18- معصية حواء وطاعة مريم | قصيدة الإنسان – الإله

1٬590
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

18- معصية حواء وطاعة مريم

05 / 03 / 1944

يقول يسوع:

ألم يُكتَب في سفر التكوين إنّ الله قد مَنَحَ الإنسان السيادة على كلّ شيء ما عدا الله وملائكته؟ ألم يُكتَب فيه بأنّه خَلَقَ المرأة لتكون شريكة الرجل تُقاسِمهُ فرحه والسيطرة على الكائنات الحيّة؟ ألم يُكتَب فيه أنّهما كانا يستطيعان أن يأكلا مِن كلّ ما في الجنّة ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ؟ هل سألتم أنفسكم عن هذا، أنتم يا مَن تَلهَثون وراء أمور كثيرة تافهة ولا تعرفون أن تسألوا أنفسكم عن الحقائق السماويّة؟

لو كانت نفسكم نشيطة، كنتم ستقولون إنّها عندما تكون في حالة النعمة، فهي كالزهرة بين يدي ملاككم، عندما تكونون في حالة النعمة، فهي تُشبه زهرة تتلقّى قبلة الشمس، منتعشة بالندى بفعل الروح القدس الذي يدفئها وينيرها، ويسقيها ويجمّلها بالأنوار السماويّة. كَم مِن الحقائق تخبركم عنها نفسكم لو كنتم تُجيدون الحوار معها؟ لو كنتم تحبّونها كما يحبّها الذي يمنحكم الشبه مع الله، والذي هو الروح بما أنّ نَفْسكم هي روح. أيّة صديقة عظيمة تجدون في أنفسكم لو أحببتموها بدل خيانتها حتّى القتل؟ أيّة صديقة عظيمة وسَنيّة، كنتم ستستطيعون محادثتها عن الأمور السماويّة، أنتم يا مَن تتوقون إلى الكلام وتُفسِدون الواحد الآخر بصداقاتكم. هذه الصداقات، إن لم تكن شائنة -وهذا ما يحدث أحياناً- فهي تكون تقريباً دائماً غير ذات جدوى، ولا تعطي الفرصة للتعبير عن ذاتها إلّا بسيل مِن الكلمات الباطلة والضارّة، والدنيويّة على الدوام.

ألم أقل: “مَن يحبّني يحفظ كلامي، وأبي يحبّه، وإليه نأتي، وعنده نجعل مقامنا؟” النَّفْس في حالة النعمة تمتلك الحبّ، وبامتلاكها الحبّ تمتلك الله، أي الآب الذي يحفظها، والابن الذي يسوسها، والروح الذي ينيرها. حينئذ تمتلك المعرفة والعِلم والحكمة. تمتلك النور. فكّروا إذاً، أيّة مُحاورات رائعة تستطيع ربط نفسكم بكم؟ إنّها هي، تلك المحاورات التي مَلَأَت سكون السجون، صمت الزنزانات، صمت الصومعات، وسكوت المتّقين العاجزين. إنّها هي التي قَوَّت المساجين في انتظار الشهادة، والنُّسّاك في البحث عن الحقيقة، والمتوحِّدين التوّاقين إلى معرفة مُسبَقة عن الله، وتقوى العاجزين للرضوخ، ولكن ماذا أقول في حبّهم لصليبهم؟

لو كنتم تعرفون سؤال نفسكم لكانت تحدّثكم عن الدلالة الحقيقيّة والدقيقة، الواسعة وسع العالم لهذه العِبارة “أن يُسَيطِر” والتي هي كالتالي: “ليُسيطِر الإنسان على كلّ شيء، على مستوى حالاته الثلاث: الحالة الدنيا، الحيوانيّة. الحالة الوسطى، الأخلاقيّة. والحالة السامية، الروحيّة. وأنّها كلّها تُوصِله إلى نهاية واحدة: امتلاك الله.” امتلاكه عن طريق استحقاقه بواسطة هذه السيطرة الـمُطلَقَة التي تجعل كلّ قوى الأنا خاضعة، بل وخادمة لهذا الهدف الوحيد: استحقاق امتلاك الله. وستقول لكم إنّ الله مَنَعَ معرفة الخير والشرّ، لأنّه قد مَنَحَ الخير مجّاناً لخليقته، أمّا الشرّ، فلم يرد أن تعرفوه، لأنّه ثمّرة لذيذة في الحلق، ولكنّها ما أن تَصِل بعصيرها إلى الدم حتّى تحمل الحرارة القاتلة وتؤدّي إلى عطش مُحتَدِم، لدرجة أنّه كلّما شرب أحد مِن هذا العصير الكاذب عَطش أكثر.

سوف تعترضون: “لماذا وَضَعَه فيها؟” ولماذا؟ لأن الشرّ قوّة وُجِدَت بذاتها بشكل آنيّ، كما كثير مِن الآلام التي تصيب الأجسام الأكثر سلامة.

لوسيفوروس مثلاً كان ملاكاً، وكان الأكثر جمالاً وبهاء بين الملائكة. كان روحاً كاملاً، ولكنّه فقط أدنى مرتبة مِن الله. ومع ذلك وُلِدَت في كيانه النورانيّ أبخرة الكبرياء التي لم يبدّدها، بل على العكس كثَّفَها بأن حضنَها. ومِن هذا الاحتضان وُلِدَ الشرّ. وقد كان موجوداً قبل أن يُوجَد الإنسان. وطَرَدَ الله ذلك الملعون الذي حضن الشرّ ودَنَّسَ الجنّة، خارج الفردوس. إلّا أنّه بقي الحاضن الأزليّ للشرّ. وبما أنّه لم يعد بإمكانه تدنيس الفردوس، فقد دَنَّسَ الأرض.

فهذا النبات الرمزيّ يُستخدَم للكشف عن هذه الحقيقة. قال الله للرجل والمرأة: “تعرفان كلّ أسرار الخليقة، ولكن لا تتعدّيا على حقّي بأن أكون خالق الإنسان. ولإكثار الجنس البشريّ سيكفيكم حبّي الذي يسري فيكم بدون فجور، وبفورة المحبّة فقط سوف يُخلَق آدميو الجنس البشريّ الجدد. أعطيكم كلّ شيء ولا أحتَفِظ سوى بسرّ تكوين الإنسان.”

أراد الشيطان أن يسلب الإنسان بكارة الذكاء تلك، وبلسانه، لسان الحيّة، مَدَحَ ودَاعَبَ أعضاء وعيني حواء بإحداث ردود فعل وإثارة لم يكن الأبوان الأوّلان يعرفانها، لأنّ المكر لم يكن قد سَمَّمهُا بعد.

حوّاء “رأت”. وعندما رأت أرادت أن تجرّب. فكان استيقاظ الجسد. آه! لو نادت الله! لو جَرَت إليه لتقول له: “أبتي، أنا مريضة. مداهنات الحيّة أثارت فيّ الاضطراب.” لكان الأب طَهَّرَها وشَفَاها مِن سَورَتها، وكما كان قد بثَّ فيها الحياة، كان باستطاعته أن يبثَّ فيها براءة جديدة بأن يجعلها تنسى سمّ الحيّة، وحتّى بأن يضع فيها مُقت الحيّة، مثل الذين، بعد إصابتهم بمرض ما وشفائهم منه، يحتَفِظون باشمئزاز غريزيّ تجاه هذا المرض. ولكنّ حوّاء لم تتوجّه للآب: بل توجَّهَت صوب الحيّة، وقد استعذَبَت هذا الإحساس: “وبرؤيتها أنّ ثَمَر الشجرة كان لذيذاً للأكل، جميلاً للعينين، حسناً للنَّظَر، قَطَفَته وأكلَت منه.”

ثمّ “أدرَكَت”، وكان الخُبث قد اخترق أحشاءها بلسعته. فرَأَت بعينين جديدتين، وسَمِعَت بأذنين جديدتين أخلاق وأصوات البهائم، ورَغبَت بها رغبة مجنونة. بدَأَت الخطيئة وحيدة وأكمَلَتها مع شريكها. لذا جاء الحُكم على المرأة أعظم.

بواسطتها أصبَحَ الرجل متمرّداً على الله وعَرف الفجور والموت. بسببها لم تعد له السيطرة على مَلَكاته الثلاث: مَلَكَة الروح: لأنّه سَمَحَ للروح بمخالفة أمر الله؛ مَلَكَة السلوك الأخلاقيّ: لأنّه سَمَحَ للأهواء بأن تتملّكه؛ ومَلَكَة الجسد: لأنّه انحَدَرَ به إلى مستوى قوانين غرائز البهائم. تقول حوّاء: “الحيّة أغوتني”، ويقول آدم: “المرأة أعطتني الثمّرة وأنا أكلتُ منها”. وحينذاك ترتبط الشهوة الثلاثيّة بممالك الإنسان الثلاث.

ما مِن شيء غير النعمة يستطيع أن ينجح في تخفيف وطأة قبضة هذا الوحش عديم الرحمة. وإذا كانت حيويّة، حيويّة جدّاً، وتظلّ دوماً أكثر حيويّة بإرادة الابن الوفيّ، فستتوصل إلى ذبح الوحش وإلى عدم بقاء ما تخشاه. لا طُغاة داخليّون: المعرفة والجسد والأهواء. ولا طُغاة خارجيّون: العالم وجبابرة العالم. لا اضطهاد ولا موت. فكما قال بولس الرسول: “أنا لا أخاف أيّاً مِن هذه الأشياء، ولا أحرص على حياتي أكثر مِن ذاتي إنّما فقط كي تتمّ رسالتي والكهنوت الذي تلقّيتُه مِن الربّ يسوع لأشهد لإنجيل نعمة الله.”»


08 / 03 / 1944

تقول مريم:

«لقد أطعت في فرحي، ولأنّني ما أن أدرَكتُ الرسالة التي دعاني الله إليها امتلأتُ فرحاً، فُتِحَ قلبي كزنبقة مغلقة، وتدفّق منه الدم الذي أصبَحَ أرضاً تُغرَس فيها بذرة الربّ.

فرح الأمومة:

كنتُ قد كرّستُ نفسي لله منذ طفولتي الأولى، ذلك أنّ نوره تعالى قد كَشَفَ لي كوضح النهار سبب شقاء العالم، وقد أردتُ، على قدر استطاعتي، محو بصمات الشيطان عنّي. لم أكن أعلم أنّني بلا عيب، كما لم أكن أستطيع أن أفكّر بهذا، فمجرّد التفكير بهذا الامتياز كان سيصبح تخميناً وكبرياء. وبما أنّني وُلِدتُ مِن أبوين بشريّين، لم يكن مسموحاً لي أن أفكّر أنّني أنا المختارة المدعوّة لأكون دون عيب.

كان روح الله قد أطلَعَني على ألم الآب أمام فساد حواء التي أرادت أن تتخبّط وتنحدر فتهبط مِن مستوى خليقة النعمة إلى مستوى المخلوقات الدنيا. كنتُ أحمل في نفسي الرغبة في تلطيف هذا الألم، وذلك بأن ينمو جسدي وفق طهارة ملائكيّة، مع إرادتي بأن أحافظ على نفسي مِن أن تُنتَهَك أفكاري ورغباتي، وكذلك أن أحافظ عليها في علاقاتي البشريّة. فخفقان قلبي كان لله فقط، وله فقط كياني بأكمله. ولكن حتّى ولو لم تكن فيَّ حرارة الجسد المتأجّجة، فقد كنتُ أملك قرار التضحية بألّا أصبح أُمّاً.

الأمومة، بعيداً عن كلّ ما يَحطّ مِن قَدرِها الآن، كانت ممنوحة أيضاً لحوّاء مِن الآب الخالق. أمومة عذبة وطاهرة، دون وطأة الأحاسيس! لقد اختَبَرتُها! كم افتَقَرَت حوّاء برفضها هذا الغِنى! أكثر مِن كونها غير آيلة للموت. ولا يكن ذلك بادياً لكم كأنّه مبالغة. يسوعي، وأنا معه، عرفنا خمول الموت. أنا عرفتُه لطيفاً، إذ عندما أُنهِكتُ أَخَذَني النوم. أمّا هو فقد عرفه حُكماً وحشيّاً عليه بالموت. فنحن أيضاً أدرَكَنا الموت.

ولكنّ الأمومة دون الانتهاك بأيّ شكل، فلي فقط، أنا حوّاء الجديدة، لكي أستطيع أن أُحَدِّث العالم عن مدى عذوبة مصير المرأة التي كانت مدعوّة لأن تصبح أُمّاً بدون ألم الجسد. والرغبة بهذه الأمومة الطاهرة كان ممكناً أن توجَد، وقد وُجِدَت بالفعل في العذراء التي كانت بكلّ كيانها لله، فهذه الأمومة هي مجد المرأة.

لو فكرتم بعدئذ بمدى سرور المرأة حين تصبح أُمّاً عند الإسرائيليّين، لكنتم تمنّيتم بشكل أفضل التضحية التي رضيتُ بها بإقبالي على نَذر نفسي لهذا الحرمان. أمّا الآن فقد مَنَحَ الصلاح الأزليّ لخادمته هذه النعمة دون أن يَنزَع عنّي البراءة التي لَبِستُها لأكون زهرة على عرشه. وأنا قد اختَبَرتُ غبطة سَنيّة بامتلاك الفرح المزدوج لكوني أُمّ إنسان وكوني أَمَة الله بآن معاً.

فرح كوني أنا التي بها السلام وَصَلَ السماء بالأرض.

آه! الرغبة بهذا السلام، لمحبّة الله والقريب ومعرفة أنّه بواسطتي، أنا الخادمة المسكينة للكلّيّ القُدرة، كان قد أتى هذا السلام للعالم! أقول: “ألا أيّها الناس، لا تعودوا تبكون بعد. فأنا أحمل السرّ الذي يجعلكم سعداء. لا أستطيع البوح به لكم لأنّه راسخ فيَّ، في قلبي، مثلما حَوَت أحشائي ابن الله دون مسّ. ولكنّي الآن أحمله وسطكم، وكلّ ساعة تمرّ تُدني اللحظة التي ترونه فيها وتعرفون اسمه القدّوس.”

فرح إعطاء الفرح لله: فرح مؤمنة بإلهها الذي أصبَحَ سعيداً.

آه! يا لنزع مرارة معصية حوّاء وكبريائها ومرارة كفرها مِن قلب الله! لقد أظهَرَ يسوعي الخطيئة التي دنَّسَ الزوجان الأوّلان نفسيهما بها. ولقد مَحَوتُ هذه الخطيئة بالسير بعكس مراحل السقوط.

بداية الخطيئة كانت في عدم الطاعة. قال الله: “لا تأكلا ولا تلمسا هذه الشجرة.” لقد كان باستطاعة الرجل والمرأة، مَلِكَيّ الخليقة، لمس كلّ شيء وأكل كلّ شيء ما عدا تلك الشجرة، لأنّ الله أراد أن يجعل الملائكة فقط أسمى منهما، وهما لم يأخذا مَنعه هذا بعين الاعتبار.

الشجرة: الواسطة التي بها اختَبَرَ الله طاعة أبنائه. ما هي الطاعة لأوامر الله؟ إنّه الخير، لأنّ الله لا يَأمُر إلا بالخير. وما هي المعصية؟ إنّها الشرّ، لأنها تبثّ في النَّفْس مشاعر العِصيان، وهي الأرضيّة الملائمة لعمل الشيطان.

وتدنو حوّاء مِن الشجرة التي كان مِن المفروض أن تَهرب منها لتنال الخير، بينما مُجاورتها، على العكس مَنَحَتها الشرّ. ذَهَبَت إليها مُنجَذِبة بفضول سخيف لرؤية ما بها مِن خصوصيّة، وبالطيش الذي جَعَلَها تَحكم بأنّ أمر الله غير ذي جدوى، لأنّها قويّة وطاهرة، مَلِكَة عدن، حيث كلّ شيء تحت تصرفها، وحيث لا شيء يمكنه أن يؤذيها. معصيتها هذه ستكون سبب دمارها، المعصية التي أصبَحَت الآن خميرة الكبرياء.

إلى جانب النبات، وُجِدَ المغوي الـمُضَلِّل الذي اغتَنَمَ فرصة عدم خبرتها، سذاجة عدم خبرتها كعذراء، ضعف عدم خبرتها، وغَنَّى أغنية الكذب: “أتؤمنين بوجود الشرّ؟ أبداً. لقد قال الله لكِ ذلك ليبقيكِ خادمة لجبروته. أتظنان نفسيكما مَلِكَين؟ لا، فإنكما لستما حتّى ولا حُرّين كالحيوان البرّيّ الذي جَعَلَهُ يحبّ حبّاً حقيقيّاً، وذاك ما لم يَسمَح به لكما. لقد أَذِنَ له أن يُصبِح خالِقاً مثل الله، فهو يتوالد ويُصبِح له أبناء، ويرى عائلته تنمو وفق مرامه. الأمر الذي لم يَسمَح به لكما. هذه الـمَسرّة مرفوضة بالنسبة لكما، فما نفع كونكما رجلاً وامرأة إذاً، إذا كان مفروضاً عليكما العيش هكذا؟ كُونا آلهة. فأنتما حتّى الآن لم تعرفا مَسرّة أن تكونا اثنين في جسد واحد وتَخلقا منكما ثالثاً وأكثر. لا تؤمِنا بوعود الله بأن تستمتعا بذريتكما برؤية أولادكما يُنشِئان عائلات جديدة، وبأن يدعكم لتكونوا آباء وأُمّهات، لقد أعطاكما شِبه حياة. فالحياة الحقيقيّة هي معرفة قوانين الحياة. هي إذن أن تُصبِحا شَبيهيّ الآلهة وأن تستطيعا القول لله: “نحن مساويان لكَ؟”

وتستمرّ الغواية لأنّ حوّاء لم تكن تملك الإرادة في طردها، بل بالأحرى رَغِبَت في اتّباعها ومعرفة ما لم يكن يخصّ البشر. وها هي ذي الشجرة المحرَّمة تُصبِح المميتة بحقّ للجنس البشريّ، لأنّه مِن أغصانها أُخِذَ ثمّر المعرفة الـمُرّ الآتي مِن الشيطان. وقد أصبَحَت المرأة أنثى، ومع خميرة المعرفة الشيطانيّة في قلبها مضت إلى آدم لتُفسِده. هكذا الجسد انحَدَرَ، والأخلاق أُفسِدَت، والروح حُطَّ مِن قَدْره. وها هما قد عرفا الألم وموت الروح المجرّد مِن النعمة والجسد المجرّد مِن اللاموت. ومِن جرح حوّاء وُلِدَ الألم الذي لن يزول حتّى موت آخر زوج على الأرض.

مَشيتُ درب الخاطئين بالعكس. أطعتُ. في كلّ الظروف أطعتُ. طَلَبَ الله منّي أن أكون عذراء. أطعتُ. بعد أن أحببتُ البتولية التي جَعَلَتني طاهرة مثل المرأة الأولى قبل معرفة الشيطان، طَلَبَ منّي الله أن أكون عروسة. أطعتُ، رافعة الزواج إلى هذه الدرجة مِن الطهارة التي كانت في فِكر الله عندما خَلَقَ الأبوين الأوّلين. مُقتَنِعة بأنّ قَدَري هو الوحدة في الزواج واحتقار القريب لعقمي المقدّس، حينئذ طَلَبَ الله مني أن أُصبِح أُمّاً. أطعتُ. وأيقنتُ أنّ هذا ممكن وأنّ هذه الكلمة أتت مِن الله، وأنّني لدى سماعي إيّاها كنتُ مغمورة بالسلام.

لم أفكّر أبداً: “أنا كنتُ أستحق ذلك”. كما لم أقل لنفسي: “الآن سينظر العالم إليَّ بإعجاب لأنّني أصبَحتُ شبيهة بالله بولادتي جسد الله”. بل قد تلاشيتُ في التواضع. وتدفَّقَت المسرّة في قلبي كعود مُزهِر. ولكنّه اكتظّ مباشرة بأشواك حادّة وأصبَحتُ مُحاصَرَة، مُغلَّفَة بالألم كالأغصان التفَّ حولها اللبلاب. ألم معاناة الزوج: إنّه المعصرة في أحشاء الفرح. ألم آلام ابني: تلك هي الأشواك وسط فرحي. فحوّاء أرادَت الاستمتاع والنصر والحريّة. وأنا رضيتُ بالألم والتلاشي وبأن أكون أَمَة. لقد كفرتُ بحياتي المستقرّة، بتقدير الزوج وبحريّتي الشخصيّة. ولم أحتفظ لنفسي بشيء.

أصبحتُ أَمَة الرب بجسدي وسلوكي وروحي، باتّكالي عليه، ليس فقط لأجل البتوليّة، ولكن للدفاع عن شرفي، لتعزية زوجي، مِن أجل أن يحمله إلى سموّ الزواج بشكل يجعل منّا اللذَين يُعيدان للرجل والمرأة اعتبارهما المفقود. عانَقتُ إرادة الربّ مِن أجلي، مِن أجل زوجي ومِن أجل ابني. قلتُ: “نعم” لأجلنا نحن الثلاثة، واثقة بأنّ الله لا يكذب بوعده أن يسعفني في ألمي كعروسة تَرى أنّه قد حُكِمَ عليها بأنّها مذنبة، كأُمّ تَرى أنّها تَحبَل لتدفع بابنها إلى الآلام.

قلتُ “نعم”. نعم. وهذا يكفي. وهذه “النَّعَم” مَحَت “لا” حوّاء لأمر الله. “نعم، يا ربّ، كما تشاء، سأعرف ما تريد. سأَحيَـىَ كما تشاء. سأستمتع إن أنتَ شئتَ، سأتألّم لما تريده أنتَ. نعم، دائماً نعم، ربّي، منذ اللحظة التي جَعَلَني فيها شعاعكَ أُمّاً وحتّى اللحظة التي ناديتَني فيها إليكَ. نعم، دائماً نعم. كلّ أصوات الجسد، كلّ انحناءات إحساسي تحت ثِقل هذه النَّعَم الدائمة التي هي لي. وكما على قاعدة ماسيّة، روحي تنقصها الأجنحة لتطير إليكَ، ولكنّها السيدة على كلّ الأنا المروَّضة والخاضعة لخدمتكَ في الفرح، لخدمتكَ في الألم. ولكن ابتسم يا الله وكُن سعيداً، فلقد غُلِبَت الخطيئة، انتُزِعَت، قُوِّضَت، طُرِحَت تحت كعبي، غُسِلَت بدموعي، هُدِمَت بطاعتي. ومِن أحشائي ستنبت الشجرة الجديدة، ستحمل الثمّرة التي تعرف كلّ الشرّ لتتألّم به بذاتها وتعطي كلّ الخير. إليها يأتي كلّ البشر، وسأكون سعيدة لو يقطفونها، حتّى ولو لم يفكّروا أنّها منّي نَبَتَت، ليخلص البشر ويكون الله محبوباً، وليجعل مِن خادمته ما يتمّ عمله بأرض تَنتَصِب فيها شجرة: درجة سلّم مِن أجل الصعود.”

ماريا، يجب علينا دائماً أن نكون درجة سلّم ليَصعَد عليها الآخرون إلى الله. لو داسوا علينا، لا يهمّ. على أن ينجحوا في الذهاب إلى الصليب. إنّها الشجرة الجديدة التي تحمل ثمّرة معرفة الخير والشرّ. بالفعل، إنّه يقول للإنسان ما هو شرّ وما هو خير ليَعرف الاختيار والعيش، كما يَعرف في الوقت ذاته أن يصبح ترياقاً يشفي الذين تسمّموا بالشرّ الذي أرادوا تذوّقه.

قلبنا تحت أقدام البشر ليزداد عدد المخلَّصين، ولكي لا يكون دم يسوعي قد أريق دون أن يُثمِر. هذا هو قَدَر خادمات الله. إنّما بعد ذلك، نستحقّ أن نَقبَل في أحشائنا الذبيحة المقدّسة، وعند أقدام الصليب المجبول بدمه وبدموعنا نستطيع القول: “ها هي أيّها الآب، الذبيحة المنزَّهَة التي نُقرّبها لكَ لأجل خلاص العالم. احفظنا يا رب ذائبين فيها، وباستحقاقاتها اللامتناهية، امنحنا بركتكَ.”

وأنا أمنحكِ تودّدي. استريحي يا ابنتي، الربّ معكِ.»


يقول يسوع:

«يجب أن تُبَدِّد كلمة أُمّي كلّ تردّد حتّى في فِكر أكثر الناس تشبُّثاً بالشكليّات.

ويوجد منهم الكثير! يريدون أن يُمنطِقوا الأمور الإلهيّة بما هو مادّيّ، بمقاييسهم البشريّة، ويَزعمون أنّه مِن المفروض أن يُمنطِقها الله كذلك. إنّما على العكس، إنّه جميل جدّاً التفكير بأنّ الله يفكّر بطريقة فائقة البشر لدرجة عظيمة ولا نهائيّة. كذلك هو رائع ومناسب التفكير، ليس حسب الرؤية البشريّة، ولكن حسب الروح، واتّباع الله. وعدم الإرساء حيث يتعلّق فكركم الإنسانيّ الذي هو أيضاً مِن قَبيل الكبرياء، لأنّه افتراض الكمال في الروح البشريّ.

وبالعكس، بخصوص الكمال، ليس هناك سوى الفِكر الإلهيّ، يستطيع لو أراد وارتأى أنّ مِن المفيد أن يفعل، أن يَنزِل ويُصبِح كلمة في فِكر وعلى شفاه إحدى مخلوقاته المنبوذة مِن العالم، لأنّها في نَظَر العالم جاهلة وبلا قيمة ومحدودة وصبيانيّة وسخيفة.

تُحِبّ الحكمة أن تفقد كبرياء الروح اتّجاهها، وأن تنتَشِر على المنبوذين مِن العالم الذين لا أفكار شخصيّة لهم ولا مذاهب مُكتَسَبَة بالثقافة، ولكنّهم يفيضون حبّاً وطهارة، وهم عظماء برغبتهم في خدمة الله بعد العمل على معرفته وحبّه، وبعد استحقاقهم معرفته بحبّهم إيّاه بكلّ قوّتهم. لاحِظوا أيّها الناس في فاطيما، في لورد، في غوادالوبي، في كارافاجيو، في لاساليت، ففي كلّ مكان حَدَثَت ظهورات حقيقيّة ومقدّسة، الذين رأوا، الذين كانوا مدعوّين للرؤية، هم مخلوقات مسكينة، وهم مِن ناحية السنّ والثقافة والشروط بين أكثر الناس تواضعاً. ولهؤلاء المغمورين، لهؤلاء اللاشيء تَظهَر النعمة لتجعل منهم رُسُلها.

ماذا ينبغي للبشر إذن أن يَفعَلوا؟ أن ينحنوا مثل العشّار ويقولوا: “ربّي، لقد كنتُ خاطئاً جدّاً وغير أهل لأستحقّ أن أعرفكَ. مبارك أنتَ لصلاحكَ الذي يعزّيني بواسطة هذه المخلوقات ويمنحني سنداً سماويّاً ودليلاً وعِبرة وأملاً بالسلام”. وألّا يقولوا: “ولكن لا! إنّهم محكوم عليهم، هراطقة! غير ممكن!” كيف يكون هذا غير ممكن؟ كائن موهوب قليلاً يصبح عالِـماً في علوم الله؟ لماذا لا يمكن؟ ألم أُقِم الموتى وأُشفِ المجانين وأُعالِـج الصرعى؟ ألم أُنطِق الخُرس وأفتح أعين العميان وأجعل الصمّ يَسمَعون وأمنح الذكاء للمعوقين؟ ألم أَطرُد الشياطين كذلك وآمُر الأسماك بأن تقفز إلى الشِّباك والخبز أن يَكثُر والماء أن يصبح خمراً والعاصفة أن تهدأ والماء أن يتصلّب ويصبح كسطح مَرصوف؟ فما هو غير الممكن لدى الله؟

حتّى قبل أن يصبح الله: المسيح ابن الله، فيما بينكم، ألم يَجتَرِح الله المعجزات بواسطة خُدّامه الذين يتصرّفون باسمه؟ ألم تُخصَب أحشاء ساراي العاقر التي لإبراهيم لتصبح سارة وتَلِد في شيخوختها اسحق الذي أُعِدّ ليكون الذي أُبرِم الميثاق معه؟ ألم تتحوّل مياه النيل إلى دماء وتمتلئ بالحيوانات النَّجِسة بأمر موسى؟ وبكلمته كذلك، ألم تَنفق الحيوانات بالطاعون، أما تقرّحت أجساد الرجال وحُصِدَت السنابل وتكسرت ببَرَد مكتَسِح، وجُرِّدت الأشجار بالجّراد وأُطفِئَت الأنوار فأظلمت ثلاثة أيّام وطاح الموت بالمواليد الجدد، وشُقّ البحر ليمرّ إسرائيل، وتحلّت المياه الـمُرّة؟ ونَزَل المنّ والسلوى بغزارة؟

ألم تتدفّق كذلك المياه بغزارة مِن الصخرة الصمّاء؟ وكذلك يشوع، ألم يُوقِف الشمس في كبد السماء؟ وداود الفتيّ ألم يُجندِل العملاق؟ وإيليا ألم يُكثِر الطحين والزيت ويُقِم ابن أرملة صرفة (Sorepta)؟ ألم يَنزِل المطر بناء على طلبه على الأرض القاحلة؟ ألم تَنزِل نار السماء على الـمِحرَقَة؟ والعهد الجديد أليس غابة صغيرة مُزهِرة، حيث كلّ زهرة فيه معجزة؟ فَمَن لديه القُدرة إذن على اجتراح المعجزات؟ ثمّ ما هو غير الممكن لدى الله؟ مَن مثل الله؟

احنُوا رؤوسكم واعبُدوا. زمن الحصاد الكبير قد اقترب، وكلّ شيء يجب أن يكون مكشوفاً قبل أن ينقضي وجود البشر، كلّ شيء: النبوءات اللاحقة للمسيح وتلك التي قبله، والرمزيّة منها والتوراتيّة التي ابتدأت منذ الكلمات الأولى لسفر التكوين. وإذا كنتُ أنا أُعلِمكم بنقطة ما تزال غير مشروحة حتّى الآن، فتقبَّلوا هذه الموهبة واقطفوا ثمّارها، وليس الإدانة. لا تفعلوا مثل يهود زمن حياتي الآيلة للموت الذين أرادوا إغلاق قلوبهم في وجه تعاليمي، ولعدم قدرتهم على مساواتي في فَهم الأسرار والحقائق فائقة الطبيعة، اعتبَروني مُدّعياً وكافراً.

لقد قلتُ: “شجرة استعاريّة”، أمّا الآن فأقول: “شجرة رمزيّة”. قد تُدرِكون أفضل. فالرمز فيها واضح: بحسب الطريقة التي تعامَلَ فيها ابنا الله (آدم وحواء) معها يمكن إدراك ميولهم إذا ما كانت صوب الخير أم صوب الشرّ. مثل الماء الـمَلَكيّ في اختبار الذهب، وميزان الصائغ الذي يُعطي الزِّنة بالقيراط، كذلك هذا النبات، كونه أصبَحَ “رسالة” لأمر الله بالنسبة لهما، فقد أعطى مقدار طهارة آدم وحواء.

أَسمَع الآن اعتراضاتكم: ألم تكن الإدانة متطرفة؟ والسبيل المتّبع لحصولها سخيفاً؟

لا. فإذا اقترفتُم هذه المعصية في الوقت الراهن، أنتم يا مَن أخذتم عنهما هذا الإرث، فسيكون ذلك أخفّ وطأة مما كان بالنسبة لهما. فإنّكم قد افتُديتم بي، إلّا أنّ سمّ الشيطان يبقى دائماً متأهّباً للتدفّق مِن جديد. إنّه مثل أمراض كثيرة لم يزل مفعولها تماماً مِن الدم. فهما، أي الأبوان الأوّلان، كانا تحت مَلَكة النعمة قبل أن يَفقدا نضارتهما بفقدان الحظوة. كانا إذن أقوى، كانا مدعومَين أكثر بالنعمة، وفي داخلهما نبع براءة وحبّ. كانت مواهب الله التي وَهَبَهما إيّاها لا نهائيّة، فكان سقوطهما بالتالي أعظم على الرغم مِن هذه المواهب.

والثمّرة المقدَّمة والمأكولة هي أيضاً رمزيّة. كانت ثمّرة تجربة أرادا خوضها بتحريض شيطانيّ ضدّ أمر الله. لم أكن قد مَنَعتُ الناس عن الحبّ، بل أردتُه فقط أن يكون دون مكر. وكما كنتُ أحبّهما حبّاً مقدّساً مِن حيث الجوهر، فقد كان مِن الواجب عليهما أن يحبّا بعضهما بمودّة مقدّسة بحيث لا تَدَع مجالاً للشهوة تُدنِّسها.

يجب ألّا ننسى أنّ النعمة نور، ومَن يمتلكها يعرف أن يميّز ما هو مفيد وجيّد للمعرفة. ولقد عَرفَت الممتلئة نعمة كلّ شيء لأنّها نَمَت بالحكمة، الحكمة التي هي نِعمة، وعَرفَت أن تَسلك بقداسة. حوّاء إذن كانت تعرف ما هو جيّد لها أن تعرفه، لا أكثر، لأنّه عَبَث أن تَعرف ما هو غير جيّد. لم تؤمن بكلام الله ولم تكن وفيّة لوعدها له بالطاعة. آمَنَت بالشيطان، أخلَفَت بوعدها، ورَغِبَت في معرفة ما هو غير جيّد، وأحبّته دون تبكيت ضمير؛ الحبّ الذي منحتُها إيّاه على درجة مِن القداسة، وهي جَعَلَته أمراً فاسداً، أمراً منحطّاً، إنّها ملاك ساقط، تمرَّغَت في الوحل والقمامة، بينما كان باستطاعتها أن تجري سعيدة بين أزهار الفردوس الأرضيّ، وأن تَرى سلالتها تُزهِر حولها كنبات مكسوّ بالأزهار دون جرّ أوراقها في الحمأة.

لا تكونوا مثل أولئك الأطفال الحمقى الذين أتحدّث عنهم في الإنجيل: سَمِعوا الغناء فَسَدّوا آذانهم. سَمِعوا الطبل فلم يرقصوا. سَمِعوا البكاء فأرادوا أن يضحكوا. لا تكونوا ضيّقي الأفق، ولا ناكري الجميل. تقبّلوا، تقبّلوا النور دون خبث، وبإذعان دون تهكّم ولا تشكيك.

تكلّمتُ كثيراً في هذا الموضوع، لِأُفهِمكم إلى أيّة درجة يجب أن تكونوا عارفي الجميل للذي مات ليوصلكم إلى السماء، وللتغلب على الشهوة الشيطانيّة، أردتُ أن أكلّمكم في هذا الوقت مِن التهيئة للفصح عمّا كان الحلقة الأولى مِن السلسلة التي بها جُرّ كلمة الله إلى الموت، الحَمَل الإلهيّ إلى المذبح، أردتُ الكلام لأنّه في الوقت الحاضر تسعون في المائة منكم يشبهون حوّاء متسممين بنفحة وكلمة الشيطان. فإنّكم لا تعيشون لتحبّوا بعضكم بعضاً ولكن لتَشبَعوا. لا تَحيون للسماء بل للوحل. لم تعودوا مخلوقات تتميّزون بنَفْس وحسّ فكريّ، ولكنّكم كالكلاب دون نَفْس ودون فِكر. لقد قتلتم النَّفْس وأفسدتم الفِكر. أؤكد لكم بحقّ أنّ الوحوش يفوقونكم شرفاً وحبّاً.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
تعليقات
  1. سميره

    سلام الرب عليكم لماذا لا يوجد تكملة قصيدة الانسان —الاله جزء ١٩ هل يمكنكم تكملتها رجاء ً وشكرا لكم 🙏🏻💐

    1. Admin

      سلام المسيح.. نعتذر على التأخير.. سيتم استئناف النشر مساء اليوم

  2. يوحنا نخلة

    بركة ربنا يسوع وسلامه ليمنحكم نوره ويدير وجهه اليكم يا من تسرون قلب الله بنشر كلمته وكل رؤيا نعيش معها فرح يسوع فتلهج قلوبنا بمحبته فكم من المحبة ارسلها لكم وصلاتي ارفعها للاب القدوس ليزيدكم نعمه.
    اعلم ان كل تاخير فيه خير لنقرا بامعان اكثر ما قد فاتنا في الفصل الاول ولكني اظل في شوق ان اعيش مع يسوع في كل رؤيا تاخذوننا فيها. ليرسل الله ملائكته لحمايتكم.

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.