6- في أنَّ إكرامَ العذراء هو أكثرُ ضرورة للمدعوين إلى حالة الكمال الخصوصية
في أنَّ إكرامَ العذراء هو أكثرُ ضرورة للمدعوين إلى حالة الكمال الخصوصية
إذاً ما هو إكرام العذراءِ مريم ضروري لكل الناس ليخلصوا، فهو أكثر من ذلك بكثير للمدعوين إلى حالة كمالٍ خصوصية. ولا أظنُ أنَّ أحداً يقدِرُ أن يحصلَ على اتحادٍ تامٍ مع الآب وأن يكونَ أميناً كلياً مع الروح القدس، بدون اتحادٍ كبير مع القديسة مريم وخضوعٍ تامٍ لمساعدتها.
مريمُ وحدَها وجدَتِ الحُظوى لدى الله (لوقا 1: 30) بدون عونٍ من أية خليقة أُخرى. أمَّا الذين جاءوا بعدها فلم يجدوا النعمةَ أمام الله إلّا بواسطتها. كانت مريمُ ممتلئةً نعمة عندما حيّاها جبرائيل رئيسُ الملائكة (لوقا 1: 28) وفاضت فيها نعمةُ الروح القدس، عندما ظلَّلها بظله الذي لا يوصف (لوقا 1: 35)، وتضاعفَ هذا الامتلاءُ يوماً بعد يوم وساعةً تلو الأُخرى، إلى أن وصلَ إلى حدٍ عظيم لا يمكن تصوُّره. فأقامها العليُّ الخازنةَ الوحيدةَ لكنوزه، والموزعةَ الوحيدةَ لنعمه، لتجعلَ نبيلاً ورقيقاً وثريّاً كلَّ من تريد في طريق السماء الصعبة، وإدخال من تريد في باب الحياةِ الضيق، ومنح العرش والصولجان وتاج الملك لمن تحب. فيسوع هو دائماً وفي كل مكان، ثمرةُ مريم وابنها، ومريمُ هي دوماً الشجرةُ الحقيقية التي تحملُ ثمرةَ الحياة والأُمُّ الطبيعيةُ التي تُنجبه.
لمريمَ وحدَها سَلَّمَ الله «مفاتيح الخزانة» (نشيد 1: 3) المحبة الإلهية، فخوَّلَها سلطةَ الدخولِ في الطرقِ الأكثر والأكثر سريةً في معارجِ الكمال، لتقودَ الآخرين فيها. ومريمُ وحدَها تقدر أن تُدخِلَ أبناءَ حواء غير الأمينة والتعيسة إلى الفردوس الأرضي، ليتنزهوا فيه مع الله بلذة، ويختفوا فيه بنوع أمين عن أدائهم، ويتلذذوا بطيبٍ، ودون خوف الممات، من شجرة الحياة ومعرفة الخير والشر، ويشربوا طويلاً من المياه السماوية لهذا المُعين العذب الذي ينبع فيه بغزارة. وبالأحرى، بما أنها هي ذاتُها هذا الفردوس الأرضي، والأرضُ البكرُ والمباركةُ التي طُردَ منها آدم وحواء الخاطئان، لا تَدَع أحداً يدخل عندها، إلَّا من يطيبُ لها أن تجعلَه من مَصافِ القديسين.
لكي أستعملَ كلمةَ الروح القدس التي حسَبَ شرحِ القديس برنردس «كل أغنياءِ الشعب» (مز 44: 13) سوفَ يستعطفون وجهَ مريمَ، من جيلٍ إلى جيل، لا سيما في الأزمنة الأخيرة. أيَ إن أعظمَ القديسين، والأنفس الأغنى نعمةً وفضيلة، ستكون الأكثرَ مثابرةً في الصلاة إلى العذراء القديسة، التي نعتبرها دوماً حاضرة، والمثالَ الكامل للاقتداء به، وهي نصيرتُها القديرة لمساعدتها.
قلتُ سيحدثُ هذا خاصةً في الأيام الأخيرة وقريباً، لأنَّ العليَ وأُمَّه القديسة، سيصوغان على صورتهما، قديسين عظاماّ، يفوقون قداسةَ أغلب القديسين الأخيرين، كما يعلو أرزُ لبنانَ على الشجيرات الصغيرة.
إنَّ هذه النفوسَ الكبيرة المملوءةَ نعمةً وغيرةً، ستُنتَخَبُ للمحاربةِ ضد أعداءِ الله، فترعد من كل صوب. وستكون عجيبةً في إكرامِها لمريم، زاهيةً بنورها، مغتذيةً من حليبها، تُقاد بروحها، وتستندُ على ذراعها، وتُحفظُ تحت رعايتِها، فستحارب بيدٍ وتبني بأُخرى (2عزرا 4: 17). ستحارب بيد وتغلب وتسحقُ أعداءَ الله، وستبني باليد الأخرى، هيكلَ سليمانَ المقبل ومدينةَ الله الروحية، التي هي مريم، والتي يسمّيها الآباء القديسون، هيكل سليمان ومدينةَ الله.
وستحملُ هذه النفوسُ بأقوالها وأمثالها، العالمَ كلّه إلى الإكرام الحقيقي لمريم، الأمر الذي سيجلبُ لها مضايقات كبيرة، ولكن في الوقت ذاتِه، مجداً عظيماً لله، مع انتصاراتٍ رائعة. هذا ما أوحاه الله للقديس منصور فيرييه، رسولِ عصرهِ العظيم، كما أشار هو نفسُه إلى ذلك في كتابٍ له.
يظهرُ أنَّ الروح القدسَ كان قد سبَقَ وأنذَرَ بهذا في المزمور 58: 15، 17 حيثُ يقول: «سيعرفون أنَّ الله يتسلّط في يعقوبَ وأقاصي الأرض. سيرجِعون في المساء، وسيجوعون مثلَ الكلاب ويُحيطون بالمدينة». ما هذه المدينة التي سيجدها الناس في آخِرُ الأزمِنة ليهتدوا إليه، أو ليُشبعوا جوعَهم، إلَّا العذراء القديسة التي يدعوها الروحُ القدس: «مدينة الله» (مز56: 3).