إنّ جذوركِ الملكيّة نُصب عينيّ. سوف تحميكِ الشريعة التي تأمُر بأن يعطى كلّ رجل امرأة مِن أصله ذاته. ولكن حتّى ولو لم تكن هذه العبارة موجودة، فقد كنتُ عازماً على العمل بها أنا لكي لا يُمَسّ نُبل دمكِ. ألا تعرفين رجلاً مِن أصلكِ نفسه يصلح لأن يكون زوجاً لكِ يا مريم؟»
ترفع مريم وجهاً علاه الاحمرار مِن الخجل، ولمعَت على رموشها أوّل ماسة، وبصوت مرتجف تجيب: «لا أعرف أحداً.»
فيقول زكريّا: «لا يمكن أن تعرف أحداً، طالما أنّها أتت إلى هنا صغيرة جدّاً، كما أنّ نسل داود قد اضطُهدوا كثيراً، وتشتّتوا، ولم تتمكّن أفرعه المختلفة مِن الاجتماع والاتّحاد لتورِق النخلة الملكيّة.»
«إذاً سوف نترك الخيار لله.»
وتَفلُت دموعها المحبوسة حتّى الآن، وتنسَكِب حتّى تصل إلى فمها المرتعش، وتنظر مريم إلى معلّمتها نظرة توسّل.
وتُسارع حنّة لتقديم العون لها بقولها: «لقد عَزَمَت مريم على أن تقف نفسها للربّ، لمجده وخلاص إسرائيل منذ نعومة أظفارها. أمّا الآن فقد ارتبطَت بنذر…»
«دموعكِ إذن لهذا السبب هي؟ وليست لمخالفة الشريعة؟»
«أجل، لهذا السبب… وليست لأمر آخر. فأنا أطيعكَ يا كاهن الله».
«إنّ هذا ليؤكّد كلّ ما قيل لي عنكِ. منذ كم مِن السنوات نذرتِ نفسكِ للبتوليّة؟»
«منذ سنوات طويلة جدّاً، على ما أظن. قبل أن آتي إلى الهيكل كنتُ موهوبة للربّ.»
«ولكن، ألستِ أنتِ الطفلة الصغيرة التي أتت إلي منذ اثني عشر شتاء لتطلب منّي الدخول إلى الهيكل؟»
«أنا هي.»
«فكيف يمكنكِ القول إذن إنّكِ حينذاك كنتِ مِلكاً لله؟»
«إذا نظرتُ إلى الوراء، أجد نفسي منذورة لله… فأنا لا أتذكّر لحظة وُلِدتُ ولا كيف بدأتُ أحبّ أُمّي وأقول لأبي: “يا أبي أنا ابنتكَ”… ولكنّني أذكر، دون أن أدري متى بدأ هذا، أنّني وهبتُ قلبي لله. يمكن أن يكون هذا مع أوّل قبلة عرفتُ إعطاءها، أو أوّل كلمة عرفتُ نطقها، أو مع أوّل خطوة عرفتُ القيام بها… نعم، فمثلاً: أعتقد أنّ أوّل تذكار حبّ لي أجده في أوّل خطوة واثقة خطوتُها…
أمّا منزلي، فقد كانت له حديقة مليئة بالزهور، ومُلحَق به بستان وحقول… وفي نهاية هذا كلّه، كان هناك نبع في أسفل الأكمة، وكان يتدفّق مِن صخرة على شكل مغارة… وقد كانت مليئة بالعشب الطويل والناعم الذي يتدلى مِن كلّ الجوانب كشلالات خضراء تبدو وكأنّها تبكي. بالفعل فإن الوريقات الخفيفة، الأوراق التي تُشبِه التطريز، كلّها كانت تحمل قطيرات ماء كانت بدورها تُصدِر عند تسـاقطهـا أصوات أجراس صغيرة.
وكان النبع يغنّي. وكانت العصافير مقيمة على أشجار الزيتون والتفاح المتواجدة على المنحدر فوق النبع، وحَمَامات بيضاوات كانت تأتي لتغتسل في مرآة النبع الصافية. لم أكن لأتذكّر كلّ شيء لأنّني وضعتُ قلبي كلّه في الله، وما عدا أُمّي وأبي، أثناء حياتهما وبعد وفاتهما، لم يتعلّق قلبي بأيّ شيء أرضيّ… ولكنّكَ الآن جعلتَني أفكّر بكلّ هذه الأمور، أيّها الكاهن… فقد كان متوجِّباً عليَّ البحث عن “متى” وهبتُ نفسي لله… وهذه هي ذكريات السنوات الأولى التي تعود إلى ذهني.
كنتُ أُحِبّ تلك المغارة، لأنّني منها كنتُ أسمَع صوتاً أعذب مِن غناء الماء والعصافير يقول لي: “تعالي يا محبوبتي”. كنتُ أُحِبّ النقاط الماسيّة البهيّة لأنّني كنتُ أرى فيها إشارة الربّ. وكنتُ أتلاشى حين أقول لنفسي: “يا روحي، هل ترين كم هو عظيم إلهكِ؟ فالذي جَعَلَ أرز لبنان لريح الشمال، جَعَلَ هذه الوريقات التي تنثني تحت ثقل ذبابة لفرح عينيكِ وسجّادة لقدمكِ الصغيرة”.
كنتُ أحبّ صمت الأشياء الطاهرة هذا: النسمة الخفيفة، والمياه بانعكاساتها الفضّية، ونظافة طيور الحَمام… كنتُ أُحِبّ السلام الذي يَسهَر على تلك المغارة وكأنّه ينهمر مِن أشجار التفّاح والزيتون، تارّة على شكل زهر، وطوراً محمّلاً بالفاكهة الثمّينة… ولستُ أدري، يبدو أنّ الصوت كان يقول لي، نعم كان يقول لي أنا: “تعالي، أنتِ يا شجرة الزيتون الرائعة؛ تعالي أنتِ يا يمامتي”…
عذب هو حبّ الأب والأُمّ… وعذب هو صوتهما الذي كان يناديني… ولكنّ هذا الصوت! هذا الصوت! آه! أعتقد أنّ تلك (حواء) التي ارتكَبَت الإثمّ كانت تسمعه هكذا في الفردوس الأرضيّ، ولستُ أدري كيف استطاعَت تفضيل صوت الفحيح على صوت الحبّ هذا، كيف يمكنها أن ترغب بمعرفة ليست الله…
وبشفتيَّ اللتين لم تكونا تعرفان بعد سوى حليب أُمّي، بقلبي الذي كان قد سَكِر بالعسل السماويّ، قلتُ آنئذ: “ها أنا ذا آتي، إنّي لكَ. ولن يمتلك جسدي معلّمٌ سواكَ، أنتَ ربّي، كما لن يكون لروحي حبّ آخر”… وحينما قُلتُها، كان يبدو لي أنّني أردّد أشياء قيلت سابقاً، وأمارس شعائر قد مُورِسَت سابقاً، لم يكن العروس الذي اخترتُه غريباً لأنّني كنتُ أعرف حرارة حبّه، وكان نَظَري قد تمرّس على نوره، كما أنّ قدرتي على الحبّ كانت قد نمت بين ذراعيه.
متى؟… لستُ أدري. حتماً خارج الحياة الحاضرة. أقول هذا لأنّ إحساساً كان يخامرني بأنّني كنتُ أمتلكه على الدوام، وأنّه كذلك كان يمتلكني، وأنّني ما وُجِدتُ إلّا لأنّه هو نفسه أراد ذلك لفرح روحه وروحي…
الآن، أنا رهن الطاعة أيّها الكاهن. ولكن قل لي كيف يجب أن أتصـرّف… لم يعد لي أب ولا أُمّ، فكن أنتَ مُرشِدي».
«سوف يمنحكِ الله العروس، عروساً قدّيساً لأنّكِ وثقتِ به، وسوف تبوحين له بنذركِ».
«هل سيوافق؟»
«أتمنّى ذلك. صلّي أيّتها الفتـاة لكي يســتطيع تفهّم قلـبكِ. اذهبي الآن وليرافقكِ الله على الدوام.»
وتنسحب مريم مع حنّة، ويبقى زكريّا مع الكاهن.
وهكذا تنتهي الرؤيا.