11- نشيد مريم يتوسل مجيء المسيح | قصيدة الإنسان – الإله

1٬789
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

11- نشيد مريم يتوسل مجيء المسيح

02 / 09 / 1944

مساء أمس الجمعة فقط، أُنيرَت نفسي استعداداً للرؤيا. لم أر شيئاً آخر سوى:

مريم فتيّة، عمرها حوالي اثني عشر عاماً على الأكثر، لم تعد لوجهها الصغير سمة الطفولة الدائريّة، ولكن التطاوُل الـمُرتَسِم على وجهها يقود للتخمين بأنّها امرأة، وشعرها لم يعد منسرحاً على عنقها بتقصيبات خفيفة، ولكنّه جُمِعَ الآن في ضفيرتين كبيرتين مِن الذهب الفاتح – إنّه فاتح لدرجة أنّه يبدو ممزوجاً بالفضة – مشلوحتين على الكتفين وتَصِلان إلى الوركين. والوجه أكثر رزانة وأكثر نضجاً مع كونه وجه طفلة جميلة وطاهرة.

إنّها ترتدي الأبيض بالكامل، وهي تخيط في غرفة صغيرة جدّاً وبيضاء. ومِن خلال النافذة المفتوحة يمكن رؤية بناء الهيكل المركزيّ الضخم، وكذلك أدراج الساحات الصغيرة المنحدرة والأروقة، وخلف حائط السور تُرَى المدينة بشوارعها وبيوتها وحدائقها، وفي البعيد تلوح قمّة جبل الزيتون المحدَّبة.

إنّها تخيط وترتّل بصوت خافت. لا أدري إذا كانت ترتيلة مقدّسة. ها هي:

«كما على صفحة مياه مضيئة كالمرآة، هناك نجمة،

تتلألأ وتتجلّى في أعماق قلبي،

تسكنني دائماً منذ طفولتي،

وبكلّ عذوبة، تقودني بحبّ.

إنّها ترتيلة في أعماق قلبي،

ولكن مِن أين يمكن لها أن تأتي؟

أنت لا تعرفها أيّها الإنسان،

إنّها تأتي مِن حيث القدّوس يقيم.

وأنا أنظر إلى نجمتي المشرقة،

رافضة كلّ شيء سواها،

حتّى ولو كان الأكثر نعومة وثمّناً.

ليس لي سوى إشراقتها العذبة، فهي لي بكلّيتها.

لقد حَمَلَتني مِن أعالي السماء،

نجمة بأحشاء أُمّ.

أراكِ يا صورة الآب المجيدة،

تعيشين الآن في داخلي، إنّما وراء الحُجُب.

متى ستمنَحني، أيّها الآب القدّوس، الشرف،

لأكون خادمة المخلّص المتواضعة؟

أرسِل مِن السماء، أرسِل لنا المسيح.

وتَقَبَّل تقدمة مريم.»

وتصمت مريم وتبتسم وتتنهّد، ثمّ تجثو على ركبتيها للصلاة، ويصبح وجهها الصغير كتلة ضياء، ويرتفع نظرها صوب لازورد سماء صيف رائع، ويبدو أنّ أنوار السماء كلّها قد انسحبت إليها وتوهجّت بها. أو بالأصح، يبدو أنّ شمساً مختبئة في أعماقها تأجّجت بأنوارها وأنارت الثلج المائل قليلاً إلى الوردي في بشرة مريم، ومِن ثمّ تناثَرَت على كلّ الأشياء، وعلى الشمس التي تنير الأرض مع مباركتها ووعدها بكثير مِن الخير.

وبينما تهمّ مريم بالنهوض بعد صلاة الحبّ، تَثبُت على وجهها إشراقة الانخطاف. وفي هذه اللحظة تدخل العجوز حنّة التي لفانوئيل. وتقف متردّدة، أو على الأقلّ مندهشة مِن فِعل ومظهر مريم ثمّ تناديها: «مريم». وتلتفت الشابّة بابتسامة مختلفة، ولكنّها دائماً جميلة جدّاً، وتُلقي التحيّة: «حنّة، السلام لكِ».

«أكنتِ تُصلّين؟ ألا تبلغين كفايتكِ أبداً في الصلاة؟»

«إنّ الصلاة تكفيني، ولكنّني أتكلّم مع الله. حنّة، لا يمكنكِ تصوّر كم أشعر به قريباً منّي، بل أكثر مِن قريب: في قلبي. ليغفر لي الله كبريائي هذا. إلّا أنّني أبداً لم أشعر بنفسي وحيدة. أترين؟ هنا، في هذا البيت الذي مِن ذهب وثلج، خلف الحجاب المزدوج، يوجد قدس الأقداس. ولا تستطيع عين، إن لم تكن عين كبير الكَهَنَة أن تتوقّف عند مذبح الاستغفار، حيث يقيم مجد الربّ.

ولكنّني لستُ في حاجة إلى النظر إلى هذا الحجاب المزدوج المطرّز الذي تجلّه نفسي بكلّ احترام، والذي تهزّه موجات تراتيل العذارى واللاويّين، والذي يَنشُر تصاعد البخور الثمّين، كما لاختراق كثافته والسماح برؤية البيّنة. بكلّ تأكيد أنظر إليه! لا تخشي ألاّ أنظر إليه باحترام، كابنة إسرائيل.

لا تخشي أن يعميني الكبرياء ويجعلني أفكّر بما أقوله لكِ الآن. إنّني أنظر إليه، وليس هناك خادم متواضع مِن شعب الله ينظر إلى بيت الربّ بأكثر تواضعاً منّي، أنا التي اقتنعتُ بأنّني أقلّ شأناً مِن الجميع. ولكنّني ماذا أرى؟ حجاباً. وماذا أتخيّل خلف الحجاب؟ تابوت العهد. وماذا في تابوت العهد؟ ولكنّي إذا وجّهتُ نظري إلى أعماق قلبي أرى الله الذي يتألّق بمجد حبّه يقول لي: “أنا أحبّكِ”. وأنا أقول لـه: “أحبّكَ”. وأذوب لأتجدّد مع كلّ خفقة مِن قلبي في هذه القُبلة المتبادَلَة…

أنا، فيما بينكنّ، أيّتها المعلّمات والزميلات العزيزات، ولكنّ دائرة نار تعزلني عنكنّ. ضمن هذه الدائرة: الله وأنا. إنّي أراكنّ مِن خلال نار الله، وهكذا أحبكنّ… ولكنّني لا أستطيع أن أحبكنّ بحسب الجسد، كما لا أستطيع أن أحبّ أحداً بحسب الجسد. إنّ حبّي الوحيد هو هذا الذي يحبّني وبحسب الروح.

أعرف مصيري، الشريعة المتوارَثَة في إسرائيل تريد أن تجعل مِن كلّ عذراء عروسة، ومِن كلّ عروسة أُمّاً. ولكنّي، أنا التي تحت الشريعة أطيع الصوت الذي يقول لي: “أريدكِ”. عذراء أنا وسأبقى كذلك. أمّا كيف سأستطيع؟ فإنّ هذا الصوت، الوجود غير المرئيّ إلى جانبي، سيمدّني بالعون، لأنّه هو الذي يريد ذلك. وأنا لستُ خائفة.

لم يعد لي أب ولا أُمّ… وما مِن أحد، سوى الأزليّ، يعرف بأيّ نوع مِن الألم أضناني ما أصابني بشريّاً. كان ألمـاً فظيعاً، بل أكثر مِن فظيع. والآن لـيس لي سوى الله، لذلك أطيعهُ طاعة عمياء… كنتُ سأفعل ذلك حتّى بغير رضى الأب أو الأُمّ، لأنّ الصوت يُعلِمني أنَّ مَن يريد اتّباعه، عليه تجاوز أوامر الأهل؛ دوريّات الحرس التي تدور بعشق حول الجدران التي تحمي ابنتهم التي يريدون أن يقودوها إلى السعادة بطريقتهم هُم. دون أن يَعلَموا أنّ هنـاك طرقاً أخـرى تقود إلى السعادة اللامتناهية…

كنتُ سأترك الثياب والمعطف لألحق بالصوت الذي يقول لي: “تعالي يا محبوبتي، يا عروستي”. كنتُ سأترك كلّ شئ. ولآلئ دموعي، إذ إنّني كنتُ سأبكي لاضطراري مخالفة الأمر، لأنّي كنتُ سأتحدّى الموت لألحق بالصوت الذي يناديني. كانوا سيقولون لهم إنّ هناك ما هو أعظم مِن حبّ أب وأُمّ، بل وأعذب أيضاً، إنّه صوت الله.

ولكن إرادته تُحرّرني الآن أيضاً مِن روابط العطف البنويّ، عدا عن ذلك، لم يكونا ليَحبِساني، فقد كان أبواي صالحين وكان الله يحدّثهما في أعماق قلبيهما كما يكلّمني. كانا سيتبعان طريق الحقّ والعدل. عندما أفكّر بهما، أراهما في الراحة الأبديّة إلى جانب الآباء، وأنا أتعجّل بتضحيتي قدوم الماسيا الذي سيَفتَح لهما أبواب السماء. على الأرض أنا واقفة، أو بالأحرى الله هو الذي يوجّه خادمته بالإيعاز بأوامره، وأنا أنفّذها، لأنّ سعادتي تكمن في تنفيذها. وحين تأتي الساعة سأبوح لعروسي بالسرّ… وهو سوف يتقبّله.»

«ولكن يا مريم… ما نوع الكلمات التي ستجدينها لإقناعه؟ فإنّكِ سوف تواجِهين حبّ رَجُل، وكذلك الشريعة والحياة.»

«سيكون الله معي… وهو الذي سيفتح قلب عروسي للنور… سوف تفقد الحياة شوكة الأحاسيس، وتصبح زهـرة طاهرة تفوح منها عطور المحبّة. أمّا الشريعة… حنّة، لا تقولي عنّي مُجدِّفة، ولكنّني أعتقد أنّ الشريعة ستتغيّر. ومَن يفعل ذلك إذا كانت إلهيّة؟ الذي وحده يمتلك القدرة على ذلك: الله.

والزمن قريب أكثر مما تتصوّرين، أقولها لكِ. فعند قراءتي سفر دانيال شَعّ في داخلي نور عظيم آتٍ مِن مركز قلبي وروحي، وقد أُدرِك معنى كلماته السريّة. هل ستُختصر الأسابيع السبعون، أو يتغيّر عدد السنوات بسبب صلوات المستقيمين؟ لا. فالنبوءات لا تكذب. إنّما لن تكون الدورة الشمسيّة هي مقياس زمن النبوءة، بل الدورة القمرية. لذلك أقول لكِ: “قريبة هي الساعة التي يُسمَع فيها بكاء وليد العذراء.”

آه! كم أرغب أن يخبرني هذا النور الذي يحبّني ويقول لي أشياء كثيرة أين هي العذراء المغبوطة التي ستلد ابن الله وماسيا شعبه! وأنا أسير إليها ولو حافية، وأقطع الأرض، فلا البرد ولا الثلج ولا الغبار ولا القيظ ولا الضواري ولا الجوع سيوقفني قبل الوصول إليها لأقول لها: “امنحي خادمتكِ وخادمة خدّام المسيح أن تحيى تحت سقف بيتكِ. سأدير الرحى والمعصرة، اجعليني أَمَة في المعصرة أو راعية لقطيعكِ، اجعليني أغسل أقمطة ابنكِ، أو في المطبخ أو حتّى في الفرن… حيثمّا تريدين ولكن فقط اقبليني”.

لو أني أراها! لو أني أَسمَع صوتها‍! لو أني أحظى بنظرة منها! وإذا لم تقبل بي فسأكون مستجدية على بابها أعيش مِن الحسنات، وأتحمّل السخريات دون سقف، وأُعرّض نفسي للقرّ والحرّ الشديد، فقط لكي أسمع صوت الماسيا الطفل وصدى ضحكاته، ومِن ثمّ رؤيته يَعبُر… قد أحصل منه يوماً على كسرة خبز على سبيل الحسنة…

آه! حينئذ لو عَصَفَ الجوع بمعدتي وشَعَرتُ بخوار قوَّتي بعد صوم طويل، فلن آكل تلك الكسرة مِن الخبز، بل سأضمّها بقوّة إلى قلبي مثل كنز وجواهر، وأُقبّلها لأشمّ عطر يد المسيح، ولن أشعر بجوع ولا برد، لأنّ هذا التلامُس سيمنحني النشوة والدفء، النشوة والغذاء…»

«المفروض أن تكوني أنتِ أُمّ المسيح، أنتِ يا مَن تحبّينه إلى هذه الدرجة. ألأجل هذا تريدين البقاء عذراء؟»

«آه! لا. أنا لستُ سوى بؤس وغبار. ولستُ أجرؤ على رفع نَظَري إلى المجد. ولأجل هذا أريد النَّظر إلى أعماق قلبي أكثر مِن نظري إلى الحجاب المزدوج، حيث أعلم أنّ يهوه غير المنظور موجود خلفه. فهناك إله سيناء الجبار؛ وهنا في داخلي أرى أبانا، وجهاً يتألّق بالحبّ، يبتسم لي ويباركني لأنّني صغيرة كفرخ عصفور يحمله الهواء دون أن يشعر بوزنه، وضعيفة كقصبة زنبق الوادي البرّي الذي لا يعرف سوى أن يُزهِر ويُعَطِّر، ولا يقابل الهواء بغير نعومة قوّته العَطِرة والطاهرة.

يا الله، يا نسمة حبّي، لا، ليس لي هذا الطموح، أمّا الذي سيولد مِن الله ومِن عذراء، فلن يرضى هذا الكلّيّ قدسه إلاّ بالّتي اختارها في السماء أُمّاً لـه، والتي تحدّثه في الأرض عن أبيه السماويّ: الطهارة. فلو تأمّلتِ الشريعة في هذا، ولو كان المشرّعون الذين بالغوا في دقائق تعاليمهم، لو أداروا أرواحهم صوب آفاق أكثر سموّاً، وغاصوا في أعماق الفائق الطبيعة، تاركين جانباً البشريّ والنافع، ناسين الهدف العظيم مِن أبحاثهم، فقد كان يتوجّب توجيه تعاليمهم بشكل خاصّ صوب الطهـارة كي يجدها مَلِك إسرائيل عند قدومه، مع شجرة زيتون محبّ السلام وسعف نخل المنتصِر؛ انشروا زنابق، وزنابق، وزنابق…

كَم مِن الدم يجب أن يُراق ليفتدينا المخلّص! كم! آلاف وآلاف مِن الجروح رآها اشعيا على جسد رجل الآلام، ها إنّ وابلاً مِن الدم يتساقط مثل قطرات إناء مسامي. ليت هذا الدم الإلهيّ لا يتساقط حيث الكُفر والتجديف، إنّما في كؤوس الطهارة العَطِرَة التي تتقبّله وتستقبله لتنشره على مرضى النفوس، على النفوس المجذومة، على كلّ الذين ماتوا في سبيل الله.

قَدِّموا زنابق، قَدِّموا زنابق لمسح عرق ودموع المسيح، مع ثوب بتلات طاهرة أبيض! قَدِّموا زنابق، قَدِّموا الزنابق مِن أجل اضطرام حرارة شهادته! آه! أين ستكون الزنبقة التي تحملكَ؟ أو التي ستروي ظمأكَ؟ أين ستكون التي تتخضّب بدمكَ وتموت ألماً إذا رأتكَ تموت؟ أين التي ستبكي على جسدكَ الذي أريق دمه كلّه؟ آه! أيّها المسيح! آه! أيّها المسيح! واحسرتاه!…»

وتصمت مريم ذائبة في البكاء منهارة.

تصمت حنّة بعض الوقت ثمّ تقول بصوتها المشرق، بصوت امرأة عجوز متأثّرة: «هل هناك أشياء أخرى تُعَلِّمينيها، يا مريم؟»

تعود مريم إلى يقظتها. وتظنّ في تواضعها أنّ معلّمتها تلومها، فتقول: «آه! أنا آسفة! أنتِ معلّمة وأنا مجرّد لا شيء، مسكينة، ولكن هذا الكلام قد فاض مِن قلبي. ولقد حرصتُ كثيراً على ألاّ أقوله. ولكنّه مثل نهر في عنفه المتزايد يحطّم السدود. لقد أُخِذتُ فتجاوزَت كلمتي الحدود. لا تُقيمي وزناً لكلامي، ولا تهتمّي لتخميني. كان مِن المفروض أن تبقى الكلمات السريّة في طيّ الكتمان ضمن القلب الذي بارَكَه الله بصلاحه. أنا أعرف ذلك، ولكنّ هذا الحضور غير المرئيّ يُسكِرني بعذوبته… حنّة اغفري لخادمتكِ الصغيرة!»

تضمّها حنّة بقوّة إلى صدرها ويرتعش وجه العجوز المجعّد بكلّيته ويلمع مع البكاء، فتتسلّل الدموع بين التجعّدات كما تفعل المياه على الأرض المتضارسة قبل أن تتحوّل إلى بحيرة ترتجف. ولكنّ المعلمة العجوز لا تُثير ضحكاً: ففي القريب العاجل، ستُبدي أعظم الإجلال.

مريم بين ذراعيها، وجهها الصغير على صدر المعلّمة العجوز… وهكذا ينتهي كلّ شيء.


يقول يسوع:

«كانت مريم تتذكّر الله. كانت تحلم بالله. كانت تعتقد أنّها تحلم. بينما لم تكن تقوم سوى بإعادة رؤية كلّ ما كانت روحها قد رأته في تألُّق سماء الله، في اللحظة التي خُلِقَت فيها للاتّحاد بالجسد الذي حُبِلَ به على الأرض. كانت تقتسم مع الله صفة مِن صفاته، ولو بطريقة متفاوتة جدّاً، كما تقتضيه العدالة، صفة التذكّر، الرؤية والتوقّع بفضل ذكاء قادر وكامل، لأنّ الخطيئة لم تكن قد جَرَحَتها.

لقد خُلِقَ الإنسان على صورة الله كمثاله، وإحدى صفات التشبّه هذه تكمن في إمكانيّة الروح على التذكّر، على الرؤية وعلى التوقّع. هذا ما يفسّر إمكانيّة قراءة المسـتقبل، هذه القدرة التي تُمارَس بمشيئة الله، غالباً بطريقة مباشرة، وأحياناً بتذكّر يقوم كالشمس، في ذات صبح، منيراً نقطة محدّدة مِن أُفُق الدهور، محفوظة غالباً في قلب الله. إنّها أسرار أكثر سموّاً مِن أن تستطيعوا فهمها بالكامل.

ولكن تصوّروا، هذا الذكاء الخارق، هذا الفكر الذي يعرف كلّ شيء، وهذه العين التي ترى كلّ شيء، وهذا الذي خَلَقَكم بفعل إرادته، وبنفحة مِن حبّه اللامتناهي بجعلكم أبناءه بأصلكم، وكذلك أبناءه بمصيركم، فهل يستطيع إعطاءكم شيئاً مختلفاً عنه؟ إنّه يعطيكموه بجزء لا متناه في الصغر، لأنّ الخليقة لا تستطيع أن تستوعب الخالق، ولكنّ هذه القسمة تامّة وكاملة رغم صغرها اللامتناهي.

يا للكنز، الذكاء الذي يمنحه الله للإنسان، لآدم! والخطيئة قد قلّصته، ولكنّ تضحيتي قد أعادته إلى ما كان عليه، وفَتَحَت روائع الذكاء، أنهُره، وعِلمه. آه! سناء النفس البشريّة المتّحدة بنعمة الله، مُقتسِمة معه سِعة معارفه!… النَّفْس البشريّة المتّحدة بالله بواسطة النعمة.

لا يوجد شكل آخر للمعرفة. فليتذكّر ذلك أولئك الذين يبحثون بفضول عن الأسرار التي تتجاوز القدرات البشريّة، إنّ كلّ معرفة مِن هذا النوع لا تأتي مِن نَفْس في حالة النعمة، لا يمكن أن تأتي إلاّ مِن الشيطان – وكلّ نفس تتصدّى لشريعة الله حيث الأوامر واضحة جدّاً ليست في حالة النعمة – ومِن الصعب أن تُماثِل الحقيقة في المقياس الذي تُنسَب فيه إلى البراهين الإنسانيّة، ولا تُماثِلها أبداً في المقياس الذي تُنسَب فيه إلى فائق البشر، لأنّ الشيطان هو أبو الكذب ويجرّ معه ما استطاع على درب الكذب.

لا توجد طريقة أخرى لمعرفة الحقيقة غير تلك المتأتّية مِن عند الله. إنّه يكلّمنا، ويقول ويعيد إلى ذاكرتنا، كما الأب يعيد إلى ذهن ابنه ذكرى تتعلّق بالمنزل الأبويّ، ويقول لنا: “هل تذكر يوم فعلتَ الشيء الفلاني معي، رأيتَ هذا وسمعتَ ذاك؟ هل تذكر يوم قبّلتكَ عند رحيلكَ؟ هل تَذكُر يوم رأيتَ الشمس لأوّل مرّة تسطع مِن وجهي على روحكَ البِكر، المخلوقة حديثاً والطاهرة أيضاً لأنّها خارجة للتوّ منّي، والشوائب التي انتَقَصَت منكَ فيما بعد؟ هل تتذكّر يوم أدركتَ بخفقان حبّ مِن قلبكَ ما هو الحبّ؟ ما هو سرّ كياننا وتصرّفنا؟” وهنا حيث تتوقّف القدرة المحدودة للإنسان في حالة النعمة، هو ذا روح العلم الذي يُثقِّف يتحدّث.

ولكن لامتلاك الروح، لا بدّ مِن النعمة، ولامتلاك الحقيقة والعلم لا بدّ مِن النعمة، لوجود الأب مع الذات لا بد مِن النعمة. إنّها الخيمة التي يُقيم فيها الأقانيم الثلاثة سَكَنهم، مكان الاسـتغفار حيث يُقيم الأزليّ ويتكلّم، ليس مِن قلب سحابة، ولكن بالكشف عن وجهه إلى ابنه الوفي.

القدّيسون يعيدون استذكار الله، الكلمات المسموعة في الفكر الخلاّق، التي يحييها الصلاح في قلوبهم لترفعهم كالنسور في تأمّل الحقيقة وفي معرفة الزمن.

كانت مريم الممتلئة نعمة. كلّ النعمة، الواحدة والثالوث، كانت فيها. كلّ النعمة، الواحدة والثالوث كانت تهيّئها كعروسة لحفل العرس، كسرير الزفاف مِن أجل ذريتها، كإلهيّة مِن أجل أمومتها ورسالتها. وهي التي تَختَتِم دائرة البنوة في العهد القديم وتَفتَتِح دائرة “الناطقة باسم الله” في العهد الجديد.

تابوت العهد الحقيقيّ لكلمة الله، وهي تنظر إلى أحشائها التي لم يمسّها أحد منذ الأزل، كانت تكتشف كلمات العلم الأزليّ وقد خطتها يد الله على قلبها المنزّه عن كلّ عيب، وتتذكّر مثل كلّ القدّيسين أنّها سَمِعَتها عندما كوّنها الله الآب، الخالق كلّ ذي حياة، مع نفسها غير المائتة.

وإذا لم تتذكّر كلّ شيء عن رسالتها المستقبليّة، فَلِسَبب هو أنّ الله يترك في كلّ كمال إنسانيّ ثغرات، مَرَدّها إلى الحكمة الإلهيّة، وهي بمثابة الصلاح لخليقته، لأنّها تُقدّم لها فُرَصاً للاستحقاق. كان على مريم، حوّاء الثانية، أن تكتسب حصّتها مِن الاستحقاق لتكون أُمّ المسيح بصدق نيّتها الأمينة، تلك النيّة الصادقة التي أرادها الله حتّى مِن قبل المسيح ليجعل منه فادياً.

روح مريم كانت في السماء. وأخلاقها وجسدها على الأرض، وكان عليها أن تطأ بقدميها الأرض والجسد لتصل إلى الروح الذي يوحّدها بالروح الأسمى في عناق خصيب.»


ملاحظة شخصيّة: طوال يوم أمس، كنتُ أفكّر في رؤيا إعلان موت الأهل مِن قِبَل زكريّا، لستُ أدري لماذا. وكذلك كنتُ أفكّر، على طريقتي، كيف سيُعالِج يسوع نقطة «تذكّر الله مِن قِبَل القدّيسين». وهذا الصباح، عندما بَدَأَت الرؤيا، قلتُ لنفسي: «سيقال الآن إنّ مريم يتيمة». وكان قلبي يعتصر… كان حزن الأيّام الأخيرة هو نفسه الذي اختبرتُهُ وأحسستُ به. بالعكس، لم تكن الرؤيا كما ظننتُ أن أرى وأسمع، ولا حتّى بتلميح بسيط.

هذا كان عزائي، لأنّي قلتُ لنفسي: لا شيء في أعماقي أنتظره، ولا حتّى تخمين بسيط لنقطة معيّنة. كلّ شيء يأتي بالضبط مِن مُعين آخر. يتوقّف خوفي المستمرّ… حتّى المرّة القادمة. بالفعل، لن يتوقّف عن مرافقتي ذلك الخوف مِن أن أُضلّل نفسي وأُضلّل الآخرين.


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.