24- ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم
ممارساتٌ خاصةٌ بهذا التكريم
الممارساتُ الخارجية
ولو انَّ الأساسَ في هذا التكريم هو شيءٌ باطنيٌ، مع ذلك فله أيضاً عدة ممارساتٍ خارجيةٍ لا يَجبُ إهمالُها: «هذه يجبُ عملُها، وتلكَ عدمُ إهمالِها» (متى 23:23). لأنَّ الممارسات الخارجية المعمولةَ جيداً تُساعد الباطنية، وتُذكّر الانسان الذي يُقاد دائماً من الحواس، بالشيء الذي عَمِلَه ويجبُ أن يعملَه، وبما أنها صالحة لبُنيان القريب الذي يراها، الأمرُ الذي لا تعملها الممارساتُ الباطنيةُ. فلا يقِلُّ اذن أيُّ دنيوي وناقدٍ بأنَّ هذه الممارسة هي في القلب، ويجبُ أن تتجنبَ كلَّ ما هو خارجي، كيلا يصير فيها تعجرف، ولهذا يجب إخفاؤها. أُجيبُ هؤلاء مع معلمي يسوع: ليرَ الناسُ أعمالَكم الصالحةَ ويمجدوا أباكم السماوي (متى 5: 16) إنّنا لا نعملُ اعمالنا وممارساتِنا الخارجيةَ، كما يقول القديس غريغوريوس، لنُرضيَ الناسَ ونحصلَ على مديحِهم، فهذا كبرياءٌ، ولكن نعملُ أحياناً أمام الناسِ لإرضاءِ الله ولتمجيدِه ودونَ الاهتمامِ بذَمِ أو مدحِ الناس.
1- التكريسُ بعدَ الممارسات التمهيدية
من يُريدُ ممارسةَ هذا التكريم عليه أن يقضيَ أقلَّهُ إثني عشرَ يوماً، لافراغِ روح العالمِ عن نفسِه، هذا الروح المخالفُ ليسوع المسيح، ومستعملاً ثلاثة اسابيع أُخرى للامتلاء منه بواسطةِ مريم امه، حسبَ هذا الترتيب: يستعمل في الاسبوع الأول صلواتِه وممارساتِه التقويةَ لنيلِ معرفةِ النفسِ والتوبةِ عن الخطايا وعملِ كل شيء بروح التواضع والتأملِ بما ذكرته عن عمقنا الرديء والنظر إلى الذات كما إلى بهيمةٍ بليدة، متأملاً بكلمات القديس برنردوس: «كنت قليلاً من الوسخ، ولا زلت قليلاً منه وستكون مرعى للدود». ليُصَلِّ إلى الرب وروحه القدوس لينيرَه قائلاً: «يا رب أن أُبصر» (لوقا 18: 41)، أو «لأعرفَ ذاتي» (القديس اوغسطينوس). أو «هلُمَّ ايها الروحُ القدس»، مردداً كلَّ يوم، طلبة الروح القدس والصلاةَ التابعة، وملتجئاً إلى العذراء الطاهرة، طالباً هذه النعمة العظيمة أساس البقية ومصلياً: «السلامُ عليكِ يا نجمةَ البحر…».
وفي الاسبوع الثاني ليحاول في كلِّ صلواته واعمالِه اليومية التعرفَ على العذراء الطوباوية طالباً ذلك من الروح القدس، ومصلياً ما ذكرتُ سابقاً بالإضافة إلى مسبحةِ الوردية، على هذه النية، ومثله في الاسبوع الثالث ليتعرف على يسوع المسيح من الممارسات السابقة، ويتلو في نهايتها صيغةَ التكريسِ التي يكون قد كَتَبها وأعدّها.
ويُستحسَنُ بأن يُقدمَ في ذلك اليوم عملَ توبةٍ ليسوع ولمريم تكفيراً عن عدم أمانتِه الماضية لنذوره في المعمودية ولإظهارِ خضوعهِ لهما، مثل صومٍ أو صدقةٍ أو شمعةٍ وغيرِ ذلك، يُشيرُ بها إلى محبته نحوهما. وليجدد تكريسَه هذا كلَّ سنة في عين النهار، محافظاً على نفس الممارسات لثلاثة اسابيع، لا بل يُفضلُ أنّ يجددَ كل شهر وحتى كل يوم تكريسَه بهذه الكلماتِ الوجيزة: «إنني بجملتي لك، وكل ما هو لي هو لك، يا يسوع الحلو، بواسطة مريمَ أُمِك القديسة».
2- تلاوةُ المسبحة الصغيرة
تتألفُ هذه المسبحة من «ابانا الذي» مع اثنتي عشر مرة «السلام لك» تُتلى إكراماً لاثني عشر امتيازاً للعذراء الطاهرة، وتستندُ هذه الممارسةُ على رؤيا القديس يوحنا للمرأة المتلحفةِ بالشمس المكللة باثني عشر كوكباً والقمرُ تحت قدميها (رؤيا 12: 1) إذ يرى القديسون فيها، رمزاً للعذراء مريم، وتُصلَّى هكذا:
1) نؤمن بإله…
2) ابانا الذي…
3) اربع مرات: السلام لك…
4) المجد للآب…
5) ابانا الذي…
6) اربع مرات: السلام لك…
7) المجد للآب…
8) ابانا الذي…
9) اربع مرات: السلام لك…
10) المجد للآب…
11) تحت ستر حمايتك…
3- تعبُّدٌ عميقٌ لسرِ التجسد
إنَّ التعبدَ الخاصَ لسرِّ تجسدِ الكلمةِ يومَ 25 اذار كما أوصى به الروح، يُعلِّمنا أولاً أن تكرمَ ونقتدي بخضوع الله الابنِ لمريمَ، هذا الخضوع غير القابل الوصف الذي قَبِلَهُ لتجيد الله أبيه، لأجل خلاصنا. فيظهر يسوع كأسيرٍ وعبدٍ في أحشاء مريم المحبوبة. ثم أن نشكر الله على النعم الفريدة التي أغدقها على مريم بانتخابه لها لتكون أمَّه الجديرة بالاحترام. هاتان هما الغايتان الرئيستان من العبودية ليسوع المسيح بواسطة مريم. فالأفضل استعمالُ عبارةِ عبيدِ يسوع، أحرى من عبيدِ مريم، كيلا نُعطي مأخذاً لبعضِ المنتقدين. وبالحقيقة لأنَّ غايتَنا هو يسوع المسيح، أمّا مريم فهي الطريق الموصلُ إليه. ولهذا نوصي بهذه الصلاة التي كان يتلوها رجالٌ عظامٌ وهي: «يا يسوعُ الحي في مريم، تعال واحيا فينا، بروح قداستِك…».
إنَّ هذا الكلام يُظهِرُ الاتحادَ المتينَ بين يسوع ومريم. إنّهما متحدان بنوع وثيق، حتى إنَّ الواحد هو في الآخر، يسوع هو كله في مريم، ومريم هي كلها في يسوع، أو بالأحرى ليست هي بعد، ولكنه يسوع وحده هو فيها، إنّه لأسهل فصل النور من الشمس، من فصل مريمَ عن يسوع، لذا يُمكن اعطاءُ هذه التسميةِ: يسوع لمريم، أو أيضاً: مريم ليسوع.
ولا يسمح الوقت بالتوقف هنا لشرح سمو وعظمة سر يسوع الحي والمالك في مريم، أو تجسد الكلمة. إني أكتفي بالقول بأن لنا هنا السرُ الأولُ ليسوع المسيح، السرُّ الأكثر خفاءً وسموّاً والأقل معروفاً فانَّ يسوعَ في هذا السر، بالاتفاق مع مريم، ظهَرَ في أحشائها التي يُسميها القديس امبروسيوس: «غرفة الأسرار»، قد اختارَ كلَّ المنتخبين وقام بجميع أسرار حياتِه التي توالَت بعده، بقبوله إياها عندَ دخوله العالم إذ قال: «ها أنذا آتٍ يا الله لأعملَ بمشيئتِك» (عبرا 10: 9) وبالنتيجة فانَّ هذا السر هو مختصرُ كل الأسرار التي تَحوي إرادةَ ونعمةَ بقيةِ الأسرار، لأنه عرشُ الرحمةِ والجودةِ ومجدُ الله.
فهو عرشُ الرحمة، لأنه لا يمكنُ الاقترابُ من يسوع الا بواسطةِ مريم، ولا رؤيتُه ولا مكالمتُه إلا بها، ويسوعُ الذي يستجيبُ دوماً أُمَّه العزيزة، يمنحُ بواسطتها نعمَتهُ ورحمتَه للخطأة المساكين، «فلنذهب بثقةٍ إلى عرش النعمة» (عبر 4: 6).
وهو عرشُ جودتِه، لأنَّ آدمَ الجديدَ الذي سكَن هذا الفردوسَ الأرضيّ الحقيقي، قامَ وهو فيه بأعاجيبَ خفية، لا يفهمُها لا الملائكةُ ولا البشر قط، ولهذا يُسمي القديسون، مريمَ، «جلالَ الله»، كما لو أنَّ الله ليس عظيماً إلَّا في مريم، «فقط هناك الربُّ هو عظيم» (أشعيا 23: 21)
وهو عرشُ مجدِ أبيه، لأنَّ في مريمَ، يسكّنُ يسوعُ، غَضَبَ أبيه على البشر، بنوعٍ كاملٍ، ويعوّض تماماً عن المجد الذي أزالته الخطيئةُ، وبواسطة ذبيحةِ ارادتِه أعطى له مجداً أكثرَ من كل المحرقاتِ البشريةِ القديمة، وبكلمةٍ يهبُ له مجداً لامُتناهٍ، لم يقبله من أي انسانٍ قط.
4- محبةٌ كبيرةٌ لتلاوةِ السلامِ الملائكي
سيكونُ لأصحاب هذا الاكرام، محبةٌ كبيرةٌ لتلاوة «السلام لك»، أو قليلون هم المسيحيون حتى المنورون منهم من يعرف قيمةَ وسموَّ وضرورةَ هذه الصلاة، لذا التزَمت العذراءُ مريمُ بأن تَظهرَ لقديسين كبار متنورين، لتَبيانِ قيمتِها كما فعلَتْ مع القديس عبد الاحد، ويوحنا من كابيستران، والطوباوي الان من روش. وألَّفوا كتباً كاملةً عن عجائبِ ومفاعيل هذه الصلاة، لهدايةِ النفوس، وأذاعوا عالياً، ووعظوا جهراً بأنَّ خلاصَ العالم إذ ابتدأ بواسطة «السلام لك» فإنَّ خلاصَ كل فردٍ متعلقٍ على هذه الصلاة التي حملت ثمرةَ الحياة إلى هذه الأرض اليابسة والقاحلة. وإذا ما تُليت هذه الصلاة جيداً، فستُنبتُ في نفوسِنا كلمةَ الله، وتحملُ ثمرةَ الحياة التي هي يسوعُ المسيح. «فالسلامُ لك» ندى سماوي يسقي الأرضَ، أعني النفسَ، لتحملَ إليها ثمرتَها في أوانِها، وإنَّ النفسَ غير المسقيةَ بهذا الطلِ السماوي لا تحملُ البتَّة، ثمرةَ ولا تُعطي إلَّا حَسَكاً وشوكاً، وهي قريبةٌ من نَيلِ العفة (عبرا 6: 8).
جاء في كتاب الطوباوي الان من روش، «سمو المسبحة»، بأن العذراء المباركة أوحت إليه قائلة: «إعلم يا ابني، واشهره للمَلا بأنها علامةٌ محتملةٌ وقريبةٌ للرذلِ الابدي، أن تكون للانسان كراهيةٌ وفتورٌ وإهمالٌ في تلاوة السلام الملائكي، الذي عوَّض عن كل العالم، إنّها كلماتٌ معزيةٌ جداً، ورهيبةٌ أيضاً، وبالكاد تُصدَقُ، لو لم يكن لنا كفلاء بها أمثالُ هذا الرجل القديس وقبلَه القديس عبد الاحد، وبعدَه كثيرٌ من الشخصيات الكبيرة وخبرةُ أجيالٍ عديدة.
قد لوحظ بأنَّ الذين يحمِلونَ علاماتِ الرذلِ، مثل جميعِ الهراطقة، والكَفَرةِ والمتكبرين ومحبي العلم، يُبغضون ويَحتقِرون «السلام لك» والمسبحة، التي هي هولُهم، ويفضلون أفعى أحرى من مسبحة. وكذلك المتعجرفون ولو أنهم كاثوليك، لهم عينُ الانحرافات التي لأبيهم لوسيفوروس، يحتقرون أو أقلّه ليس لهم إلّا اللامبالاة «للسلام لك» وينظرون إلى المسبحة، كما إلى إكرامٍ صالحٍ للنساء قليلاتِ الذكاءِ، وجيدة للجهال والذين لا يعرفون القراءةَ. وظَهَرَ بالاختبار بأنَّ الذين لهم علامات كبيرة للاختيار الالهي، يحبون ويتذوقون ويتلون بلذةٍ «السلام لك» وكل ما كانوا أكثر لله، كلما يحبون هذه الصلاة أكثر، هذا ما قالته العذراء القديسة أيضاً للطوباوي ألان.
لا أعرفُ كيف يَحدُثُ ذلك ولا لماذا، مع ذلك فإنه لأمرٌ حقيقيٌ، وليس لي وسيلةٌ أفضل لأعرفَ شخصاً ما، إذا هو من الله، إلّا بفحصه إذا ما يُحبُّ تلاوةَ «السلام لك»، والسبحةَ. اقول: يحبُ، لأنه ربما قد يكون هناك شخص لا يستطيعُ طبيعياً أو أدبياً أن يتلوها، لكنه يحبُها ويحثُّ الآخرين على ذلك.
أيتها النفوسُ المختارةُ منذُ الأزلِ، يا عبيدَ يسوع في مريم، إعلمي بأنَّ «السلام لك» هي أجملُ كل الصلواتِ بعد «ابانا الذي» وهي أكملُ تهنئةٍ يمكنُ تقديمُها لمريمَ، لأنها تهنئةُ العلي التي حَمَلها أحدُ رؤساءِ الملائكةِ لجَذبِ قلبِها، وأحبتها للغاية لتلاوتها السحريةِ الخفية حتى إنها أعطت رضاها بتجسيدِ الكلمة، رغمَ تواضعِها العميق، وبتلاوتها كما يجب، يمكنُك كَسبُ قلبِها أكيداً.
إنَّ صلاةَ «السلام لك» عندما تُتلى جيداً، أي بانتباهٍ وتقوى واحتشام، هي حَسب القديسين، عدوةُ الشياطين التي تهزمُهم، والمطرقةُ التي تسحقُهم. فهي تقديسٌ للنفس وفرحٌ للملائكة، نغمةُ المختارين، أنشودةُ العهدِ الجديد، لذةُ مريمَ ومجدُ الثالوث الأقدس. «السلامُ لك» ندى السماءِ المُخصبِ للنفس، قُبلةٌ طاهرةٌ حبيةٌ لمريم، زهرةٌ قرمزيةٌ تُهدى لها، لؤلؤةٌ ثمينةٌ تُقدَّم لها، قَدَحٌ من العنبر والرحيقِ الإلهي يُرفع إليها، إنّها تشابيهُ القديسين.
أرجو بإلحاحٍ بالمحبةِ التي أكنُّها لكم بيسوعَ ومريم، أن لا تكتفوا بتلاوة السبحةِ الصغيرة، ولكن إذا ما لكم الوقتُ صلوا السبحةَ كلَّها، بأقسامها الثلاثة، كلَّ يومٍ، وستبارَكون ساعة موتِكم، اليوم والساعة التي فيها صدَّقتموني، وبعدَ أن تكونوا قد زرعتم ببركاتِ يسوع ومريم، ستحصدون البركاتِ الأبدية في السماء (2 كور 9: 6).
5- نشيد «تعظم نفسي»
من يُكرمُ العذراءَ القديسة، عليه أن يشكُرَ الله على النعم التي أغدَقَها عليها، بتلاوته مِراراً نشيدَ «تُعظم نفسي» على غِرارِ القديسين الكثيرين. إنَّها الصلاةُ الوحيدةُ من تأليفِ العذراءِ القديسة، أو بالأحرى عَملَها يسوع بواسطتها، لأنه هو كان يتكلمُ فيها. فهي أعظمُ ذبيحةِ حمدٍ اقتبَلها الله في شريعة النعمة. إنه النشيدُ الأكثرُ تواضعاً والأكثرُ عُرفاناً بالجميل. لا بل الأسمى والأعظم، وفيه أسرارٌ كبيرةٌ خفيّةٌ حتى من الملائكة.
كانَ جرسون، الملفانُ الوَرِعُ العلَّامة، بعد أن استعملَ قسماً كبيراً من حياته في وضعِ مؤلفاتٍ مملؤةٍ علماً وتقوى، عن أصعبِ المواضيع، شَعَر برجفةٍ فقط في نهاية حياتِه، يشرح نشيد «تعظم نفسي»، ليكلل كلَّ تآليفه. ويذكرُ في كتابٍ ضخم أنه قد كتب أشياءَ عجيبةً لهذا النشيدِ البديع، حيث يقول، بأنَّ العذراءَ الكليةَ القداسة كان تتلوه كلَّ يومٍ مراراً عديدة، لا سيما بعدَ التناول المقدس كفعلِ شكر. ويسرُد بينزونيوس العالِم في شرحه لهذا النشيد، «صنعَ الغلبةَ بذراعه وبدَّدَ المتكبرين بفكر قلوبهم» (لوقا 1: 51).
6- احتقارُ العالم
على محبي مريم الأمناء أن يحتقروا العالَم الفاسدَ كثيراً، وليبغضوه ويهربوا منه.