22- وصول مريم إلى بيت زكريّا | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
22- وصول مريم إلى بيت زكريّا
01 / 04 / 1944
إنّني في بلدة جبليّة. الجبال فيها غير شاهقة، ولكنّها ليست تلالاً كذلك. لها قمم وأخاديد جبال حقيقيّة كالتي نراها على سـلسـلة جبـال “أبنين” (سلسلة جبال على طول إيطاليا بطول 1300 كم). النباتات فيها كثيفة ورائعة. فيها الكثير مِن المياه التي تُحافِظ على الحقول خضراء والبساتين المليئة بالتفّاح مُنتِجة، وكذلك أشجار التين مع الكروم حول البيوت. إنّه الربيع بدون شك، ذلك أنّ العناقيد أصبحت كبيرة مثل حبّات البيقية، وبراعم أشجار التفّاح قد بَدَأَت تتفتّح وهي تبدو الآن خضراء، وعلى الأغصان العليا مِن أشجار التين هناك ثمار أَخَذَت تمام شكلها. وثمّ الحقول، فإنّها ليست سوى سجّاد طريّ بألف لون. ترعى القطعان فيها أو ترتاح، وهي تبدو كبُقَع بيضاء على زمرّد العشب.
تمضي مريم بمطيّتها صعوداً في طريق لا بأس بحالتها، يُفتَرَض أنّها الطريق الرئيسيّة لمدخل البلدة. إنّها تصـعد الآن لأنّ البلدة التي تبدو بمظهر منتظـم إلى حدّ ما تقع في الأعلى. والذي يُعلِمني عادة يقول لي: «هذا المكان هو حبرون (الخليل)» كنتم تحدثونني عن (Montana) أمّا أنا فلستُ مُتيقّنة ولا أعلم إذا ما كانت حبرون هي البلدة كلّها أم التجمّع السكنيّ فقط. فلن أتحدّث عنها إذن إلاّ في حدود معرفتي.
ها هي مريم تَدخُل القرية. الوقت مساء: نساء على الأبواب يُراقِبن القادمة الغريبة ويتحدّثن عنها فيما بينهنّ. يتبعنها بأعينهنّ، ولم يتأكّدن إلا حين رأينَها تقف أمام أحد أجمل البيوت الواقعة وسط البلدة. مِن الأمام هناك حديقة، ومِن الخلف والجوانب يحيط به بستان مُعتَنى به جيّداً. بعد ذلك يأتي حقل يَصعَد ويَنزِل حسب تضاريس الجبل، وينتهي بدوحة. وبعد ذلك لم أعد أعرف ماذا يوجد.
هذه الأملاك مُحاطَة بسياج مِن العليق وشجيرات الورد البرّيّ. لا أُميّز حملها جيّداً، فزهور وأوراق تلك الأدغال متشابهة كثيراً، وبما أنّ الثمار لم تكتمل بعد على الأغصان، فمن السهل الوقوع في الخطأ. في الواجهة الأماميّة مِن المنزل، مِن الناحية المواجِهة للبلدة، يحيط بالأملاك جدار أبيض تُعرِّش عليه أغصان ورود حقيقيّة، لا تحمل وروداً في الوقت الحالي، ولكنّها مزيّنة بالبراعم والأزرار. وفي الوسط بوّابة حديديّة مغلقة. مِن كلّ ذلك يمكن الاستدلال على أنّه منزل أحد أعيان البلدة أو أحد أثريائها. فكلّ شيء يشير فعلاً، إذا لم يكن إلى الثراء، فعلى الأقلّ إلى اليُسر بكلّ تأكيد. إنّه مُنتَظَم للغاية.
تترجّل مريم مِن على مطيّتها، وتدنو مِن البوّابة. تَنظُر مِن خلال القضبان فلا ترى أحداً. فتأخذ بالبحث عن وسيلة تُعلِن بواسطتها عن وجودها. وكانت امـرأة صغيرة القدّ أكثر فضولاً مِن الأُخرَيات وقد تَبِعَتها، فتدلّها على تركيبة غريبة تُستَخدَم كجرس، وهي عبارة عن قطعتي معدن مثبّتتين على محور، عند تحريك المحور بواسطة الحبل تتصادمان الواحدة بالأخرى فتُصدِران صوتاً يشبه صوت الجرس أو صوت صنج.
تشد مريم الحبل، إنّما بلطف شديد بحيث يرن الجهاز رنّة خفيفة لم يسمعها أحد. فتدنو العجوز صغيرة القدّ، وهي عِبارة عن أنف وذقن وبينهما لسان يساوي عشرة، وتتعلّق بالحبل وتشدّ، تشدّ، تشدّ مُحدِثة ضجّة توقِظ الميت. «هذا ما يجب فِعله، وإلّا فكيف ستجعلينهم يسمعونكِ؟ اعلَمي أنّ أليصابات عجوز، وكذلك زكريّا، وهو في الوقت الحاضر أصمّ أبكم فوق البيعة. كذلك الخدّام شيوخ، هل تَعرِفين ذلك؟ ألم تجيئي أبداً؟ هل تَعرِفين زكريّا؟ هل أنتِ…»
إنقاذاً لمريم مِن هذا الطوفان مِن الاستفسارات والأسئلة، يُقبِل عجوز صغير يتعثّر. ربما كان البستانيّ أو أحد الفلّاحين، فهو يَحمِل في يده مِعزَقَة ويُعلّق في حزامه ساطوراً صغيراً. يَفتَح فتَدخُل مريم وهي تَشكُر العجوز الصغيرة ولكن… وا أسفاه! دون أن تُجيبها. يا لخيبة أمل هذه الفُضوليّة!
حال دخولها تقول مريم: «أنا مريم بنت يواكيم وحنّة مِن الناصرة، نسيبة معلِّميكم.»
ينحني العجوز ويؤدّي التحيّة ويبدأ بالهتاف: «سارة! سارة!» ثمّ يَفتَح البوّابة لِيُدخِل الحمار الذي بقي خارجاً، لأنّ مريم، كي تتخلّص مِن العجوز الصغيرة الـمُزعِجة تنزلق إلى الداخل بسرعة، ويُغلِق البستانيّ البوّابة بسرعة مشابهة في وجه الثرثارة، ثمّ يقول بينما يُدخِل المطيّة: «آه! سعادة كبيرة في هذا المنزل، وكذلك غَمّ كبير! السماء مَنَحَت العاقر وَلَدَاً، فليتبارك تعالى! إلّا أنّ زكريّا عاد منذ سبعة أشهر مِن أورشليم أبكَم، يتحدّث إلى الآخرين بواسطة الإشارة أو الكتابة. ألعلّكِ عَلِمتِ بذلك؟ كم كانت سيّدتي تطلبكِ وسط هذه السعادة وهذا الغَمّ! غالباً ما تتحدّث عنكِ مع سارة، وقد كانت تقول: “لو كانت مريم الصغيرة معي أيضاً! لو أنّها ما تزال في الهيكل، لكنتُ طلبتُ مِن زكريّا أن يأتي بها، ولكن الربّ شاء أن تكون الآن عروسة ليوسف الناصريّ. هي وحدها تستطيع مؤاساتي في هذه المحنة وتساعدني في الابتهال إلى الله، فهي طيّبة وصالحة جدّاً، والجميع في الهيكل يبكون لغيابها. في العيد الماضي، عندما ذهبتُ مع زكريّا آخر مرّة إلى أورشليم لأشكر الله على منحه إيّاي ابناً، سمعتُ معلّماتها يقلن لي: ’يبدو الهيكل وكأنّه فَقَدَ شاروبيم المجد منذ أن توقّف صوت مريم عن التردّد بين هذه الجدران”. سارة! سارة! إنّ زوجتي ثقيلة السّمع قليلاً، ولكن تعالي، تعالي، سوف أرشدكِ.»
بَدَلَ سارة، تَظهَر في أعلى سلّم جناح في طرف المنزل، امرأة متقدّمة أكثر في السنّ، تملؤها التجاعيد، والشعر يكسوه المشيب. هذا الشعر الذي يُفتَرَض أنّه كان أسود قاتماً لأنّ حاجبيها ورموشها ما تزال سوداء قاتمة، وهي كانت سمراء داكنة، فلون وجهها يشير إلى ذلك بوضوح. وحَمْلها الظاهر جدّاً رغم رحابة ثيابها يتعارض بشكل غريب مع شيخوختها الحاليّة.
إنّها تَنظُر وتُشير بيدها. لقد تعرَّفَت على مريم. ترفع ذراعيها إلى السماء مع هتاف «أوه!» وبدهشة وسرور، تُسرِع قدر استطاعتها لملاقاة مريم. ومريم كذلك، الرزينة دائماً بمشيتها، أَخَذَت تركض بخفّة كظبية، وتَصِل إلى أسفل الدرج بنفس الوقت مع أليصابات. وتضمّ مريم إلى قلبها بابتهاج نسيبتها التي تبكي فَرَحَاً لرؤيتها.
تَظلّان متعانِقَتَين برهة، ثمّ تنفكّ أليصابات مِن العناق مع «آه!» يمتزج فيها الألم بالفرح، وتحمل يدها إلى بطنها المنتفخ. تخفض وجهها الذي بات يتلوّن بالأصفر والأحمر بشكل مُتناوِب. تمدّ مريم والخادم أيديهما ليَسنداها، لأنّها بدَأَت تترنّح كما لو أنّها كانت تشعر بسوء. ولكنّ أليصابات، بعد أن ظلّت دقيقة وكأنّها تختلي بنفسها، ترفع وجهاً مُشعّاً لدرجة أنّه يبدو وكأنّه يعود شابّاً.
تنظر إلى مريم بإجلال وهي تبتسم كما لو كانت تـرى ملاكاً، ثمّ تنحني بتحيّـة عميقـة وهي تقـول: «مبـاركة أنتِ في النساء! مبـاركة ثمّرة بطنكِ! (تلفظهما هكذا، جملتين منفصلتين تماماً). كيف لي أن تأتي أُمّ ربّي إليّ، أنا خادمتكِ؟ فها إنّ الجنين قد ارتَكَضَ في بطني لدى سماعه صوتكِ، وعندما قَبَّلتُكِ قال لي روح الرب في أعماق قلبي الحقائق السامية جدّاً. مغبوطة أنتِ لإيمانكِ بأنّه مُستطاع لدى الله ما يبدو غير مُستطاع للروح البشريّة!
مباركة أنتِ لأنّكِ، بفضل إيمانكِ، سيتمّ فيكِ ما قيل لكِ مِن قِبَل الربّ ونبوءات الأنبياء لهذا الزمان! مباركة أنتِ مِن أجل الخلاص الذي ستنجبينه لأبناء يعقوب! مباركة أنتِ لأنّكِ حملتِ القداسة لابني الذي أُحسّ به يقفز كَجَدي بسبب الفرح الذي يختبره في أحشائي! هذا لأنّه أحَسَّ بنفسه محرَّراً مِن الخطيئة، مدعوّاً ليكون السابق، مقدّساً قبل الفداء بواسطة القدّوس الذي فيكِ!»
مريم، بدمعتين كلّؤلؤتين تنهَمِران مِن عينيها الضاحكتين باتّجاه فمها الذي يبتسم ووجهها المرتفع نحو السماء وكذلك ذراعاها، في الوضع الذي سيتّخذه كثيراً يسوع فيما بعد، تهتف: «تُعَظِّم نفسي الرب.» وتُكمِل الترتيلة كما وصَلَت إلينا. وفي النهاية، عند الآية: «عَضَدَ إسرائيل فتاه…» تُصالِب يديها على صدرها، تجثو منحنية إلى الأرض في عبادة لله.
يتوارى الخادم بكلّ لباقة، عندما يرى أنّ أليصابات لم تعد تشعر بسوء، وهي تبثّ أفكارها لمريم. ويعود مِن البستان برفقة عجوز جليل ذي شعر أبيض ولحية، وهو يحيّي مريم مِن بعيد بحركات كبيرة وأصوات حَلقيّة.
«لقد وَصَلَ زكريا» تقول أليصابات وهي تلمس كتف العذراء المستغرقة في صلاتها «زوجي زكريا أَبكَم. لقد عاقَبَه الله لأنّه لم يؤمن. سوف أقصّ عليكِ فيما بعد حكايته، إنّما الآن أرجو العفو مِن الله لأنّكِ أتيتِ أنتِ الممتلئة نعمة.»
تَنهَض مريم وتذهب لملاقاة زكريا، وتنحني أمامه إلى الأرض، وتُقبّل طرف الرداء الأبيض الذي يتسربله حتّى الأرض. إنّه ثوب فضفاض جدّاً وقد رُبِطَ عند الخصر بشريط عريض مُوشّى.
يُرحِّب بها زكريا بحركات، ويمضيا معاً لموافاة أليصابات. ثمّ يَدخُلون جميعهم إلى قاعة رَحبَة ومنظّمة بشكل جيّد جدّاً حيث يُجلِسان مريم ويُقدِّمان لها كأساً مِن الحليب الطازج -إنّه ما يزال يرغو- مع بعض الكعك الصغير.
تُملي أليصابات أوامرها للخادمة التي تَظهَر أخيراً بيديها اللتين يكسوهما الطحين، والشعر الذي أَكسَبَه الطحين العالق فيه بياضاً أكثر ممّا هو عليه في الحقيقة؛ قد تكون في ذلك الحين تصنع الخبز. ثمّ تطلب إلى خادم آخر، سَمِعتُها تناديه صموئيل، أن يحمل صندوق مريم إلى غرفة عيَّنَتها له. كلّ واجبات ربّة بيت تجاه ضيفة لديها.
وفي هذه الأثناء كانت مريم تُجيب على أسئلة يطرحها زكريّا كتابة بواسطة مِسبَر على لوح مطليّ بالشمع. أدركتُ مِن الأجوبة أنّه يُحدّثها عن يوسف، ويَسألها عن وَضعها كعروسة. وأيقنتُ كذلك أنّ زكريّا لم يتلقَّ أيّة إشارة نورانيّة فائقة الطبيعة عن وضع مريم كأُمّ الماسيا. وها هي أليصابات تدنو مِن زوجها وتضع يدها بحنان على كتفه كما لـمُداعَبة عفيفة، وهي تقول له: «مريم أيضاً هي أُمّ. افرح لسعادتها.» ولكنّها لم تُضِف شيئاً، تَنظُر إلى مريم وكذلك مريم تَنظُر إليها دون أن تدعوها لقول المزيد. وتَصمُت.
ما أعذبها رؤيا! لقد انتزَعَت منّي الهلع الذي أحسستُ به لرؤيتي يهوذا ينتحر.
أمس مساء، قبل أن أنام، رأيتُ مريم تبكي وهي منحنية على حجر الدَّهن، على جسد الفادي الذي لا حراك فيه. كانت إلى يمينه وظهرها لمدخل المغارة الضريح. أضاءَت نور المشاعل وجهها وجَعَلَتني أرى وجهها المسكين الذي اجتاحَه الألم وغَمَرَته الدموع. كانت تمسك بيد يسوع، تمسحها، تُدفّئها على خدّيها ثمّ تقبّلها وتبسط أصابعها… كانت تقبّل أصابعه كلّاً بمفرده رغم كونها جامدة. كانت تمرّر يدها على وجهه وتنحني لتقبّل فمه المفتوح وعينيه شبه المغمضتين وكذلك جبينه المجروح. ونور المشاعل المائل للاحمرار يُبرِز جراح كلّ الجسد الـمُنهَك أكثر حدّة، وفظاعة العذاب الذي تلقاه أكثر وضوحاً وكذلك حقيقة موته.
بَقيتُ في تأمّلي هكذا طالما بَقِيَ فِكري نيّراً. ثمّ نبَّهني نعاسي كي أصلي وأتخذ وضعية النوم الصحيحة. وهنا بالضبط بدَأَت الرؤيا المذكورة أعلاه، ولكن الأُمّ قالت لي: «لا تتحرّكي، انظري فقط وستكتبين غداً.» وأثناء نومي رأيتُ كلّ شيء مِن جديد في الحلم. وعندما استيقظتُ في السادسة والنصف صباحاً عدتُ لأرى كلّ ما رأيتُه مساء أمس وفي الحلم. كتبتُ وأنا أرى. ثمّ أتيتم واستطعتُ أن أسأل إذا كان مِن المفروض أن أكتب كلّ ما سوف يلي. إنّها لوحات صغيرة متفرّقة عن إقامة مريم في بيت زكريّا.