51- لقاء بطرس الأول مع المسيح | قصيدة الإنسان – الإله

1٬556

كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}

51- لقاء بطرس الأول مع المسيح

13 / 10 / 1944

بنفس مُثقَلَة بكثير مِن الأمور، أُصَلّي لأنال نوراً. وَوَقَعتُ على الفصل الثاني عشر مِن الرسالة إلى العبرانيين، في الحقيقة، إنّها تعيد القوّة إلى روحي وتَهِبني القُدرة لـ “أسمع”، ذلك أنّني تحت وطأة ضغط أمور كثيرة، فقد وَصَلتُ إلى حد التفكير: «لم أعد أريد أن أعمل شيئاً. أريد حياة عادية، حياة عادية بأي ثمن.» إنّما “الذي يتكلّم”، وأنا أعرف مَن يكون وأراه يَنظر إليَّ بعينين عطوفتين تطلبان منّي بإلحاح. فلم أعد أعرف أن أقول “لا أريد”.

الحقيقة أنّ الله نار تَلتَهِم، حتّى ميول إنسانيّتنا، عندما تستسلم له. فللّذي يكلّمني ويقول لي: «أنا لن أترككِ، لن أهملكِ»، أريد أن أُكرّر القول بثقة تامّة: «أنتَ عوني، فلا أخشـى النـاس. لا تُخَيِّب أيّها الربّ رجائي.»


في الساعة الثانية ظهراً رأيتُ هذا:

يتقدّم يسوع على طريق صغيرة، هي درب بين حَقلَين. إنّه بمفرده. يوحنّا يسير باتّجاهه على طريق صغيرة عبر الحقول، ويُلاقيه أخيراً عند مروره عبر فتحة وسط السياج.

في رؤيا اليوم، يبدو يوحنّا فتيّاً جدّاً. وجه رجل ورديّ أَجرَد بالكاد اكتَمَلَ شكله، علاوة على ذلك هو أشقر. كذلك لا أثر لشارب أو لحية، إنّما فقط بشرة ورديّة لخدود ملساء، وشَفَتان حمراوان، والنور المشعّ فرحاً مِن ابتسامته الحلوة ونظرته النقيّة، ليس للون عينيه الفيروزيّ الغامق بقدر ما هو لصفاء النَّفْس غير المشوبة التي تَشِفُّ عنهما. شعره أشقر كستنائي طويل وناعم، يتموّج الآن حيث يسير بخطى سريعة، يَكاد يَجري. يُنادي عندما يُوشِك على اجتياز السّياج: «يا معلّم!»

يتوقّف يسوع، ويلتَفِت مبتسماً.

«يا معلّم، لقد رغبتُ كثيراً بأن أراكَ! وقد قيل لي في المنزل الذي كنتَ مقيماً فيه إنّكَ مَضَيتَ صوب القرية… إنّما ليس أكثر… وقد كنتُ خائفاً مِن أن لا أراكَ.» يتكلّم يوحنا وهو مُنحَنٍ قليلاً باحترام. في هذه الأثناء كان مُفعَمَاً ثِقة وِديّة، في مظهره وفي نَظَره الذي رَفَعَه إلى يسوع بينما أبقى رأسه منحنياً بشكل خفيف على الكتف.

«رأيتُ أنّكَ تبحث عنّي فأتيتُ إليكَ.»

«رأيتَني؟ أين كنتَ يا معلّم؟»

«كنتُ هناك» ويشير يسوع إلى غيضة شجر بعيدة، لونها وأوراقها يجعلانني أقول عنها زيتوناً. «كنتُ هناك، أُصلّي وأفكّر في ما أقوله هذا المساء في المجمع. ولكنّي قَطَعتُ بعدئذ كلّ شيء حينما رأيتُكَ.»

«ولكن كيف لكَ أن تراني، وأنا بالكاد أُميّز المكان المختبئ خلف ذاك المنحدر؟»

«ومع ذلك، ها أنا ذا. أتيتُ لملاقاتكَ لأنّني رأيتُكَ، ذلك أنّ ما لا تستطيع العين فِعله يحقّقه الحبّ.»

«نعم، الحبّ يفعله. إذاً فأنتَ تحبّني يا معلّم؟»

«وأنتَ هل تحبّني يا يوحنّا بن زبدى؟»

«كثيراً أيّها المعلّم. يُخيّل إليّ أنّني أحببتُكَ على الدوام. قبل أن أعرفكَ. قبل ذلك كانت نفسي تبحث عنكَ، وعندما رأيتُكَ قالت لي: “ها هو ذا الذي تبحث عنه”. وعندما التقيتُكَ، فإنّ نفسي هي التي عَرَفَتكَ.»

«لقد قُلتَها يا يوحنّا، وهذا صحيح. وأنا أيضاً أتيتُ لملاقاتكَ لأنّ نفسي أَحَسَّت بكَ. كم مِن الوقت سيدوم حبّكَ لي؟»

«على الدوام، أيّها المعلّم. ولا أريد أن أحبّ أحداً سواكَ.»

«لديكَ أب وأُمّ وإخوة وأخوات، ولديكَ الحياة، ومع الحياة المرأة والحبّ. كيف ستعمل لتترك كلّ هذا مِن أجلي؟»

«يا معلّم… لستُ أدري… يُخَيَّل إليَّ أنّ مِن الكبرياء القول إنّ حبّكَ الـمُفَضَّل سيكون لي البديل عن حبّ الأُمّ والأب والإخوة والأخوات وكذلك المرأة. عن كلّ شيء. سوف أكون مُشبَعَاً مِن كلّ شيء إن أنتَ أحببتَني.»

«وإذا سَبَّبَ لكَ حبّي آلاماً واضطهادات؟»

«لن يكون ذلك بشيء إذا ما أحببتَني، يا معلّم.»

«ويوم ينبغي لي أن أموت؟»

«لا! أنتَ شاب، يا معلّم… لماذا الموت؟»

«لأنّ الماسيا قد أتى يكرز بالشريعة على حقيقتها ويُتِمّ الفداء. والعالم يَمقت الشريعة ولا يريد الفِداء. لأجل هذا فهو يَضطَّهِد مُرسَلي الله.»

«آه! لا يكن هكذا! لا تقل لمن يحبّك هذا التكهّن بالموت!… إنّما لو كان ينبغي لكَ أن تموت، فسوف أظلّ أحبّكَ. اسمح لي أن أحبّكَ.» ونظرة يوحنّا كانت نظرة تَرَجٍّ، منحنياً أكثر مِن ذي قبل، يسير إلى جانب يسوع ويبدو مستجدياً حبّه.

يتوقّف يسوع. يَنظر إليه. يَلِج بنظرته إلى أعماقه، ثمّ يضع يده على رأسه المنحني. «أريد أن تحبّني.»

«آه! يا معلّم!» يوحنّا سعيد. وعلى الرغم مِن أنّ دمعة لَمَعَت في عينه، فهو يبتسم بفمه الفتيّ المرسوم بشكل مُتقَن ويَأخذ اليد الإلهيّة، يُقَبِّل ظهرها ويضمّها إلى قلبه. ويتابعا المسير.

«قلتَ إنّكَ كنتَ تبحث عنّي…»

«نعم لأقول لكَ إنّ رفاقي يودّون التعرّف عليكَ… ولأنّ، آه! كم كنتُ أَرغَب أن أكون أيضاً معكَ! لقد تركتُكَ منذ بضعة ساعات… ولكنّني أصبحتُ لا أستطيع البقاء بدونكَ!»

«لقد كنتَ إذاً مُبشِّراً جيّداً بالكلمة؟»

«ويعقوب كذلك، يا معلّم، لقد تحدَّثَ عنكَ بشكل… ليُقنعهم.»

«بحيث أنّ مَن كان بعد مُتَشكِّكاً قد أُقنِع، وهو مِن جهة أخرى لم يكن مذنباً، إذ كانت الحيطة هي السبب في تَحَفُّظه. هيّا بنا لِنُطَمئِنهُ تماماً.»

«لقد كان خائفاً قليلاً…»

«لا! يجب أن ينتفي الخوف مِنّي! لقد أتيتُ للصالحين، خاصّة الذين منهم في الخطأ. أريد أن أُنقِذ لا أن أَدين. ومع الناس النزيهين سوف أكون كلّيّ الرأفة.»

«ومع الخَطَأة؟»

«كذلك. أمّا مع غير المستقيمين، أَسمَع عن أولئك غير المستقيمين روحيّاً، والذين يتحوّلون ظاهريّاً بالرياء إلى صالحين، بينما هُم أشرار، وهم أناس يبحثون عن مصلحتهم الشخصيّة حتّى على حساب القريب؛ مع هؤلاء سوف أكون صارماً.»

«آه! إذاً يمكن لسمعان أن يَطمَئِنّ، فهو صادق بشكل لا يجاريه فيه أحد.»

«هذا ما يعجبني وما أودُّ أن أراه في كلّ الناس.»

«لدى سمعان أشياء كثيرة يقولها لكَ.»

«سأستَمِع إليه بعد الكلام في المجمع. لقد أخطَرتُ المساكين والمرضى وأيضاً أغنياء وأناساً بصحّة جيّدة. فجميعهم يحتاجون إلى البشرى.»

نَدنو مِن البلدة. أطفال يلعبون في الشارع، يكاد أحدهم أن يصطَدِم بساقي يسوع بينما هو يجري، لو لم يكن يسوع متنبّهاً ويُمسك به. ومع ذلك فقد بكى الطفل كما لو أنّه أُصيب، ويقول له يسوع وهو يمسكه مِن ذراعه: «أإسرائيليّ يبكي؟ ماذا كان ينبغي أن يفعل آلاف آلاف الأطفال الذين أصبَحوا رجالاً وهم يجتازون الصحراء خلف موسى؟ ومع ذلك، فَمِن أجلهم، هُم، أكثر مِن الآخرين، قد أَمطَرَ الباري تعالى الـمَنّ اللذيذ جدّاً. إنّه بالفعل يحبّ الأبرياء ويسهر على ملائكة الأرض الصغار هؤلاء، هؤلاء الطيور بدون أجنحة، كما يفعل مِن أجل العصافير التي تطير في الغيضة وعلى السطوح. هل تحبّ العسل؟ نعم؟ إذاً إن كنتَ صالحاً فستأكل عسلاً ألذّ مِن عسل نحلكَ.»

«أين ذلك؟ ومتى؟»

«عندما، بعد حياة وفيّة لله، ستمضي إليه.»

«أعرف أنّني لن أمضي إلى هناك إن لم يأتِ الماسيا. وتقول لنا أُمّنا إنّنا الساعة، نحن الإسرائيليّين، كما في أيّام موسى، وسوف نموت ونحن نبتغي أرض الميعاد. وتقول إنّه سيكون علينا الانتظار للولوج، وفقط الماسيا، هو من سَيَسمح لنا بالدخول.»

«ولكن يا لكَ مِن إسرائيليّ صغير طيّب! وأنا أقول لكَ إنّكَ ستموت وستدخل مباشرة إلى الفردوس، لأنّ ماسيا سيكون آنذاك قد فَتَحَ أبواب السماء. يجب إذن أن تكون حَسَن السلوك.»

«ماما! ماما!» يُفلِت الصبيّ مِن بين يدي يسوع ويَركض لملاقاة عروسة شابّة عائدة وهي تحمل جرّة نحاسيّة.«ماما، قال لي الرابي الجديد إنّني سأمضي مباشرة إلى السماء عندما سأموت، وإنّني سوف آكل الكثير مِن العسل… ولكن بشرط أن أكون حَسَن السلوك. وسوف أكون حَسَن السلوك.»

«إن شاء الله! المعذرة أيّها المعلّم إذا كان قد أزعجكَ. إنّه كثير الحركة!»

«لا تُسبّب لي البراءة أيّ إزعاج أيّتها المرأة. فليبارككِ الله لأنّكِ أُمّ تُنشِئ أبناءها على معرفة الشريعة.»

اعترى المرأة احمرار لهذا الإطراء وأجابت: «ولكَ أيضاً بركة الله.» وتَغيب مع صغيرها.

«هل أنتَ مُعجَب بالأطفال يا معلّم؟»

«نعم، لأنّهم طاهِرون، صادِقون، ومُحِبّون.»

«هل لديكَ أطفال يا معلّم؟»

«لا، لديّ أُمّ فقط، وفيها طهارة وصدق وحبّ الصغار الأكثر قداسة، وفي الوقت نفسه حِكمة وعَدل وقوّة البالغين. لديّ كلّ شيء في أُمّي، يا يوحنّا.»

«وتركتَها؟»

«الله فوق حتّى أكثر الأُمّهات قداسة.»

«هل سأتعرّف عليها؟»

«سوف تعرفها.»

«وستحبّني؟»

«سوف تحبّكَ لأنّها تحبّ الذين يحبّون يسوعها.»

«إذاً فلا إخوة لكَ؟»

«لديّ أبناء عم مِن جهة عريس والدتي. إنّما كلّ إنسان بالنسبة لي هو أخ، وقد أتيتُ مِن أجل الجميع. ها نحن أمام المجمع. سأَدخُل وسوف توافيني مع أصدقائكَ.»

مَضَى يوحنا ودَخَلَ يسوع إلى قاعة مربّعة فيها كلّ الزينات المعتادة ومصابيح موضوعة بشكل مثلّثيّ ومقاعد ولفائف مِن الرقّ. وقد كان هناك جَمع ينتظرون ويُصَلّون. يُصَلّي يسوع كذلك. يُثرثر الجَّمع بخصوصه في الخلف وهو ينحني ليُحيّي رئيس المجمع، ثمّ يأخذ لنفسه إحدى اللّفائف لا على التعيين.

يَبدأ يسوع تعليمه:

يقول: «الروح يجعلني أقرأ هذه الأشياء لكم. مِن الفصل السابع مِن سِفر إرميا نقرأ: “هكذا قال ربّ الجنود إله إسرائيل: ’أَصلِحوا طُرُقكم وأعمالكم فآتي وأسكن معكم في هذا الـمَوضِع. لا تَتَّكِلوا على قول الكذب مُرَدِّدين هنا هيكل الربّ، هيكل الربّ، هيكل الربّ. فإنّكم إن أصلحتم طرقكم وأعمالكم وأَجرَيتم الحُكم بين الرجل وقريبه. إن لم تَجوروا على الغريب واليتيم والأرملة ولم تَسفكوا الدم الزكي في هذا الـمَوضِع ولم تَتبَعوا آلهة أُخرى لِمَسَاءاتكم فإنّي أسكن معكم في هذا الـمَوضِع في الأرض التي أعطيتُها لآبائكم مِن الدهر إلى الدهر‘”.

اسمَعوا أنتم أيّها الإسرائيليّون. ها قد جئتُ لأنشر كلام النور الذي لا تعرف نفوسكم العمياء أن تراه ولا أن تُدرِكه. اسمَعوا. سوف تفيض الدموع على أرض شعب الله؛ يبكي الـمُسِنّون الذين يتذكّرون الأمجاد القديمة؛ يبكي البالِغون مُنحَنين تحت النّير؛ ويبكي الأطفال فاقدين الأمل بمجد آتٍ. ولكنّ مجد الأرض ليس بشيء إذا ما قُورِن بمجد لا يستطيع انتزاعه ظالِم غاشِم إن لم يكن الشيطان والإرادة السيّئة.

لماذا تبكون؟ هل الباري تعالى الذي كان دائماً صالحاً تجاه شعبه قد أدار نَظَره الآن إلى جهة أخرى وأبى أن يُريه وجهه؟ ألم يعد الله الذي شَقّ البحر ومَرَّرَ إسرائيل به، الذي قادَهُ عبر رمال الصحراء وغَذّاه، الذي ردَّ عنه أعداءه؛ أليس هو الذي، لكي يمنع عنه التّيه على طريق السماء مَنَحَ النفوس الشريعة كما أعطى الأجسام عمود السحاب؟ ألم يعد هو الإله الذي حَلَّى المياه الـمُرّة وأنزَلَ المنّ بينما كانوا مُنهَكين؟ أليس هو الإله الذي أراد أن يجعل لكم مَكانة على هذه الأرض وأن يَقطع عهداً معكم؟ أليس هو أباكم وأنتم أبناءه؟ لماذا ضَرَبكم الأجنبيّ؟ كثيرون منكم يُهَمهِمون: “ومع ذلك فلدينا هنا الهيكل!” فلا يكفي امتلاك الهيكل والمضيّ للصلاة إلى الله فيه.

الهيكل الأوّل هو في قلب كلّ إنسان، وهناك تقوم الصلاة المقدّسة. ولكن لا يمكنها أن تكون مقدّسة إن لم يُصلِح القلب نفسه، إن لم تَصطَلِح الطِّباع والمشاعر ومبادئ العدالة تجاه الفقراء وتجاه الخُدّام وتجاه الأهل وتجاه الله.

انظروا الآن. إنّي أرى أغنياء قساة القلوب يتبرّعون للهيكل بسخاء ولكنّهم لا يعرفون أن يقولوا لفقير: “يا أخي هاكَ رغيفاً ودانِقاً، اقبَلهُما. مِن القلب للقلب، فلا تذلّنّكَ عطيّتي لكَ ولا تجعلني متكبّراً”. إنّي أرى أناساً يُصَلّون ويشتكون إلى الله مِن أنّه لا يستمع إليهم سريعاً، ولكنّهم بعدئذ يُجيبون البائِس الذي يقول لهم: “اسمعوني”، وقد يكون أحياناً مِن الأُسرة ذاتها، بقلب قاس مثل الحجر: “لا”. أراكم تبكون لأنّ المحتلّ يُفرِغ خزائنكم. ولكنّكم بعد ذلك تَستَنزِفون دم مَن تَمقتون ولا تتورّعون عن الأمنيات الدمويّة ضدّ الحياة.

يا أبناء إسرائيل! زمن الفداء قد أتى، إنّما هيِّئوا سُبُله في ذواتكم بالإرادة الصالحة. كونوا فاضِلِين صالِحِين، أحبّوا بعضكم بعضاً. أيّها الأغنياء لا يكن لديكم ازدراء؛ أيّها الباعة لا تغشّوا؛ أيّها المساكين لا تَحسدوا. أنتم جميعاً مِن دم واحد ومِن إله واحد. وجميعكم مدعوّون إلى مصير واحد. لا تُوصِدوا دون أنفسكم، بخطاياكم، السماء التي سيفتحها الماسيا لكم. هل تُـهْتُم حتّى هذا الحين؟ الآن لا. فلتَختَفِ كلّ متاهة. بسيطة، صالحة وسهلة هي الشريعة التي تُوصِل إلى الوصايا العشر الأوليّة، إنّما مطبوعة بطابع نور الحبّ.

تعالوا سوف أدلّكم عليها كما هي: حُبّ، حُبّ، حُبّ. حُبّ الله لكم وحُبّكم لله. حُبّ القريب. دائماً حُبّ، لأنّ الله حُبّ ولأنّ أبناء الله الآب هم أولئك الذين يعرفون أن يعيشوا الحبّ. أنا هنا مِن أجل الجميع، لأَمنَح الجميع نور الله. هذه هي كلمة الآب التي تتحوّل فيكم إلى غِذاء. تعالوا، تَذوّقوا، جَدّدوا دم نفوسكم بهذا الغِذاء. ولتَختَفِ كلّ السموم. ولتَمُت كلّ شهوة جسديّة.

ها إنّ مجدّاً جديداً قد وَرَدَ إليكم: المجد الأبديّ. وإليه سيُقبِل أولئك الذين سيُنجِزون في قلوبهم دراسة حقيقيّة لشريعة الله. ابدؤوا بالحبّ. لا شيء أعظم منه. ولكنّكم عندما ستعرفون الحبّ ستعرفون آنذاك كلّ شيء، وسوف يحبّكم الله، وحبّ الله يعني معونة الله في مواجهة كلّ تجربة.

فلتحلّ بركة الله على الذي يلتَفِت إليه بقلب مُفعَم بالإرادة الصالحة.»

يَصمُت يسوع، ويُثرثر الناس، ثمّ يتفرّق الجمع بعد إنشاد مزاميري بمقاطع متعدّدة.

يَخرُج يسوع إلى الساحة الصغيرة. وعند عتبة الباب كان يوحنّا ويعقوب مع بطرس وأندراوس.

يقول يسوع: «السلام لكم.» ويُضيف: «هذا هو الرجل الذي، لكي يكون مُنصِفاً، احتَاجَ أن يَكفّ عن إصدار الأحكام قبل أن يَستَعلِم أوّلاً، ولكنّه مع ذلك يَعرِف اكتشاف أخطـائه بنـزاهـة. سـمعان، هل أردتَ رؤيتي؟ ها أنا ذا. وأنتَ يا أندراوس، لماذا لم تأتِ قبلاً؟»

يَنظُر الأَخَوان إلى بعضهما مُرتَبِكَين، ثمّ يُتمتم أندراوس: «لم أكن أجرؤ…»

يَعتَري بطرس احمرار ولا يقـول شـيئاً. ولكنّه عندما يَسمَع يسوع يقول لأخيه: «هل كان شرّاً أن تأتي؟ ليس سوى الشرّ الذي ينبغي لنا ألّا نجرؤ على فعله»، ويتدخّل قائلاً بصراحة: «لقد بَقِيَ بسببي، كان يريد أن يأتي بي حالاً إليكَ، ولكنّني أنا… قلتُ… نعم قلتُ: “لا أؤمن به”، ولم أُرِد. آه! الآن أفضل!…»

يبتسم يسوع ثمّ يقول: «ولصدقكَ أقول إنّني أحبّكَ.»

«ولكن أنا… لستُ صالحاً. لستُ قادراً على ما قُلتَه في المجمع. أنا سريع الغضب، وإذا أساء إليَّ أحد… إيه!… أنا طَمَّاع وأحُبّ امتلاك المال… وخلال بيعي السمك… إيه… ليس دائماً… إنّما ليس دائماً دون غشّ. أنا جاهل. وليس لديّ الوقت الكثير لاتّباعكَ لأحصل على النور. فما العمل؟ أريد أن أُصبِح كما تقول… ولكن…»

«هذا ليس صعباً، يا سمعان. أَتَعرف الكتاب قليلاً؟ نعم؟ إذاً فَكّر بالنبي ميخا. الله يريد منكَ ما قاله ميخا. وهو لا يَطلُب منكَ أن تَنزَع قلبكَ ولا أن تضحّي بأقدس المشاعر. لا، لا يَطلُب ذلك منكَ الآن. ذات يوم، ودون أن يُطلَب منك سَتَهِب ذاتكَ أيضاً لله. ولكنّه يَنتظر شمساً وهَطل مطر تجعل منكَ، أنتَ النبتة الغضّة، نخلة قويّة رائعة.

أمّا الساعة فهو يَطلُب منكَ هذا: ممارسة الإنصاف، حُبّ الرأفة، الالتزام الكامل باتّباع الله. حاوِل جاهداً عَمَل هذا، وسيُمحَى ماضي سمعان، وستُصبِح الإنسان الجديد، صديق الله ومسيحه. ولن تكون بعد سمعان، بل كيفا (صفا)، الصخرة القويّة التي سأتكئ عليها.»

«هذا يروق لي! إنّي أفهمه. الشريعة هي ذاك… هي ذاك… ها أنا لم أعد أعرف أن أنظر إليها بمنظار الحاخامِين!… بل كما تشرحها أنتَ، نعم. يُخيَّل إليَّ أنّني سأتوصّل إلى ذلك. وستساعدني. هل تبقى في هذا البيت؟ أنا أعرف صاحبه.»

«أبقى هنا. ولكنّني سأذهب إلى أورشليم، وبعدئذ سأكرز عبر فلسطين. لقد أتيتُ مِن أجل هذا. إلّا أنّني سوف آتي إلى هنا غالباً.»

«سوف آتي لأسمعكَ. أريد أن أكون تلميذكَ. وسيَدخُل القليل مِن النور إلى رأسي.»

«إلى القلب، يا سمعان، خاصّة إلى القلب. وأنتَ أندراوس، ألا تتكلّم؟»

«إنّني أسمع، يا معلّم.»

«أخي خجول.»

«سوف يُصبِح ليثاً. الليل يهبط. فليبارككم الله ويُكثر صيدكم. امضوا.»

«السلام لكَ.» ويَمضون.

ما أن يَخرُجوا حتّى يقول بطرس: «ولكن ماذا كان يريد مِن قوله آنذاك، عندما كان يتحدّث عن أنّني سأصطاد بِشِباك أخرى وأحصل على صيد مِن نوع آخر؟»

«لماذا لم تسأله؟ كنتَ تريد قول أشياء كثيرة وثمّ لم تَقُل شيئاً.»

«أنا كنتُ خجولاً. إنّه يختلف كثيراً عن كلّ الحاخامِين!»

يقول يوحنّا بلهفة وحنين عظيمَين: «الآن سيذهب إلى أورشليم… كنتُ أودُّ الطلب إليه لو كان يصحبني معه… ولم أجرؤ.»

يقول بطرس: «اذهب يا وَلَد وقُل له ذلك. لقد تركناه هكذا… دون كلمة ودّ… فليَعلَم على الأقلّ أنّنا معجبون به. اذهب، اذهب. سوف أُخبِر أباكَ بذلك.»

«أَأَذهَب يا يعقوب؟»

«اذهب.»

يمضي يوحنّا وهو يجري… ويعود يجري مُغتَبِطاً: «لقد قلتُ له: “هل تودّ أخذي معكَ إلى أورشليم؟” وأجابني: “تعال يا صديقي”. لقد قال لي يا صديقي! غداً في مثل هذه الساعة سآتي إلى هنا. آه! إلى أورشليم معه…»

تلك كانت نهاية الرؤيا.


14 / 10 / 1944

بخصوص الرؤيا السابقة يقول لي يسوع هذا الصباح:

«أريدكِ والجميع أن تُلاحِظوا سلوك يوحنّا، في إحدى نواحيه التي تُغفَل دائماً. تُقَدِّرونه لأنّه طاهِر ومُحِبّ ووفيّ، ولكنّكم لا تلاحظون أنّه كان عظيماً بتواضُعه.

إنّه، وهو الذي كان له الفضل في مجيء بطرس إليَّ، يُخفي بكلّ تواضُع تلك النقطة الخاصّة. إنّه الرَّسول إلى بطرس، وبالنتيجة أَوَّل رُسُلي، فلقد كان يوحنّا أوّل مَن عَرفني، أوّل مَن كلّمني، أوّل مَن تَبعني وأوّل مَن بَشَّر بي. ومع ذلك انظروا إلى ما يقوله: “وكان أندراوس أخو سمعان أحد اللذَيَن سَمِعا كلام يوحنّا فَتَبِعا يسوع. وأوّل مَن التقى به أخو سمعان فقال له: وَجَدنا الماسيا. وجاء به إلى يسوع”.

بإنصافه، إضافة إلى صلاحه، يَعرف أنّ أندراوس مُرتَبِك لكونه لا يمتلك سوى شخصيّة مُنغَلِقَة وخجولة، وهو يريد فعل أشياء كثيرة، إلّا أنّه لا يُوَفَّق في ذلك، وهو يريد للأجيال القادمة أن تَعرِف طِيب إرادته. إنّه يريد أن يبدو أندراوس أوّل رسول للمسيح بالنسبة إلى سمعان رغم أنّ خَجَله وتلاشيه أمام أخيه قد حَمَلاه على الفشل في رسالته.

بين الذين يَفعَلون شيئاً مِن أجلي، مَن تُراه يَعرِف الاقتداء بيوحنّا ولا يُظهِر نفسه الرسول الذي لا يُقارَن؟ إنّهم لا يفكّرون أنّ نجاحهم ناجم عن مجموعة أمور، والأمر لا يتعلّق بالقداسة فقط، بل إنّما بالشجاعة البشريّة كذلك وبالحظّ وبفعل التواجد أمام آخرين أقلّ جرأة أو أقلّ حظّاً، إنّما قد يكونون أكثر قداسة منهم.

بعد نجاح عظيم، لا تُمَجِّدوا أنفسكم كما لو أنّ الفَضل لا يعود إلّا لكم. سَبّحوا الله، ربّ العاملين في حقل الرسالة. فلتكن لديكم النظرة الصافية والقلب الصادق لملاحظة وإعطاء مَن له الحقّ بالثناء الذي يستحقّ. نظرة صافية لملاحظة الرُّسُل الذين حَقَّقوا التضحية، والذين كانوا الركائز الأولى الحقيقيّة في عمل الآخرين.

وحده الله يَراهم، هؤلاء الخجولين الذين يبدون وكأنّهم لا يفعلون شيئاً وهم، على العكس مِن ذلك، الذين يُخفون في السماء النار التي تُنَشّط الجَسورين. فينبغي على القلب الصادق أن يقول: “أنا أعمل إنّما ذاك يمتلك مِن الحبّ أكثر منّي، يصلّي أفضل منّي، يضحّي بنفسه كما لا أعرف أنا أن أفعل، وكما قال يسـوع: ’…ادخل مخدعكَ وأَغلِق على ذاتكَ في الخفاء لتصلّي بالسرّ‘. أنا الذي أرى فضيلته الـمُتواضِعة المقدّسة، أريد أن أُعلِنها على الملأ وأقول: ’أنا الأداة الفاعلة وهو القوّة التي لا تتزعزع لأنّه باتّحاده بالله أتلقّى أنا، بواسطة قناته، القوّة مِن العلاء‘”.

وبَرَكة الآب التي تنزل لِتُكافِئ الـمُتواضِع الذي يُضَحّي بذاته بِصَمت لِيُؤَمِّن القوّة للرُّسُل، تنزل كذلك على الرسول الذي يعترف بصدق بالعون فائق الطبيعة والصامت الذي يأتيه مِن الـمُتواضِع الذي لا يلاحظه الأشخاص السطحيّون.

خُذوا منه جميعكم الأمثولة. هل يوحنّا هو المفضّل لديَّ؟ نعم. إنّما أَلَم يُصبِح بعد لديه هذا الشبه بي؟ طاهِر ومُحِبّ ومُطيع ولكنّه مُتواضِع أيضاً؟ لقد كنتُ أرى نفسي فيه، وفيه أرى فضائلي. وكنتُ أحبّه لهذا السبب مثل شخصي الآخر. كنتُ أرى فيه نظرة الآب الذي يعتبره مسـيحاً صغيراً. ولقد كانت والدتي تقول لي: “بسـببه ينتابني الشــعور بأن لديَّ وَلَداً ثانيـاً. يبدو لي أنّي أراكَ أنتَ، متجدّداً فيه وهو ليس سوى إنسان”.

آه! الممتلئة حكمة، كم كانت تعرفكَ يا محبوبي! فلازوردا قلبيكما بالطهارة الكاملة قد ذابا بوشاح وحيد ليُشكّلا لي حماية بالحبّ، وأصبَحَا حبّاً واحداً، حتّى قبل أن أعطي الأُمّ ليوحنّا ويوحنّا للأُمّ. لقد تحابّا ليتعرّفا على تشابُههما: أبناء وإخوة للآب والابن.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.