28- منشور الإحصاء | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
28- منشور الإحصاء
04 / 06 / 1944
ما زلتُ أرى بيت الناصرة: الغرفة الصغيرة حيث تتناول مريم عادة طعامها. إنّها في هذه الأثناء مُنهَمِكة بشغل مِن القماش الأبيض. وتضع شغلها جانباً لتذهب وتُشعِل المصباح، فالليل يُرخي سدوله، والنور الـمُخضرّ الـمُتسلّل مِن الباب المواَرب على الحديقة لم يَعُد كافياً. وتُغلِق الباب. أدركتُ أنّ حَـمْلَها أصبَح متقدّماً جدّاً. ولكنّها ما تزال جميلة جدّاً. مشيتها سَلِسَة، وسلوكها رشيق. ولا شيء مِن التثاقُل الذي يَظهَر عادة على امرأة تُوشِك أن تضع وليدها. الوجه فقط قد تغير.
الآن هي “امرأة”، بينما في السابق، في زمن البِشارة كانت شابّة فتيّة، ذات وجه هادئ وديع: وجه طفل بريء. ومنذ أن كانت في منزل أليصابات، في لحظات ولادة المعمدان، أصبَحَ وجهها أكثر صفاء، فقد نَضَجَ جمالها. أمّا الآن، فإنّه الوجه الساكن إنّما المطبوع بطابع الوقار اللطيف لامرأة بلغت كمالها بالأمومة.
لقد أصبَحَت مريم الآن بحقّ “المرأة” الممتلئة وقاراً ونِعمة. حتّى ابتسامتها، فقد تفتَّحَت بعذوبة مهيبة. كم هي جميلة!
يَدخُل يوسف. يبدو أنّه عائد مِن البلدة، لأنّه يَدخُل مِن الباب الخارجي وليس مِن باب الـمَشغَل. ترفع مريم رأسها وتبتسم له، كذلك يوسف يُبادِلها الابتسامة، إلّا أنّه يبدو مُتعَباً قَلِقاً. تُلاحِظ مريم ذلك، وتتساءل ماذا هناك. ثمّ تَنهَض وتأخذ المعطف الذي ينزعه يوسف وتضعه على كرسيّ.
يَجلس يوسف قرب الطاولة. يَسند عليها مرفقه، ورأسه مُستَنِد إلى يده، بينما هو يتلمّس لحيته باليد الأخرى قَلِقاً.
تسأله مريم: «ألديكَ ما يجعلكَ تعاني؟ هل أستطيع التخفيف عنكَ؟»
«أنتِ عزائي على الدوام يا مريم، ولكنّ همّي في هذه المرّة كبير… لأجلكِ.»
«لأجلي أنا، يا يوسف؟ ماذا هناك؟»
لقد أَلصَقوا مَنشوراً على باب الكنيس. إنّه أمر بإحصاء كلّ الفلسطينيّين. يجب الذهاب للاكتتاب في مكان الأصل. فيجب علينا نحن أن نذهب إلى بيت لحم…»
«آه!» تُقاطِعه مريم وهي تضع يدها على صدرها.
«هذا يثيركِ، أليس كذلك؟ إنّه قاس، أنا أعرف.»
«لا يا يوسف، ليس هذا. إنّني أفكّر… أفكّر في الكتاب المقدّس: راشيل أُمّ بنيامين وزوجة يعقوب التي منها سيُولَد الكوكب: المخلّص. راشيل مدفونة في بيت لحم، وقد كُتِبَ: “وأنتِ يا بيت لحم إفراتا، أنتِ الأصغر في قضاء يهوذا، ولكن منكِ يَخرُج الـمَلِك”. الـمَلِك الموعود به لذريّة داود سيُولَد هناك…»
«أتعتقدين… أتعتقدين أن الزمن قد حان؟ آه! كيف سنعمل؟» يوسف حائر تماماً. إنّه يَنظُر إلى مريم نظرة إشفاق.
تُلاحِظ مريم ذلك فتبتسم. إنّها تبتسم لنفسها أكثر منها له، ابتسامة تبدو وكأنّها تقول: «إنّه رجل بارّ ولكنّه إنسان. يرى الأمور كإنسان. يفكّر كإنسان. أَشفِقي عليه يا نفسي واجعليه يُحاكِم الأمور بالروح.» ولكنّ صلاحها وطيبتها يدفعانها لطمأنته. إنّها لا تكذب، ولكنّها تسعى إلى تسليته في كُربَتِه. «لا أعرف يا يوسف. الموعد قريب، ولكن ألا يمكن للربّ تأخيره لانتشالكَ مِن قلقكَ؟ إنّه قادر على كلّ شيء، فلا تخف.»
«ولكنّ السفر؟… مَن يدري أيّ ازدحام سيكون! هل سنجد مأوى لائقاً؟ هل سنجد الوقت للعودة؟ وإذا اضطررتِ للولادة هناك فما العمل؟ لا بيت لنا… ولم نعد نعرف أحداً…»
«لا تخف، فإن كلّ شيء سيسير على ما يرام. إنّ الله يجعل الحيوان الذي على وشك الولادة يَجِد ملجأ. أفتريده أن يجعل مسيحه لا يَجِد مأوى؟ فلنثق به. أليس كذلك؟ فلنتوكلّ عليه دائماً. وكلّما كانت التجربة كبيرة كلّما توجَّبَت زيادة الثقة والاتكال. وكمِثل طفلين فلنضع يدينا في يده كأب. وهو يُرشِدنا. فلنترك أنفسنا تماماً بين يديه.
انظُر كيف أوصَلَنا إلى هنا بحبّ. إنّه أب، وهو الأفضل بين الآباء، أفلا يُعيرنا انتباهه؟ فلنكن أبناءه وخدّامه ولنتمّم مشيئته. لا يمكن أن يصيبنا أيّ مكروه. حتّى هذا المنشور هو وفق مشيئته. إذ مَن يكون قيصر إذن؟ إنّه أداة في يدي الله. منذ اللحظة التي قرَّرَ الآب فيها الصفح عن الإنسان، فقد حَدَّدَ مُسبَقاً الأحداث كي يُولَد مسيحه في بيت لحم.
إنّها المدينة الأصغر في يهوذا، ولم تكن بعد موجودة، ومع ذلك فمجده كان قد أُعلِن آنذاك. كان يجب أن يتحقّق هذا المجد. فكلام الله لا يعرف الكذب -وسيكذب إن وُلِد المسيح في أيّ مكان آخر- وها هو أحد السلاطين قد نُصِّبَ بعيداً عن هنا، وقد غَزانا، وهو يريد أن يعرف عدد التابعين له، الآن بالذات، بينما العالم في سلام…
آه! ما قيمة تعبنا القليل إذا ما فكّرنا بروعة لحظة السلام هذه، يا يوسف؟ فَكِّر بالأمر: زمن تنتفي فيه البغضاء مِن العالم! هل توجد ساعة أكثر سعادة لبزوغ “النجمة”، حيث النور إلهيّ والفاعليّة فداء؟ آه! لا تخف يا يوسف. إذا لم تكن الطرقات آمنة، وإذا كان الحشد يجعل السفر صعباً، فالملائكة ستُدافِع عنّا وتحرسنا. ليس لأجلنا، بل لأجل مَلِكها. وإذا لم نجد ملجأ فستأوينا تحت أجنحتها. لن يصيبنا أذى. لا يمكن أن يحدث شيء: فالله معنا.»
يَنظُر إليها يوسف ويستمع إليها بنشوة. تزول أخاديد جبهته، وتعود الابتسامة. يَنتَصِب دون سأم ودون حزن. يبتسم. «مباركة أنتِ يا شمس نفسي! أنتِ المباركة تعرفين أن تري كلّ شيء بنور النعمة التي تملأكِ! فلا نضيعنّ الوقت إذن. علينا الرحيل بأقصى سرعة و… العودة بأسرع وقت لأن كلّ شيء هنا جاهز لـــ… لـــ…»
«لابننا يا يوسف. هكذا يجب أن يبدو في نَظَر العالم، تذكّر. لقد أحاط الآب قدومه بسريّة، وليس لنا نحن أن نميط اللّثام. هو، يسوع، سيَفعَل ذلك عندما يحين الوقت.»
لا يمكن وصف جمال وجه ونظرة وقوام وصوت مريم عندما تقول: “يسوع”… إنّها النشوة. وعلى منظر هذه النشوة تنتهي الرؤيا.
تقول مريم:
«لن أضيف الشيء الكثير، فكلامي أصبَحَ عِبرة.
إنّي ألفت انتباه العروسات إلى نقطة هامّة. ارتباطات كثيرة قد انحَلَّت بسبب خطأ النساء اللواتي لا يتحلّين بهذا الحبّ الذي هو كلّ شيء: لُطف، عطف، رعاية وَدودَة، وعزاء للزوج. إنّ الرجل لا تُرهِقه المعاناة الجسمانيّة التي تُرهِق كاهل المرأة، إنّما يُرهِقه ثِقل كلّ الهموم المعنويّة: ضرورة العمل، القرارات الحاسمة، المسؤوليّة تجاه كلّ السلطات الشرعيّة وتجاه عائلته ذاتها…
آه! كم مِن الأشياء التي تُرهِق الرجل! وكم هو كذلك بحاجة إلى السلوان! أمّا الأنانيّة فتكمن في أن تزيد المرأة على كاهل الرجل الـمُتعَب والـمُحبَط والـمُنتَقَص قدره والـمَهموم، ثِقل شكاواها غير المجدية وأحياناً غير الصحيحة وغير العادلة. كلّ ذلك لأنّها أنانيّة. فهي لا تحبّ.
الحبّ ليس البحث عن إرضاء الأحاسيس أو الاهتمامات الشخصيّة. إنّما الحبّ هو إرضاء مَن نحبّ بتجاوز الإحساس والمنفعة، هو أن نمنَح روحه المساعدة التي تحتاجها ليستطيع المحافظة على جناحيه مفتوحتين في سماوات الرجاء والسلام.
نقطة أخرى ألفت انتباهكم إليها. لقد تكلّمتُ عنها سابقاً، ولكنّي ألحّ عليها: الثقة بالله. فالثقة تُلخِّص في ذاتها كلّ الفضائل الإلهيّة. والتحلّي بالثقة يعني التحلّي بالإيمان. التحلّي بالثقة يَفتَرِض الرجاء. التحلّي بالثقة يعني اختبار الحبّ.
ففي حبّ شخص والرجاء والإيمان به تكمن الثقة. وغير هذا فلا. الله يستحقّ مثل هذه الثقة التي يجب أن تكون ثقتنا نحن. فإذا كنّا نَمنَحها لأناس مساكين، قادرين على عدم الاستجابة، فلماذا نحجبها عن الله الذي لا يُقَصِّر معنا أبداً؟
الثقة هي أيضاً تواضُع. يقول المتكبّر: “أنا أكتفي بذاتي. أنا لا أثق بهذا لأنّه عاجز، كاذب ومغرور” أمّا المتواضع فيقول: “أنا أثق به. ولماذا لا أثق به؟ لماذا ينبغي لي أن أفكّر بأنّني أفضل منه؟” وبإدراك أكثر يتكلّم هكذا عن الله: “لماذا ينبغي لي ألّا أَثِق بـمَن هو صالح؟ لماذا ينبغي لي أن أفكّر أنّني أستطيع الاكتفاء بذاتي؟” الله يُعطي ذاته للمتواضع ولكنّه يَبتَعِد عن المتكبّر.
الثقة هي أيضاً طاعة. والله يحبّ المطيع. والطاعة تعني أن نتعرّف على بعضنا كأبناء له وأن نعرف الله أباً لنا. ولا يستطيع الأب سوى أن يحبّ عندما يكون أباً حقيقيّاً. والله هو أبونا الحقيقيّ، وهو أب كامل.
النقطة الثالثة التي أريدكم أن تتأمّلوا بها، وهي ترتكز دائماً على الثقة. لا يمكن أن يَحدُث شيء دون إذن الله. هل أنتَ قادِر؟ فأنتَ كذلك لأنّ الله قد سَمَحَ به. هل أنتَ خاضِع للسلطة؟ فأنتَ كذلك لأنّ الله قد سَمَحَ به.
اعْمَل إذاً أيّها القادر على ألّا ترتكب بِقُدرَتكَ شرّاً. فسيكون ذلك دائماً “شرّكَ” حتّى ولو كان في البداية شرّ الآخرين. لأنّه إن سَمَحَ الله فلا يَسمَح بكلّ شيء، وإذا ما تجاوَزتَ الحدود فإنّه يضربكَ ويحطّمكَ. مِن ناحيتكَ، يا مَن أنتَ مجرّد فاعل، اجتَهِد في أن تجعَل مِن هذا الظَّرف الذي هو ظَرفكَ مغناطيساً يَجذب إليكَ الحماية السماويّة. ولا تَلعَن أبداً. دع ذلك لله. فله، هو ربّ كلّ الناس، له وحده أن يُبارِك أو يَلعَن مخلوقاته.
اذهبي بسلام.»