س17: لماذا يؤمن الكاثوليّك بعقيدة المَطهر ؟ وهل من أساس كتابيّ لها ؟
س17: لماذا يؤمن الكاثوليّك بعقيدة المَطهر ؟ وهل من أساس كتابيّ لها ؟
إنّ الغالبية العظمى من المسيحييّن يؤمنون بهذه العقيدة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فهي أصيلة متأصّلة في حياة الكنيسة؛ وهي كأيّ عقيدة كاثوليكيّة تُبنى على أُسس كتابيّة، وتقليديّة ثمّ تُعلن من قبل السُّلطة الكنسيّة؛ لقد تبلور إيمان الكنيسة بهذه العقيدة على وجه التّحديد في المجمعين المسكونييّن: الفلورنسيّ والتريدنتينيّ، لذا سنتعرض في إجابتنا عن السّؤال إلى نقطتين وباختصار شديد: الأولى ماذا نعني بالمَطْهَر أو التّطهير النّهائيّ، والثَّانية الأدلّة والأُسس الكتابيّة وكيف تناولها التّقليد المقدّس، عاكسًا إيَّاها في حياة الكنيسة على مرّ العصور.
ينصّ الكتاب الرّسميّ لتعليم الكنيسة الكاثوليكيّة في فقرته رقم 1030 على الآتي:” الَّذين يموتون في نعمة الله وصداقته، ولم يتطهّروا بعد تطهيرًا كاملاً، وإن كانوا على ثقةٍ في خلاصهم الأبديّ، يخضعون من بعد موتهم لتطهيرٍ، يحصلون به على القداسة الضّروريّة لدخول فرح السّماء”.
إنَّ أوَّل ما نلاحظه في الفقرة السّابقة، هو أنّ المَطْهر حالة تختصّ بمَنْ هم مؤمنون بالمسيح، وقد انتقلوا على رجاء القيامة بقوّته، أيّ في علاقةٍ حميميّة بالله؛ فليس الأمر إذًا كما يعتقد البعض خطأً، أنَّه عامّ وللجميع، فإذ بهم يظنون بأنّنا نجعل من الإيمان بالمسيح أمرًا نسبيًّا، وكأنّنا نساوي بين الجميع من ناحية، ونضيّع مسؤوليّة الإنسان في الخلاص، وعن الخلاص من ناحية أخرى. فالإيمان بالمسيح هو الشّرط الأساسيّ للخلاص، أو قل عنه شرط الشّروط؛ نعلّم جميعًا قول الكتاب:” ليس بأحد غيره الخلاص”. وهذا الخلاص الذي هو هبة من المسيح للإنسان، يضعنا تحت المسؤوليّة الكاملة عن الخلاص، خلاص الذّات والقريب. فلا أحد يجرأ أن يستخف قائلاً: “سنتطّهر … فنحيا كما يحلو لنا، فالجميع سيتساوون”. فعقيدة المطهر أو التّطهير النَّهائيّ أرقى وأبعد ما يكون عن هذه الادعاءات الخاطئة والمزعومة.
من ثمَّ نؤكّد على أنَّ المَطْهَر هو حالة روحيّة، يمرّ بها المعنييّن بالفرح السَّماويّ، كيما يتهيأوا للشراكة الكاملة في فرح الله ومجده، كما أنَّه ليس مجرد حالة وسطيّة بين السّماء والجحيم. إنّها ضرورة واجبة إذ لا يجوز لأحدٍ غير كامل الاتّحاد بالله الكامل القداسة.
إنّ المَطْهَر كحالة إذًا، لا يقتصر على ما بعد الموت، فحالة التّطهير تكتنف حياة المؤمن بالكامل طالما هو واع بجديّة شركته في حياة الله. ومن ثمّ تتطهّر الأرواح من الخطايا العرضيّة وتعوّض عن الخطايا المميتة التي أعترفوا عنها وهم على الأرض ولكن لم يعطوا عنها تعويضًا.
أمَّا عن الاستشهادات الكتابيّة، فنقرأ في سفر المكابيين الثّاني (2 مك 12: 46)، والذي يتحدّث عن أن نقدم الذّبيحة عن أنفس الموتى ليُحلّوا من خطاياهم، إذ يصف المكابين هذا العمل بأنه مقدّس وتقويّ، لهذا يمثل النّصّ ركيزةً أساسيّة للعقيدة، فهو يسجل لنا إيمان الشّعب في العهد القديم بضرورة ممارسة الصّلاة من أجل؛ فنجد يهوذا المكابيّ يقدّم ذبيحة تكفيريّة عن الأموات ليُحلّوا من خطاياهم. نلاحظ في الفقرة 1032 من كتاب التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، أنّه بعد الاستناد إلى النّصّ السابق يؤكّد وينصّ على:” وقد كرّمت الكنيسة منذ القرون الأولى ذكرى الأموات وقدمت لأجلهم صلوات وبنوع خاصّ الذّبيحة الافخارستيّة حتّى يتطهّروا فيبلغوا الرّؤية السّعيدة، وتوصي الكنيسة أيضا بالصّداقات والغفرانات وأعمال التّوبة لأجل الرّاقدين”.
كما نستشهد بكلمات الإنجيليّ متّى:”لذلك أقول لكم: كلّ خطيئة وتجديف يُغفر للناس، وأمّا التجديف على الرّوح، فلن يُغفر. ومن قال كلمة على ابن الإنسان فلن يُغفر له، وامَّا من قال كلمة على الرّوح القدس، فلن يُغفر له لا في هذه الدّنيا ولا في الآخرة”(12/31-32). ومنه نفهم أن هناك بعض الخطايا يمكن أن تُغفر في الدّهر الآتي كما أن منها ما يُغفر في هذا الدّهر، وبناء عليه يمكننا فهم العلاقة بين صلاة الشعب قديمًا وصلاة الكنيسة من أجل الرّاقدين وبين تصريح الرّبّ المباشرة بإمكانية الغفران فيما بعد الموت، هذه الإمكانيّة هي إمكانيّة محبّة مجانيّة، تُطهّر الإنسان لتُتحدّه في كمال المجد الإلهيّ.
إن مصطلح “المطهر” غير موجودة في الكتاب المقدس – كما مصطلح الثَّالوث – ولكن مذكور أن هناك حالة تمحى فيها الخطايا العرضيّة ويخلص فيها الإنسان ” إن أحترق عمل أحد فسيخسر أما هو فسيخلص ولكن كما بنار” (1 كو 3 : 15).
ويعتبر آباء الكنيسة الأولى الإيمان بالمطهر واحدًا من الرّكائز الأساسيّة للإيمان المسيحيّ، يقول القديس أغسطينوس : ” إنّ عقيدة المطهر أستلمناها من الآباء وهي في صميم إيمان الكنيسة الجامعة “. هكذا يعبّر القديس يوحنَّا الذّهبيّ الفم:” لنمُدّ لهم العون، ونذكرهم فإن كان أبناء أيوب قد تطهّروا بذبيحة أبيهم لم نشك بأن تقادمنا لأجل الرّاقدين تجلب لهم بعض التّعزية فلا نتردّد إذن في مساعدة الَّذين رحلوا بتقدمه صلوات لأجلهم”.
هذا وقد أكتشف علم الحفريات أن مقابر المسيحييّن في القرن الثّاني والثّالث الميلاديّ أحتوت على مناشدة لمن يدخل المقبرة أن يصلّي من أجل الموتى، غير أن صلاة الكنيسة على الموتى تصبح بلا معنى إن لم يكن هناك حالة ثالثة، نسمّيها ككاثوليك” المطهر أو التَّطهير النَّهائيّ. وهذه الصّلاة مترسّخة في ليتورجية الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسيّة، وعلى صعيد أخصّ القبطيّة منها والتي تشاركنا نفس الطّقوس؛ والتي لها دلالتها إذ تعكس إيمان الآباء الأوّلين.
وبالاستدال المنطقيّ على سبيل التّشبيه، لا على سبيل الأساس: فلنأخذ بعين الاعتبار القانون المدنيّ، فالجرائم الكبرى يُحكم فيها على المتهم بالإعدام أو السّجن مدى الحياة، أما الجرائم الصُغرى يُرسل فيها المتهم للسجن فترة معين للعقوبة وإعادة التأهيل، وإن لم يكن للإنسان أدنى جرائم فهو إذاً مواطن صالح.
بالتّأكيد لا يؤمن الكاثوليّك بأن الله سيغطي خطايانا كما يغطي كومة السّماد بغطاء من الثلج مثلما أدّعى مارتن لوثر، بل أن المسيح يُصرّ على أن نكون في كامل القداسة والكمال إلى أعماق نفوسنا ” كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل ” ( مت 5 : 48 )، وهذا التّطهير يحدث فقط بنعمة الله ، وأخيراً لنتساءل : إن لم يكن هناك مطهرًا وكانت هناك فقط سماء للأبرار وجحيم للأشرار، فماذا سيكون مصيرنا ؟