52- يسوع يلتقي بفليبس ونثنائيل في بيت صيدا في منزل بطرس | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}
52- يسوع يلتقي بفليبس ونثنائيل في بيت صيدا في منزل بطرس
15 / 10 / 1944
بعد ذلك، في الساعة التاسعة والنصف، عليَّ أن أكتب هذا:
يوحنّا يَطرق على باب المنزل الذي بات يسوع فيه. تتقدّم امرأة، وحين ترى الطارق تنادي يسوع.
يتبادلان تحيّة السلام. ثمّ يقول يسوع: «أتيتَ مبكّراً يا يوحنّا.»
«أتيتُ أخبركَ بأنّ سمعان بطرس يرجوكَ المرور ببيت صيدا. لقد تحدَّثَ عنكَ للكثيرين… لم نصطد هذه الليلة. بل صلّينا، على قدر معرفتنا، وقد زَهدنا بالربح لأنّ السبت… لم يكن قد انقضى بعد. وقد سِرنا هذا الصباح عبر الطرقات نتحدّث عنكَ. هناك أناس يَبغون الاستماع إليكَ… هل تأتي يا معلّم؟»
«أنا آت على الـرغم مِن أنّه ينبغي لي الذهاب إلى الناصرة قبل ذهابي إلى أورشليم.»
«سيأخذكَ بطرس بمركبه مِن بيت صيدا إلى طبريّا، فهكذا تَصِل بشكل أسرع.»
«حسناً. هيّا بنا.»
يَأخذ يسوع معطفه والخِرج، ولكنّ يوحنّا هو الذي يحملهما له. ويمضيان بعد وداع صاحبة المنزل.
أرى مِن خلال الرؤيا الخروج مِن البلدة وبداية الرحلة إلى بيت صيدا. لستُ أسمَع النقاش، وحتّى الرؤيا تنقطع. وتُعاوِد عند مَدخَل بيت صيدا. أُدرِك أنّها هي هذه المدينة، إذ إنّني أرى بطرس وأندراوس ويعقوب ومعهم نساء ينتظرون يسوع عند بداية التجمّع السكني.
«السلام معكم. ها أنا ذا.»
«شكراً يا معلّم، اليوم ليس السبت، إنّما مِن أجلنا ومِن أجل الذين ينتظرون، ألا تُلقي كلمة في الناس الذين ينتظرونكَ؟»
«نعم يا بطرس، سوف أتكلّم في بيتكَ.»
يقول بطرس مبتهجاً: «تعال إذن. هذه زوجتي، وهذه أُمّ يوحنّا، وهؤلاء هنّ صديقاتهما، إنّما هناك آخرون ينتظرونكَ كذلك، بل هم أهل وأصدقاء لنا.»
«قُل لهم بأنّني سوف أرحل هذا المساء، وقبل ذلك سأتحدّث إليهم.»
لقد فاتني القول بأنّهما ذَهَبا مِن كفرناحوم عند غروب الشمس، وأنّني رأيتُهُما يَصِلان بيت صيدا في الصباح.
«يا معلّم أرجوكَ، امكُث ليلة في بيتي. الطريق طويلة إلى أورشليم، حتّى ولو قَصَّرتُه بحملكَ في المركب إلى طبريّا. بيتي فقير ولكنّه نزيه وحَسَن الاستقبال. فامكث معنا هذه الليلة.»
يَنظُر يسوع إلى بطرس والآخرين الذين ينتظرون إجابة. يَنظُر إليهم ويتفرّس فيهم، ثمّ يبتسم ويقول: «نعم.»
فَرحة جديدة لبطرس.
يَطلّ أناس مِن الأبواب ويُشوّرون. ينادي رجل يعقوب باسمه ويُحدّثه بهدوء وهو يشير بإصبعه إلى يسوع. يشير يعقوب بنعم، ويمضي الرجل ليتحدّث إلى آخرين واقفين عند مفترق الطرق.
يَدخُلون إلى بيت بطرس. مطبخ كبير يكسوه سواد الدخان. في إحدى زواياه شِباك وحِبال وسِلال للسمك. في الوسط يوجد الـمَوقِد، إنّه عريض ومُنخَفِض ومُطفأ في هذه الآونة. ومِن خلال بابين متقابلين تُرى الطريق والحديقة مع شجرة التين والكرمة. بعد الطريق، أمواج البحيرة الزرقاء الفاتحة. وبعد الحديقة الجدار القاتم لمنزل آخر.
«يا معلّم ، إنّني أُقَدِّم لكَ مما هو متوفّر لديّ، وحسب ما أعرف…»
«ممتاز، ولا يمكنكَ القيام بأفضل مِن ذلك لأنّكَ تقدّمه لي بحبّ.»
يُقدِّم الماء ليسوع ومِن ثمّ الخبز والزيتون. يشرب يسوع بضعة جرعات لِيُظهِر أنّه تَقَبَّلَ ذلك منه، ثمّ يُبعِد الباقي شاكِراً.
أطفال في الحديقة وفي الطريق يَنظرون إليه بفضول. ولكنّني لا أعرف إذا ما كانوا أولاد بطرس. أعرف فقط أنّه كان يشير إليهم بالنَّظر ليضبط هؤلاء الغُزاة الصغار. يبتسم يسوع ويقول: «دعهم يفعلون.»
«هل تريد يا معلّم أن تأخذ قسطاً مِن الراحة؟ هنا مَسكَني، وهناك مَسكَن أندراوس. لكَ الاختيار ولنا العمل على عدم إحداث ضجّة أثناء راحتك.»
«هل لديكَ أيضاً شُرفة؟»
«نعم مع كرمة، حتّى وإن كانت ما تزال عارية تقريباً، فإنّها تعطي قليلاً مِن الظل.»
«خذني إليها. أُفَضِّل الراحة هناك فوق. سوف أفكّر وأصلّي.»
«كما تريد. تَفَضَّل.»
مِن الحديقة، هناك سُلّم صغير يَصعَد إلى السطح الذي هو بمثابة شُرفَة مُحاطَة بجدار صغير. وهناك كذلك شِباك وحِبال، إنّما يا لهذا النور القادم مِن السماء ويا لزرقة البحيرة!
يَجلس يسوع على كرسيّ ويسند كتفيه على الجدار. يمسك بطرس بشراع ويمده في الأعلى وإلى جانب الكرمة ليرد الشمس. ويُخيّم هناك النسيم والصَّمت. ويُسَرّ يسوع بذلك بشكل جَليّ.
«أنا ذاهب يا معلّم.»
«امضِ. ستمضيان، أنتَ ويوحنّا، لِتُخبِرا بأنّني سأتحدّث مِن هنا عند غروب الشمس.»
يبقى يسوع وحيداً ويصلّي طويلاً، لا ضجّة سوى حركة زوجَي حَمام بذهابها وإيابها إلى أعشاشها، وزقزقة عصافير. ما مِن شيء آخر حيّ حول يسوع الذي يصلّي.
تمرّ الساعات هادئة رائعة. ثمّ يقوم يسوع ويَدور حول الشرفة، يَنظر إلى البحيرة وإلى أولاد يلعبون على الطريق. يبتسم لهم ويَردّ الأطفال بابتساماتهم. يَنظر إلى الطريق مِن جهة الساحة الصغيرة التي تبعد عن المنزل بحوالي مائة متر. ثمّ يَنزل ويذهب إلى المطبخ «يا امرأة أريد أن أقوم بجولة على الشاطئ.»
يَخرُج ويَمضي فعلاً في ذلك الاتّجاه، قُرب الأطفال. يسألهم: «ماذا تفعلون؟»
«كنا نريد أن نلعب لعبة الحرب، لكنّه هو لم يُرِد، لذلك نلعب لعبة صيد السمك.»
هذا الذي لم يُرِد هو إنسان صغير نحيف، ولكنّ عينيه مُشعّتان جدّاً. ربّما كان يَعلَم أنّه لهزاله قد يُزاحِمه الآخرون أثناء “لعبة الحرب” لذلك هو يُدافِع عن السلام.
لكنّ يسوع يغتنم الفرصة للتحدّث إلى أولئك الأطفال: «إنّه على حقّ. فالحرب هي قَصاص مِن الله لِيُعاقِب الناس. وهي تعني أنّ الإنسان لم يعد ابناً حقيقيّاً لله. عندما خَلَقَ الباري تعالى العالم، صَنَعَ كلّ شيء: الشمس والبحر والنجوم والأنّهار والنباتات والحيوانات، ولكنّه لم يَصنَع الأسلحة. لقد خَلَقَ الإنسان ومَنَحَه عينين لتكون له نظرات حبّ، وفَماً ليقول كلام حبّ، وأذنين ليَسمَعه، ويَدين تمتدّان للمساعدة والـمُلاطَفة، وساقين للركض بسرعة صوب أخ هو في حاجة إلى العَون، وقلباً قادراً على الحبّ. لقد مَنَحَ الإنسان الذكاء والكلام والعواطف والشعور، ولكنّه لم يمنحه البُغض. لماذا؟ لأنّ الإنسان خليقة الله، كان ينبغي لـه أن يكون حُبّاً كما هو الله. لو بقي الإنسان ابناً لله، لكان بقي في الحبّ ولما كانت الأسرة البشريّة لتعرف الحرب والموت.»
«إنّما هو لا يريد الحرب لأنّه يخسر دائماً.» (لقد خَمَّنتُ ذلك.)
يبتسم يسوع ويقول: «يجب ألّا نرفض الشيء الذي يضرّنا لأنّه يضرّنا. علينا أن نرفض شيئاً إذا كان مضرّاً للجميع. إذا قال أحد: “لا أريد هذا لأنّني سأكون الخاسر”. فهذه أنانيّة. بينما على العكس مِن ذلك، فإنّ ابناً لله حقيقيّاً يقول: “إخوتي، أعرف أنّني سأكون مُتفوّقاً ولكنّني أقول لكم: “لا نفعلنّ ذلك لأنّه سيؤذيكم”. آه! مثل هذا يكون قد أَدرَكَ الوصيّة الرئيسيّة! مَن منكم يعرفها فيقولها لي؟»
فيجيب الأحد عشر فَماً على شكل جوقة: «أَحِبّ الله بكلّ قدرتكَ وقريبكَ كنفسكَ.»
«آه! إنّكم أولاد طيّبون. أتذهبون جميعكم إلى المدرسة؟»
«نعم.»
«مَن منكم الأكثر اجتهاداً؟»
«هو.» (النحيل الذي لا يريد مشاركتهم لعبة الحرب)
«ما اسمكَ؟»
«يوئيل.»
«إنّه اسم عظيم. وهو الذي يقول: “… فليقل الضعيف: أنا قويّ!” إنّما قويّ بماذا؟ بشريعة الإله الحقّ، ليكون مِن أولئك الذين يَدعوهم الله قدّيسيه في وادي الدينونة الأخيرة. لكنّ الدينونة باتت وشيكة، ليس في وادي الدينونة، إنّما على جبل الفِداء. وهناك، عندما ستُظلِم الشمس والقمر في مشهد لا مثيل لفظاعته، وعندما ستبكي النجوم المرتَجِفَة إشفاقاً، سيتمّ فصل أبناء النور عن أبناء الظلمات. إسرائيل كلّها ستعرف أنّ إلهها قد أتى. طوبى للذين يكونون قد عرفوه. هؤلاء، سينزل في قلوبهم عسل ولبن ومياه صافية، وستصبح الأشواك وروداً أبديّة. مَن منكم يريد أن يكون مِن ضمن الذين سيدعوهم الله قدّيسين؟»
«أنا! أنا! أنا!»
«إذاً سوف تحبّون الماسيا؟»
«نعم! نعم! أنتَ! أنتَ! نحبّكَ! نعرف مَن تكون! سمعان ويعقوب قالا ذلك وأُمّهاتنا قلن لنا كذلك. خذنا معكَ!»
«في الحقيقة سوف آخذكم إذا كنتم حَسَني السلوك، لا كلمات فاحشة ولا عنف ولا مشاجرات ولا أجوبة غير لائقة للأهل بعد الآن. بَل صلاة ودَرس وعمل وطاعة. حينئذ سأحبكم وآتي معكم.»
يقف الأولاد حول يسوع على شكل دائرة، تخالها تُوَيج زهرة في الكأس بألوان مختلفة حول مدقّة طويلة لازورديّة قاتمة.
يَدنو رجل فُضوليّ مُتَقَدِّم في السنّ قليلاً. يَلتَفِت يسوع لِيُداعِب طفلاً يشدّه مِن ثوبه، ويراه، يُحَدِّق فيه. يُحَيّيه الرجل وقد علاه احمرار ولم يزد شيئاً.
«تعال اتبعني.»
«نعم يا معلّم.»
يُبارِك يسوع الأولاد ويعود إلى المنزل وإلى جانبه فليبّس (يسمّيه باسمه) ويَجلسان في الحديقة.
«هل تريد أن تكون لي تلميذاً؟»
«أريد… ولا أجرؤ على التمنّي أن أكون كذلك.»
«أنا مَن دعاك.»
«وأنا ألبّي إذاً. ها أنا ذا.»
«هل كُنتَ تَعلَم مَن أكون؟»
«لقد حَدَّثَني عنكَ أندراوس. قال لي: “الذي كنتَ تتوق إليه قد أتى”. فلقد كان يَعلَم أنّني أتوق إلى رؤية الماسيا.»
«لم يَخب انتظاركَ. إنّه أمامكَ.»
«معلّمي وإلهي!»
«أنتَ إسرائيليّ مستقيم النيّة. لذلك أكشف عن نفسي أمامكَ. هناك آخر وهو صديقكَ، يَنتَظِر، إنّه كذلك إسرائيليّ خالِص. اذهَب وقُل لـه: “لقد وَجَدْنا الذي تَكَلَّم عنه موسى والأنبياء، وهو يسوع بن يوسف مِن الناصرة وهو مِن نسل داود”. اذهب.»
يَبقى يسوع وحيداً إلى أن يعود فليبّس ونثنائيل-برتلماوس.
«هوذا إسرائيليّ خالص لا غشّ فيه. السلام لكَ يا نثنائيل.»
«مِن أين لكَ أن تعرفني؟»
«قبل أن يَدعوك فليبّس وأنتَ تحت التينة رأيتُكَ.»
«يا معلّم أنتَ ابن الله، أنتَ ملك إسرائيل!»
«أَلِأنّي قُلتُ لكَ رأيتكَ تحت التينة بينما كنتَ تُفَكِّر آمنتَ؟ سوف تَرَى أعظم مِن هذا. الحقّ الحقّ أقول لكم: السماوات مفتوحة وأنتم بالإيمان، سَتَرَون الملائكة صاعدة وهابطة فوق ابن الإنسان: أنا الّذي أُكلّمكم.»
«يا معلّم! لستُ أهلاً لمثل هذه الحظوة!»
«آمِن وسَتَكون أهلاً للسماء. هل تريد أن تؤمن؟»
«أريد ذلك يا معلّم.»
تتوقّف الرؤيا لتعود على مَشهَد الشُّرفة وهي مليئة بالبشر: أشخاص يتواجدون في الحديقة الصغيرة ويسوع يتكلّم:
«السلام للناس ذَوي الإرادة الصالحة. السلام والبركة لبيوتهم ونسائهم ولأولادهم. ولِتَسُدْ فيهم نعمة الله ونوره وفي القلوب التي تسكنهم.
لقد رَغبتُم الاستماع إليَّ. فالكلمة تتحدّث، تتكلّم بِفَرَح إلى الناس الشرفاء، وبألم إلى الذين هُم غير ذلك، تتكلّم بحبّ للقدّيسين والأطهار، وللخَطَأة برأفة ورحمة. إنّها لا تَتَمَنَّع، فقد أتت كنهر يَروي الأراضي العطشى للماء، وتحمل لها رطوبة الماء وغذاء الطمي.
هل تريدون معرفة ما هي الأمور الضروريّة ليكون المرء تلميذ كلمة الله، الماسيا، كلمة الآب الذي أتى ليجمع شمل إسرائيل فيَسمَع مِن جديد كلمات الوصايا العشر المقدّسة وغير المبتذَلة، وإذا كانت نبع تقديس لأنّها في العالم، فكم يستطيع الإنسان أن يتقدّس بزيادة في ساعة الفِداء والملكوت.
ها أنا ذا أقول للصمّ والبكم وللمُقعَدين والأموات: “قِفوا، كونوا مُعافِين، قوموا مِن الموت، امشوا؛ ها هي أنهار النور تُفتَح مِن أجلكم، وكذلك الكلمة والموجات الرنّانة لتستطيعوا المشاهدة والسماع والتحدّث عنّي”. لكنّني أتوجّه إلى أرواحكم أكثر مِن توجّهي إلى أجسادكم. أيّها الناس ذَوي الإرادة الصالحة، تعالوا إليَّ دون خوف. إذا كانت روحكم مَكلومة، أُعيد لها سلامتها، إذا كانت مريضة أُشفيها، إذا كانت ميتة أُحيِيِها. فقط أريد منكم إرادتكم الصالحة.
هل ما أطلُبه منكم صعب؟ لا. فأنا لا أفرض عليكم المئات والمئات والمئات مِن أحكام الحاخامِين. أقول لكم: اتّبعوا الوصايا العشر. فالشريعة واحدة وغير قابلة للتبدّل. مَرَّت قرون كثيرة منذ أن أُعطِيَت للناس جميلة، نقيّة، نديّة، مثل خليقة مولودة حديثاً، مثل وردة بَدَأَت تتفتّح على ساقها، بسيطة واضحة، لطيفة في اتّباعها. وعلى مرّ العصور عَقَّدَتها الأخطاء وميول البشر بقوانين وأحكام ثانويّة مع أعباء وقيود وكثير مِن البنود الـمُرهِقَة. إنّي أعيدكم إلى الشريعة كما أعطاها الباري تعالى. ولكن أرجوكم، لصالحكم، تَقَبَّلوها بقلب إسرائيليّي هذا الزمن المخلَّص.
تُهَمهِمون في قلوبكم أكثر ممّا في الكلام لأنّ الخطيئة عند مَن هُم فوق أكثر ممّا هي فيكم أيّها الصغار. أعرف ذلك. في تثنية الاشتراع قيل ما يجب فِعله، لم يكن يوجد شيء للإضافة. ولكن لا تدينوا الذين يطبّقونه على الآخرين وليس على أنفسهم. أمّا أنتم فافعلوا ما يقولـه الله. وفوق كلّ ذلك، اجتَهِدوا في أن تُمارِسوا الوصيّتين الرئيسيّتين بشكل تامّ. إذا أحببتم الله بكلّ إمكاناتكم فلن تُخطِئوا، إذ إن الخطيئة هي ألم نُسبّبه لله. فإنّ مَن يحبّ لا يريد أن يُسبّب ألماً. إذا أحببتم القريب مثل أنفسكم، فلن تكونوا سوى أبناء مُحتَرَمين لآبائكم، أزواج أوفياء للشريك، أناس شرفاء في التجارة، دون عنف مع الأعداء، بغير زُور في الشهادات، خالِين مِن الحَسَد لمال سواكم، مُتَنزِّهين عن الشهوة الفاسقة لامرأة الغير. لا تريدون أن تفعلوا لغيركم ما لا تريدون أن يفعله هو بكم، اختلاس وقتل وافتراء ودخول مثل وقواق في عشّ الغير.
إنّما على عكس ذلك، أقول لكم: “ادفعوا، بطاعتكم لوصيّتي، الحبّ إلى حدّ الكمال: أحبّوا حتّى أعداءكم”.
آه! كم سيحبّكم العليّ الذي يحبّ كثيراً الإنسان الذي أصبَحَ عدوّه بالخطيئة الأصليّة والخطايا الشخصيّة، الذي يحبّه لدرجة أنّه أرسَلَ له الفادي، الحَمَل الذي هو ابنه، أنا الذي أكلّمكم، المسيح الموعود لافتدائكم مِن كل خطيئة، لو كنتم تعرفون أن تحبّوا مثله!
أحبّوا وليكن الحبّ لكم سلّما، حين تُصبحون ملائكة، تَصعدون بواسطته، كما في رؤيا يعقوب، إلى السماء، وأنتم تَسمَعون الآب قائلاً للجميع ولكلّ واحد: “سأكون حافظكَ أينما ذهبتَ وأقودكَ إلى هذا الوطن: السماء، الملكوت الأبديّ”.
والسلام لكم.»
يتفوّه الناس بكلمات استحسان ويَنسَحِبون ببطء، ويبقى بطرس وأندراوس ويعقوب وفليبّس وبرثلماوس.
«هل أنتَ ذاهب غداً يا معلّم؟»
«غداً عند الفجر، إذا لم يكن ذلك يضايقكَ.»
«أنا متأسّف لذهابكَ. نعم. إنّما للساعة فلا. بل بالعكس إنّها مؤاتية.»
«هل ستصطاد؟»
«هذه الليلة عند بزوغ القمر.»
«حسناً فعلتَ يا سمعان بطرس بعدم اصطيادكَ الليلة الماضية، فلم يكن السبت قد انقضى بعد. وإنَّ نحميا في تعديله القوانين يريد أن يُراعَى السبت في يهوذا. الآن أيضاً، يَعمَل أناس كثيرون في الـمَعصَرة، يحملون الحطب، ينقلون الخمر أو الفاكهة، يبيعون ويشترون السمك والحِملان. لديكم ستّة أيّام لكلّ هذا، أمّا السبت فللربّ هو. عمل واحد يمكن القيام به في السبت: خدمة القريب، إنّما على أن تنتفي تماماً بُغية الكسب مِن هذه المساعدة. والذي يَنتَهِك السبت بقصد الربح لا يمكن أن يَلقى مِن الله سوى العقاب. هل تقومون بعمل بقصد الربح؟ سوف تبذلونه ومعه خسارة في الأيّام الستّة الباقية. تقومون بعمل غير ذي أهميّة؟ إنّكم تُتعِبون أجسادكم عَبَثاً بأن لا تعطوها الراحة التي جَعَلَها لها العقل الأسمى، وذلك بإفساد الروح بنفاذ الصبر الناتج عن التَّعَب العَبث، ببلوغ اللعنات. بينما ينبغي أن يمرّ يوم السبت بقلب متّحد بالله بصلاة حبّ عذبة. يجب الوفاء بكلّ شيء.»
«ولكن… الكَتَبَة والأحبار الذين هم صارمون جدّاً معنا… لا يعملون أثناء السبت، حتّى رغيف الخبز لا يعطونه للقريب ليتحاشوا تعب تقديمه… بينما الرّبا فإنّهم يمارسونه حتّى يوم السبت بحجّة أنّه لا يُمثّل عملاً ماديّاً. فهل يمكن ممارسة الرّبا يوم السبت؟»
«لا أبداً. لا يوم السبت ولا في أي يوم آخر. فالذي يتعاطاه، قليل النزاهة هو ومجرم.»
«إذاً فالكَتَبَة والفرّيسيّون…»
«سمعان، لا تُدن، إنّما بخصوصكَ أنتَ فامتَنِع.»
«ولكن لديَّ عينان تَرَيان.»
«ألا يوجَد غير الشرّ للنَّظَر إليه يا سمعان؟»
«لا يا معلّم.»
«وإذاً لماذا لا ننظر إلّا إلى الشرّ؟»
«إنّك محقّ يا معلّم.»
«فإذاً، غداً عند الفجر سوف أرحل مع يوحنّا.»
«معلّم…»
«ما بكَ يا سمعان؟»
«يا معلّم… هل أنتَ ذاهب إلى أورشليم؟»
«تعرف ذلك جيّداً.»
«أنا أيضاً ذاهب إلى هناك مِن أجل الفصح… وكذلك أندراوس ويعقوب…»
«إذاً؟ تريد القول بأنّكَ تَبغي المجيء معي. والصيد؟ والربح؟ لقد قلتَ لي إنّكَ تَبتَهِج بامتلاك المال، وأنا سوف أمكث عدّة أيّام. فأنا ذاهب أوّلاً إلى أُمّي، وسأعود إليها أثناء إيابي. وسأتوقّف للكرازة. فماذا ستفعل؟»
بطرس حائِر، تَتَنازَعه رَغبَتان… إنّما في النهاية يقرّر: «بالنسبة إليَّ… أذهب. فأنتَ عندي أهمّ مِن المال!»
«أنا أيضاً آتي.»
«وأنا كذلك.»
«ونحن كذلك، أليس صحيحاً يا فليبّس؟»
«هلمّوا إذن، سوف تساعدونني.»
أُذهِل بطرس بفكرة مساعدة يسوع: «آه! كيف ذلك؟»
«سأقول لكم. فما عليكم سوى أن تفعلوا ما أقوله لكم ليكون حسناً. فالمطيع يتصرّف دائماً بشكل حَسَن. أمّا الآن فسنصلّي حالاً ومِن ثمّ يمضي كلّ إلى بيته.»
«ماذا ستفعل يا معلّم؟»
«سأصلّي أيضاً. فأنا نور العالم ولكنّني كذلك ابن الإنسان. لهذا السبب ينبغي أن أتّصل دائماً بالنور لأكون الإنسان الذي يَفتَدي الإنسان. لِنُصَلِّ.»
يَتلو يسوع مزموراً، وهو الذي يبدأ بهذه الكلمات: «الساكن في ستر العلي يبيت في ظلّ إله السماء. يقول الربّ: “أنتَ مُعتَصَمي وملجأي. هو إلهي وفيه رجائي. سينقذني مِن شِباك الصيّادين ومِن كلام الشرّ”. الخ…» يبدو لي أنّه المزمور التسعون.
وعلى هذا تنتهي الرؤيا.
أَفتَح الكتاب المقدّس على الفصل الثالث والعشرين مِن سفر يشوع بن سيراخ، إنّها صلاة تعجبني. ما أسهل أن يَتيه الفِكر وينتفخ القلب بالكبرياء! لا فالموت قبل ذلك. هذا يعني إضاعتكَ أيّها الربّ، ولا أريد أن أضيعكَ. استَخدِم السوط والـمِجلَدة، ولكن احفظ في الأرض “بنفسجتكَ”.
في الساعة الثانية عشرة أقول ليسوع: «نعم يا ربّ قدني بيدي (لقد كنتُ أقرأ جملة قالها يسوع للأخت بنينيا وقد كانت فكرتي لهذا اليوم.) أريد ما تريد وليس شيئاً آخر، ولكنّني أخشى العالم…»
ويجيبني يسوع، وهو الذي يعرف عن أيّ نوع مِن الخوف أتحدّث: «عندما يفرضون عليكِ الصَّمت، وهم يرفضون معرفة أنّكِ تفعلين ما تفعلينه باسمي ووفقاً لمشيئتي، أجيبي بما أجاب بطرس ويوحنّا مجمع اليهود بعد شفاء الأعرج: “لو كان مِن العدل أمام الله الطاعة لكم مِن دون الله، فاحكموا أنتم بالذات. نحن (أنا) لا نستطيع (لا أستطيع) الامتناع عن الكلام عما رأيناه (رأيتُه) وسمعناه (سمعُته)”.
وبالتالي فلن تستطيعي منعي مِن المجيء إليكِ وإرغامكِ على الرؤية والسماع، وسيكون غباء منكِ السَّماع للعالم الذي يَفرض إسكات الله، الله الذي يريد أن يَمنَح النور للعالم. إذا أردتُ أنا ذلك فمَن يقاومني؟»