31- عِبادة الرُّعاة | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
31- عِبادة الرُّعاة
07 / 06 / 1944
أَكتُب بحضور يسوع معلّمي. مِن أجلي، كلّ شيء مِن أجلي، عائِد مِن أجلي، منذ زمن. ستقولون: «ولكن كيف؟ منذ شهر تقريباً عُدتِ لتَرَي وتَسمَعي، وتقولين إنّكِ نلتِ ذلك أخيراً بعد طول زمن؟» فأجيبُ ما قُلتُه مرّات كثيرة شفهيّاً وكتابيّاً.
أن أرى شيء، وأن أسمع شيء آخر، خاصّة وأن أرى وأسمع مِن أجل الآخرين مُختَلِف عن أن أرى وأَسمَع لنفسي، حصراً لنفسي. في الحالة الأولى أنا شاهِدة ومُردِّدة لما أرى وأَسمَع، ولكن إذا كانت هذه الأشياء تمنَحني الفرح فذلك أنّها على الدوام هي الأشياء التي تُسبّب لكم فَرَحاً عظيماً. وهو في الحقيقة فَرَح خارجيّ. الكلمات تُعبِّر بشكل سيّئ عمّا أُحِسُّ به تماماً. ولكنّني لا أعرف أن أُعبِّر بأحسن مِن ذلك.
الخلاصة، أريد القول إنّ فَرَحي يُشبه فَرَح مَن يقرأ كتاباً جميلاً أو يُشاهِد مسرحيّة جميلة، فيتأثّر بها ويتذوّقها ويُعجَب للتناغم الذي فيها ويُفكّر: «كم هو جميل لو أكون مكان هذه الشخصيّة!» بينما في الحالة الثانية، عندما يكون الاستماع والرؤية لذاتي أنا، حينئذ تكون هذه الشخصيّة هي أنا. فالكلمة التي أَسمَع هي لي، والوجه الذي أرى هو لي.
فالأمر هو أنّني أنا وهو. أنا ومريم. أنا ويوحنّا. أحياء حقيقيّون، واقعيّون، قريبون جدّاً. ليس قبالتي كما لو أنّني أشاهد فيلماً، إنّما بجانب سريري، يتنقّلون في الغرفة أو يَستَنِدون إلى المفروشات أو يَجلسون أو يَقِفون كأشخاص أحياء، إنّهم ضيوفي. وهذا ما هو مختلف تماماً عن الرؤيا مِن أجل الجميع. فقصارى القول: كلّ هذا كان «لي أنا».
فاليوم، وحتّى أمس منذ بعد الظهر، يسوع هنا، بثوبه العاديّ مِن النسيج الصوفيّ الأبيض، بياضه قريب مِن العاج، وهو مختلف تماماً بثقله ولونه، عن الثوب الناصع، وهو يبدو مِن كتّان غير مادّيّ شديد البياض لدرجة تَحسَبه معها مصنوعاً مِن خيوط النور التي تغطّيه في السماء. إنّه هنا بيديه الجميلتين، الطويلتين والنحيفتين، ببياض عاج قديم، بوجهه الوسيم الطويل والشاحب حيث تتألّق عيناه الـمُهَيمِنتان والعَذبَتان وكأنّهما مِن السفير الداكن بين حاجِبَين كثيفين بلون الكستناء الـمُشِعّ بالأشقر الأصهب.
إنّه هنا بشعره الجميل الطويل الأشقر والناعم، الأكثر حيويّة في الأجزاء المضاءة والأكثر تعتيماً في أعماق الطيّات. إنّه هنا! إنّه هنا! يَبتسم لي ويَنظر إليَّ أكتُب عنه، كما كان يفعل في فياريجيو (Viareggio)… وكما لم يفعل منذ الأسبوع العظيم المقدّس، مُسبِّباً لي كلّ هذا الحزن الذي أصبَحَ حرارة مرتفعة، وحتّى شِبه يأس عندما أُضيف إلى الألم الذي انتابَني لكوني حُرِمتُ منه، ألم حرماني مِن العيش على الأقلّ حيث رأيتُه واستطعتُ القول: «هنا استَنَدَ، وهنا انحنى ليضع يده على رأسي.» وهنا حيث توفّي أهلي.
آه! مَن لم يختبر ذلك لا يستطيع إدراكه! لا، ما مِن سبب يدعو للمطالبة بالاستمتاع بكلّ هذه الهبات. إنّنا نَعلَم جيّداً أنّها هبات مجّانيّة، لا نستحقّها ولا نستطيع المطالبة باستمراريّتها عندما تُوهَب لنا. نعرف ذلك جيّداً. وكلّما أُعطيَت لنا كلّما تلاشينا في التواضع، عارِفين بؤسنا الـمُنَفِّر في مقابل الجمال اللامتناهي والغِنى الإلهيّ الذي يَهِبنا ذاته.
ولكن ماذا تقول أيّها الأب؟ أفلا يرغب الابن في رؤية أبيه وأُمّه؟ ألا ترغَب امرأة في رؤية زوجها؟ وعندما يَحجبهم الموت أو غياب طويل عن أنظارهم أفلا يَجِدون عزاء في ممارسة حياتهم حيث عاشوا؟ وإذا اضطرّوا لمغادرة المكان، أفلا يتألّمون ألماً مضاعفاً لأنّهم فَقَدوا كذلك المكان حيث شارَكَهم الغائب الحبّ؟ هل يُلامون على معاناتهم مِن هذا الألم؟ لا. وأنا؟ أليس يسوع هو أبي وعروسي؟ إنّه أَعزّ، إنّه أحَبّ إليَّ كثيراً مِن أب ومِن عروس!
ولطالما هو كذلك، فاحكُموا بحسب الطريقة التي تحمَّلتُ فيها موت والدتي. لقد تألّمتُ، فهل تَعلَمون؟ وكذلك بكيتُ لأنّني كنتُ أحبّها رغم طبيعتها. ولكن رأيتُم كيف تجاوَزتُ هذا الموقف لأنّ يسوع كان هنا، وقد كان أغلى وأحَبّ مِن أُمّي. يجب أن أقول ذلك. لقد تألّمتُ، وأتألّم الآن أكثر لموت أُمّي الذي مضى عليه ثمانية أشهر، ولم أشعر حينذاك بألم مثله. هذا لأنّني في الشهرين الأخيرين كنتُ بدون يسوع الذي لي، دون مريم التي لي، وحتّى الآن يكفي أن يَتركاني لحظة حتّى أشعُر أكثر مِن أيّ وقت مضى بحزني كيتيمة مريضة، وأعود لأغرَق في الألم البشريّ الـمُرّ لهذه الأيّام غير البشريّة.
أكتُب تحت أنظار يسوع، إذاً فأنا لا أُبالِغ ولا أُغالِط. هذا في الأصل ليس أسلوبي. ولكن حتّى ولو كنتُ كذلك، فسيستحيل أن أبقى تحت هذا النَّظَر. كتبتُ هذا في هذا المكان حيث لا عادة لأن أفعَل، إذ بالنسبة لرؤى مريم فأنا لا أُقاطِعها بإظهار ذاتي المسكينة. إنّني أعرف مُسبَقاً أنّه يتوجب عليَّ متابعة إظهار أمجادها. أَفَلَم تكن أمومتها في كلّ الأحيان إكليل مجد؟
أنا مريضة جدّاً والكتابة تُسبّب لي متاعِب جَمّة. إنّني كُتلَة أشلاء بشريّة. ولكن عندما يتعلّق الأمر بالتعريف بها لتُصبِح محبوبة أكثر، فأنا لا ألوي على شيء. أأشعُر بألم في كتفي؟ أيضعُف قلبي؟ أيؤلمني رأسي؟ أترتفع حرارتي؟ لا يهمّ! فلتكن مريم معروفة، كُلّية الجمال والحنان، كما أراها بصلاح الله وصلاحها، وهذا يكفيني.
فيما بعد أرى امتداداً للقرية واسعاً. والقمر في سمت الرأس، وكان يسير بهدوء في سماء مُرصَّعة بالنجوم التي ظَهَرَت وكأنّها أحجار ماس مغروسة في مظلّة عرش كبيرة مِن المخمل الأزرق الداكن. وفي وسطها يضحك القمر بوجهه الأبيض الذي تتدفّق منه أنهار مِن الأنوار الحَليبيّة، تُضفي على المشهد صبغة بيضاء. والأشجار التي تَعرَّت مِن أوراقها بَدَت أكبر وعاتمة في هذا البياض، بينما الجدران التي لاحَت هنا وهناك تُشبه اللبن.
وبيت صغير في البعيد يبدو وكأنّه كتلة مِن المرمر الأبيض. إلى اليمين أرى مكاناً مُغلَقاً مِن جهتين بسياج مِن العلّيق، ومِن الجهتين الأخريين بجدار منخفض عريض. وذاك الجدار يَحمل سقفاً، مُشكّلاً نوعاً مِن العنابر داخل السور، وقد بُنِيَ قسم منه بناء، والقسم الآخر مِن الخشب القابل لأن يُنزَع في الصيف ليتحوّل إلى رواق. مِن هذا المكان يَنطَلق بين الفينة والأخرى ثغاء متقطّع ومُختَصَر. قد تكون النعاج تحلم أو تحسب أنْ قد اقترب بزوغ الفجر بسبب ضوء القمر. إنّه نور مُفرِط في شدّته وهو يزداد وكأنّ الكوكب يقترب مِن الأرض أو يتوهّج بسبب حريق مُبهَم.
يتقدّم أحد الرعاة إلى العتبة، يرفع يده إلى مستوى جبهته ليحمي عينيه ويَنظر إلى الجوّ. يبدو أنّ لا بدّ مِن الاحتماء مِن نور القمر، ولكنّه قويّ لدرجة أنّه يُبهِر، خاصّة ذاك الذي ينبَعِث مِن زريبة، هي في العادة مُظلِمة. كلّ شيء هادئ، ولكنّ هذا النور مُدهِش. ينادي الرّاعي رفاقه، يتوجّهون جميعاً صوب الباب. حشد مِن الرجال ذوي الشعر الكثيف ومِن أعمار مختلفة، فمِنهم المراهق ومنهم الأشيب، والكلّ يُعَلِّق على هذا الحدث الغريب، والأصغر سناً منهم خائفون، خاصّة وَلَد عمره اثني عشر عاماً، فقد أَخَذَ يبكي جالباً لنفسه سخرية الشيوخ.
يقول له أكبرهم: «ممَّ أنتَ خائف؟ إنّكَ حقّاً أبله. ألا ترى أنّ الجوّ في سكون؟ ألم ترَ أبداً ضوء قمر؟ هل قضيتَ عمركَ تحت رداء أُمّكَ مثل صوص تحت قرقة حاضنة؟ ولكنّكَ سترى أموراً كثيرة. أنا مثلاً، كنتُ ذاهباً ذات مرّة باتّجاه جبال لبنان، بل أبعد أيضاً. وكنتُ أصعد، ذلك أنّي كنتُ شابّاً لا يُتعِبني السير، وقد كنتُ آنذاك غنيّاً… وذات ليلة رأيتُ نوراً حسبتُه إيليا عائداً بعربته النارية، وكانت السماء متوهِّجة، وعجوز -والعجوز كان هو- قال لي: “حَدَث كبير سيقع في العالم”. بالنسبة لنا كان الحَدَث وصول جنود روما. آه! إن حييتَ فسترى…»
إلّا أنّ الراعي الصغير لم يعد يَسمَعه. يبدو أنّه لم يعد خائفاً. بالفعل، ها هو يترك العتبة مُنسَلّاً مِن خلف ظهر أحد الرعاة مفتول العضلات حيث كان يحتمي، ويَخرُج إلى الحظيرة الموجودة جانب العنبر. يَنظر إلى الجوّ ويسير كالـمُروبَص (الذي يسير أثناء نومه) أو كما لو كان خاضعاً لتنويم مغناطيسيّ مِن قِبَل شيء يسيطر عليه كلّياً. وفي لحظة يَصرخ: «آه!» ويتصلّب في مكانه، ذراعاه مفتوحتان قليلاً، والآخرون يَنظر واحدهم إلى الآخر بتعجّب.
يقول أحدهم: «ماذا أصاب هذا الأبله؟»
ويقول الآخر: «سأعيده غداً إلى أُمّه. لا حاجة بي إلى مجنون يحرس النعاج.»
عندئذ يقول العجوز الذي تكلَّمَ سابقاً: «لنذهب، ولِنرَ، قبل أن نحكم. نادوا الآخرين النيام وهاتوا عصيّكم. قد يكون هناك حيوان شرّير أو قُطّاع طُرق…»
يَعودون، يُنادون الرعاة الآخرين ويَخرُجون جميعاً بمشاعل وهراوات، ويَلحَقون بالصبيّ.
يُهَمهِم وهو يبتسم: «هنا، هنا، فوق الشجرة، انظروا هذا النور القادم، كأنّه يتقدّم على شعاع القمر. ها هو يقترب. كم هو جميل!»
«أنا لا أرى سوى نور قويّ قليلاً.»
«أنا أيضاً.»
ويقول الآخرون: «أنا أيضاً.»
فيقول آخر، وقد عرفتُهُ، إنّه الراعي الذي قَدَّم الحليب لمريم: «لا. إنّي أرى شيئاً يشبه الجسم.»
ويَهتف الولد: «إنّه… إنّه ملاك! ها هو يَهبط ويَدنو… إلى الأرض! اركعوا أمام ملاك الله!»
هتاف: «آه!» طويل ومُبجَّل يَصدر عن مجموعة الرعاة الذين يُسقِطون ووجوههم إلى الأرض. ويبدون متأثّرين بالظهور على قَدر كِبَر سنّهم. أمّا الأكثر شباباً فقد رَكَعوا ونَظَروا إلى الملاك الذي يقترب باستمرار، إلى أن يتوقّف في الجوّ باسِطاً جناحيه الكبيرين، بياض اللآلئ في بياض القمر الذي يُغَلِّفه، فوق جدار السور.
«لا تخافوا، فأنا لا أحمل لكم سوءاً، بل إنّني أحمل إليكم نبأ فرح عظيم لشعب إسرائيل ولكلّ شعوب الأرض.» وكان الصوت الملائكي مِثل قيثارة مُتناغِمة تُرافِق أصوات الشحارير.
«اليوم وُلِدَ المخلّص في مدينة داود.» عند هذه الكلمات يبسط الملاك جناحيه أكثر ويرفرف كما بارتعاش الفرح. ويَظهَر وابل مِن شرارات الذهب والأحجار الكريمة تتدفّق منه. وقوس قزح حقيقيّ كان يَرسم قوس نصر فوق الحظيرة الفقيرة.
«…المخلّص الذي هو المسيح.» ويتألّق الملاك بنور أكثر بريقاً. وجناحاه المتوقّفتان الآن والمبسوطتان صوب السماء يبدوان كشراعين ثابتين فوق سفير البحر، يَبدُوان كشعلتين تتصاعدان حارّتين.
«…المسيح، الربّ!» ويطوي الملاك جناحيه النورانيّين ويكتسي شبه رداء مِن الماس فوق ثوب مِن اللآلئ، وينحني كما للعبادة بِيَدَين مضمومتين إلى القلب، والوجه الذي يتلاشى منحنياً على الصدر في ظلّ قمّة الجناحين المطويّين. لم يَعُد يُرى منه سوى شكل مُتطَاوِل ومُنير. ويَظلّ ثابتاً طيلة فترة: المجدلة (Gloria).
ولكن ها هو يتحرّك، يُعاوِد فتح جناحيه ويَرفَع وجهه حيث يتدفّق النور بابتسامة فردوسيّة ويقول:
«مِن هذه العلامات ستعرفونه: في إسطبل فقير، خلف بيت لحم سَتَجِدون طفلاً مقمّطاً ومُضجعاً في مذود للبهائم، لأنّه لم يوجد سقف في مدينة داود يأوي الماسيا.» ولدى قوله هذا يُصبِح مَظهَر الملاك جادّاً، بل حزيناً.
ولكنّ جَمهَرَة تُقبِل مِن السماء -آه! يا لها مِن جَمهَرة!- جمهور ملائكة يشبهونه، مرقاة ملائكة يَنزلون بابتهاج، يَحجبون القمر بنورهم الفردوسي. يَتجمّعون حول الملاك الـمُبشِّر وهم يُرفرِفون بأجنحتهم، ويَنشرون عطوراً، بتناغُم موسيقيّ تتداخل فيه أجمل أصوات الخليقة كلّها، ولكنّها مُرتَقية إلى كمال الرخامة. إذا كان اللون هو سعي المادة لتصبح نوراً، فهنا النَّغَم هو سعي الموسيقى لِتُعَبِّر للناس عن جمال الله، وسماع هذا النَّغَم هو التعرّف على الجنّة حيث كلّ شيء هو تناغُم الحبّ الممنوح مِن الله، والذي ينتَشِر ليُمتّع الطوباويّين ويرتدّ منهم إلى الله ليقول له: «نحن نحبّكَ!»
تنتَشِر «المجدلة» الملائكيّة بموجات تمتدّ أكثر فأكثر على القرية الهادئة، وكذلك النور. أمّا العصافير فقد توحَّدَ غناؤهم لتحيّة باكورة النور هذه، والنعاج تُطلِق ثغاءها لهذه الشمس السابقة لأوانها. أمّا أنا فكما راودتني الفكرة في المغارة سابقاً عن الثور والحمار، كذلك أودُّ هنا الاعتقاد بأن الحيوانات تُحيّي خالقها القادم ليحبّها كإنسان، وبالأكثر كإله.
يتضاءَل الإنشاد، وكذلك الأنوار، بينما تَصعَد الملائكة إلى السماوات… ويعود الرعاة إلى ذواتهم.
«هل سَمِعتُم؟»
«أنذهب لنرى؟»
«والحيوانات؟»
«آه! لن يصيبها شيء. فلنذهب مطيعين لكلمة الله!…»
«ولكن أين سنذهب؟»
الآن يتكلّم الراعي الذي كان قد أعطى الحليب لمريم: «ألم يَقُل إنّه وُلِد اليوم وإنّه لم يجد له مكاناً في بيت لحم؟ إذاً تعالوا، أنا أعرف. لقد رأيتُ المرأة وقد تألّمتُ لأجلها. لقد دللتُها على مكان لها لأنّني قَدَّرتُ أنّها لن تجد مأوى، وقد أعطيتُ الرجل حليباً ليقدّمه لها… إنّها فَتيّة وجميلة. المفروض أنّها طيّبة كالملاك الذي كَلَّمَنا. هلمّوا، هلمّوا. فلنأخذ حليباً وجبناً وحِملاناً وجلود نعاج مدبوغة. إنّهم فقراء جدّاً و… مَن يدري كَم يعاني مِن البرد هذا الذي لستُ أجرؤ على ذِكر اسمه! وعلى التفكير كذلك بأنّني تكلّمتُ إلى أُمّه كما إلى زوجة مسكينة!…»
يَمضون إلى عنبَر، يَخرُجون منه بعد قليل، منهم مَن يَحمل آنية حليب، ومنهم مَن يَحمل جبناً مدوّراً مغلّفاً ضمن شبكة، ومنهم مَن يَحمل سِلالاً وحَمَلاً يثغو، ومنهم جلود نعاج مصنوعة.
يقول راعي الحليب: «أنا سآخذ نعجة وضَعَت حَمَلاً منذ شهر، حليبها ممتاز، سوف يَنفَعهما إن كانت المرأة في حاجة إليه. كانت تبدو لي طفوليّة، وشاحبة جدّاً!… لون الياسمين في ضوء القمر.» ثمّ يقودهم.
يَمضون تحت أنوار القمر والمشاعِل بعد إقفال العَنبر والسور. يَمضون عن طريق الـمَسالِك الريفيّة عبر أسوار مِن العلّيق العارية بفعل الشتاء. يَدورُون حول بيت لحم، ويَصِلون إلى الإسطبل عبر طريق تختلف عن تلك التي سَلَكَتها مريم، لقد أتوا مِن الوجهة المعاكسة. وهكذا لم يمرّوا بالمغارات الأكثر ترتيباً، ولكنّهم يَجِدون مباشرة المأوى الذي يَبحَثون عنه. يَقتَرِبون مِن الفتحة.
«ادخُل!»
«أنا لا أجرؤ.»
«ادخُل أنتَ.»
«لا.»
«انظُر على الأقل.»
«أنتَ يا ليفي، قد رأيتَ الملاك أوّلاً، هذا يعني أنّكَ أكثر صلاحاً مِنّا، فانظُر.»
في الحقيقة، كانوا قد عامَلوه في البداية كمجنون… ولكنّهم الآن بحاجة إليه، لأنّ الفتى يجرؤ على ما لا يجرؤون عليه هُم.
يتردَّدَ الفتى أوّلاً، ولكنّه يقرّر بعدئذ. يدنو مِن المأوى، يُبعِد المعطف قليلاً… ويتوقّف مشدوهاً.
يسألونه بصوت منخفض قَلِقين: «ماذا ترى؟»
«إنّني أرى امرأة فتيّة وجميلة، ورجلاً منحنياً على مذود، وأَسمَع… أَسمَع طفلاً يبكي، والمرأة تقول له بصوت… آه! يا له مِن صوت!»
«ماذا تقول؟»
«إنّها تقول: “يسوع، يا صغيري! يسوع يا حبّ والدتكَ! لا تبكِ يا بني!” إنّها تقول: “آه! ليتني أستطيع القول لكَ: خُذ الحليب يا صغيري! ولكنّني لم أَحصل عليه بعد!” إنّها تقول: “أنتَ تشعر بالبرد يا حبيبي، القشّ يؤلمكَ بوخزه. يا له مِن ألم لأُمّكَ أن تسمعكَ تبكي هكذا! دون تَمكُّنها مِن التخفيف عنكَ.” إنّها تقول: “نَم يا روحي! إنّ قلبي لينفطر لدى سماعكَ ورؤية دموعكَ.” إنّها تُقَبِّله وتُدَفّئ قدميه الصغيرتين بيديها. إنّها تنحني وتخفض يديها على المذود.»
«نادِ! نبّههم لوجودكَ!»
«أنا لا. بل بالأحرى أنتَ الذي قُدتَنا وتَعرِفها.»
يَفتَح الراعي فمه ويَقتَصِر على نحنحة قويّة مُحدِثاً صوتاً.
يلتَفِت يوسف ويُقبِل صوب الباب: «مَن أنتم؟»
«نحن رعاة نحمل لكم الغذاء والصوف. أتينا لتقديم فروض العبادة للمخلّص.»
«ادخُلوا.»
يَدخُلون إلى الإسطبل الذي أُضيء بنور المشاعِل. والكبار منهم يَدفَعون الصغار أمامهم.
تلتَفِت مريم وتبتسم، ثمّ تقول: «تعالوا، هلمّوا!» وتَدعُوهم باليد وبابتسامتها، وتُمسِك بالوَلَد الذي رأى الملاك وتَسحَبه إليها قرب المذود. ويَنظُر الولد مُشرِقاً فَرَحاً.
ويتقدّم الآخرون الذين دعاهم يوسف حاملين هداياهم. ويضعونها عند أقدام مريم مع كلمات مُختَصَرة ومتأثِّرة. ثمّ يَنظرون برفق إلى الطفل الذي يبكي ويبتسمون متأثّرين وسعداء.
يقول أحدهم، وهو الأكثر شجاعة: «إليكِ أيّتها الأُمّ، إنّه ناعم ونظيف، لقد صنعتُه للطفل الذي سيولد لنا قريباً، ولكنّي أُقدّمه لكِ. ضعي ابنكِ في هذا الصوف الناعم الدافئ.» ويُقدّم لها جِلد نعجة، جِلداً جميلاً ذا جزّة صوف طويل وناصع البياض.
تَرفَع مريم يسوع وتلفّه به، وتُريه للرّعاة الذين يَركَعون على قَشّ الأرض ويَنظُرون إليه بنشوة.
ثمّ يتشجّعون ويقترح أحدهم: «يجب إعطاؤه جرعة حليب، أو الأفضل جرعة ماء وعسل. إنّما ليس لدينا عسل. هذا ما نعطيه عادة للمواليد الجدد، فعندي سبعة أولاد وأصبَحَت لي خبرة في ذلك…»
«هاكِ الحليب، خذي سيدتي.»
«لكنّه بارد، ينبغي أن يكون ساخناً. أين إيلي؟ فالنعجة معه.»
مِن المفروض أن يكون إيلي هو رجل الحليب، ولكنّه ليس هنا، فقد ظلّ واقفاً خارجاً ويَنظُر مِن خلال صدع، وقد تاه في ظلمة الليل.
«مَن قادَكم إلى هنا؟»
«ملاك قال لنا أن نأتي، وإيلي قادنا، ولكن أين هو الآن؟»
ثغاء النعجة يفضح أمره.
«تقدّم إننا بحاجة إليكَ.»
يَدخُل مع النعجة وقد اعتَرَته الخشية مِن أن يكون الأكثر لفتاً للانتباه.
فيقول يوسف وقد تعرَّفَ عليه: «أهذا أنتَ؟» وتبتسم مريم قائلة له: «إنّكَ لَرَجُل طيب.»
يَحلبون النعجة، وبِطَرَف فوطة مبلّلة بالحليب الـمُزبِد تمسح مريم شفتي الصغير الذي يبدأ مص هذه العذوبة الدسمة. يبتسم الجميع، ويبتسمون أكثر عندما يغفو يسوع في دفء الصوف وطرف الوشاح ما يزال بين شفتيه.
«ولكن لا يمكن أن تبقوا هنا، فالمكان بارد ورطب، وثمّ… مع رائحة الحيوانات هذه، لا يمكن أن يُعقَل هذا… و… لا يُعقَل هذا مِن أجل المخلّص.»
فتُجيب مريم بتنهيدة كبيرة: «أعرف ذلك، إنّما ليس لنا مكان في بيت لحم.»
«تشجّعي يا امرأة. سوف نبحث لكِ عن منزل.»
ويقول رجل الحليب إيلي: «سأُكَلِّم سيدتي. إنّها طيّبة وستستقبلكم حتّى ولو اضطُرَّت للتنازل لكم عن غرفتها. سأُكَلِّمها عند طلوع النهار. إنَّ بيتها مليء، ولكنّها ستجد لكم فيه مكاناً.»
«للصغير على الأقلّ. فأنا ويوسف لا يهمّ إن بقينا هكذا على الأرض. إنّما مِن أجل الصغير…»
«لا تغتمّي يا امرأة، فأنا أُفكّر في ذلك. سوف أُحَدِّث أناساً كثيرين بما قيل لنا. لن ينقصكم شيء. أمّا الآن فتَقَبَّلوا منا ما يمكن أن يقدّمه لكم فقرنا. إنّنا رعاة.»
يقول يوسف: «نحن أيضاً فقراء ولا يمكننا تعويضكم.»
«آه! نحن لا نريد! حتّى ولو كنتم قادِرين، فنحن لا نريد ذلك! الربّ قد كافَأَنا، لقد وَعَدَ بالسلام لكلّ الناس. كان الملائكة يقولون: “السلام للناس ذوي الإرادة الحسنة”. أمّا لنا نحن فقد أعطاناه لأنّ الملاك قال لنا إنّ هذا الوَلَد هو المخلّص، المسيح، الربّ. نحن فقراء وجَهَلَة، صحيح، ولكنّنا نَعلَم أن الأنبياء قالوا إنّ المخلّص سيكون أمير السلام. وقد قال لنا بأن نُقدّم فروض العبادة له، فَمَنَحَنا بذلك سلامه. المجد لله في أعالي السماوات، والمجد لِمَن هو مسيحه! ومبارَكَة أنتِ أيّتها المرأة التي حمَلتِهِ في أحشائكِ! أنتِ قدّيسة لأنّكِ كنتِ مستَحِقَّة لأن تحمِليه! مُرينا كملكة، فنحن سوف نَسعَد بخدمتكِ. ماذا يمكننا فعله لأجلكِ؟»
«أحِبّوا ابني واحفظوا دائماً هذه الأفكار في قلوبكم.»
«ولكن ألا رغبة لكِ في شيء لأجلكِ أنتِ؟ أليس لكِ أهل تودّين إخبارهم بأن ابنكِ قد وُلِد؟»
«نعم لي أهل. ولكنّهم بعيدون عن هنا، إنّهم في الخليل…»
يقول إيلي: «أنا أذهَب إليهم. مَن هُم؟»
«زكريّا الكاهن، ونسيبتي أليصابات.»
«زكريّا، آه! أنا أعرفه جيّداً. إنّني أذهب إلى جباله صيفاً، فهناك توجد مراعٍ خصبة وجميلة، وأنا صديق راعيه. عندما أرى أنّ الأمور هنا قد ترتّبت سأمضي إلى زكريّا.»
«شكراً لكَ يا إيلي.»
«عفواً. إنّه لَشَرف كبير لي، أنا الراعي المسكين، أن أذهب لأتحدّث إلى الكاهن وأقول له: “لقد وَلِدَ المخلّص”.»
«لا. بل ستقول له: “إن مريم الناصريّة نسيبتكَ تقول: إنّ يسوع قد وُلِد. وتودُّ لو تأتي إلى بيت لحم”.»
«سوف أقول له هذا.»
«وليكافئكَ الله على ذلك. سأذكُركَ، سأذكركم جميعاً…»
«سوف تُحَدِّثين ابنكِ عنّا؟»
«نعم.»
«أنا إيلي.»
«أنا ليفي.»
«وأنا صموئيل.»
«وأنا يونا.»
«وأنا اسحق.»
«وأنا طوبيا.»
«وأنا يوناثان.»
«وأنا دانيال.»
«وأنا سمعان.»
«وأنا اسمي يوحنا.»
«أما أنا فأُدعى يوسف وأخي بنيامين، ونحن توأمان.»
«سوف أتذكر أسماءكم.»
«يجب أن نذهب… لكنّنا سنعود… وسنأتي بآخرين للعبادة!…»
«كيف نعود إلى الحظيرة تاركين هذا الصغير؟»
«المجد لله الذي أظهَرَهُ لنا!»
ويقول ليفي بابتسامة ملائكيّة: «دعينا نُقَبِّل ثوبه.»
تَرفَع مريم يسوع بهدوء مع بقائها جالسة على القشّ وتُقَدِّم القدمين الصغيرتين الملفوفتين بالقماش ليقبّلوهما. وقد كان الـمُلتَحون أوّل مَن مسحوا دموعهم، فالجميع تقريباً تَدمَع عيونهم. وعندما يضطرّون للذهاب يَخرُجون سائرين للخلف تاركين قلوبهم قرب المذود.
هكذا تنتهي الرؤيا بالنسبة لي: مريم جالسة على القشّ والطفل على صدرها، أمّا يوسف الذي يستَنِد بمرفقيه على حافة المذود فيَنظُر ويتعبّد.
يقول يسوع:
«اليوم، أنا مَن يتكلّم. إنّكِ متعَبة جدّاً، ولكن اصبري قليلاً أيضاً. إنّها أمسية خميس الجسد. بإمكاني أن أحدّثكِ عن الإفخارستيا وعن القدّيسين الذين أصبَحوا رُسُل العبادة لها، كما حدّثتُكِ عن القدّيسين الذين كانوا رُسُل القلب الأقدس. إلّا أنّني أريد الآن أن أحدّثكِ عن أمر آخر، وعن فئة أخرى مِن عابِدي جسدي الذين هُم بالنسبة إليه روّاد هذه العبادة. إنّهم الرُّعاة، أوائل عابِدي جسدي ككلمة الله المتجسّد. لقد قلتُ لكِ ذلك مرّة، وقد قيل كذلك عن طريق كنيستي: إنّ القدّيسين الأبرار هُم شهداء المسيح الأوائل. والآن أقول لكِ إن:
الرَُعاة هُم أوائل عابِدي جسد الله. ففيهم توجد كلّ المميزات اللازمة ليكونوا عابِدي جسدي، النفوس الإفخارستية:
إيمان متيقِّن: لقد آمنوا بكلام الملاك بشكل سريع وأعمى.
الســـــــخـــــــاء: إنّهم يُقدّمون كلّ ما يَكنزونه للربّ.
التواضـــــــــع: يتقرّبون مِن الأشخاص الأكثر فقراً بشريّاً منهم، ببساطة وبحركات لا ذلّ فيها ويُعلِنون أنفسهم خدّاماً لهم.
الــرغبـــــــة: وما لم يستطيعوا تقديمه منهم تفنّنوا في تأمينه سريعاً وبنخوة شُجاعة.
سرعة الطاعة: ترغب مريم في إخبار زكريّا، فيذهب إيلي فوراً ولم يؤجّل ذلك إلى وقت لاحق.
الــــــحــــــــبّ: أخيراً لم يستطيعوا الابتعاد عن الـمِذود، وأنتِ قلتِ: “يتركون قلوبهم هناك”، فجاء التعبير مُلائِماً.
ولكن ألا ينبغي التصرّف هكذا حتّى مع سرّي؟ (Sacrement).
شيء آخر، أقوله لكِ وحدكِ: لاحِظي لمن أَظهَرَ الملاك نفسه أولاً، ومَن الذي استحقَّ اختبار مشاعر المودّة عند مريم. إنّه الفتى ليفي. فالله يُظهِر نفسه لمن يمتلك نفس طفل، كما يُظهِر له أسراره. إنّه يَسمَح له بسماع الكلمات الإلهيّة وكلمات مريم. ومَن يمتلك نفس طفل يمتلك كذلك جرأة ليفي المقدّسة ويقول: “دعيني أُقَبِّل ثوب يسوع”. يقولها لمريم، لأنّ مريم هي التي تعطيكم يسوع دائماً، هي حاملة الإفخارستيا، هي كأس القربان الحيّ.
مَن يذهب إلى مريم يَجدني. ومَن يطلبني منها يَنلني بواسطتها. فابتسامة أُمّي حين تَطلُب منها إحدى المخلوقات: “أعطيني يسوعكِ، ولأحبّه”، تجعل السماء تُشِعّ بألق حيّ وسعيد على قَدر ما تملك هي مِن الفرح.
قولي لها إذن: “اجعليني أُقَبِّل ثوب يسـوع، اجعليني أُقَبِّل جراحه.” وتجاسري كذلك أكثر وقولي لها: “أريحي رأسي على قلب يسوعكِ لأغرُف منه الغبطة.”
تعالي واستريحي، مثل يسوع في المهد، بين يسوع ومريم.»