22- العذراءُ مريمَ وعبيدُ محبتِها
العذراءُ مريمَ وعبيدُ محبتِها
أُلخّص هنا الواجبات الحبيةَ التي تُسديها الأمُ العذراء كخيرِ الامهات نحو خدامِها المحبين الذي كرَّسوا ذواتِهم لها.
1- إنها تحبهم
«إني أُحبُ الذين يحبونني» (امثال 17:8). فتحبهم لأنها أُمُهم الحقيقية، وككُل أمٍ تحبُ دائماً ابنها ثمرة أحشائِها. تُحبهم شاكرةً لهم محبتَهم لها كأُمٍ صالحة.
تحبهم لأنهم مختارون من الله: «احببت يعقوب وابغضت عيسو» (روميه 13:9). تحبهم لأنهم كرَّسوا ذاتَهم لها، فهم نصيبُها وإرثُها. تحبهم بحنوِ وحنانِ كل الأُمهات معاً، ضعوا اذا استطعتم الحبَّ الطبيعيَ لكل الامهات نحو اولادهم، في قلبٍ واحدٍ وأمٍ واحدة لابنٍ وحيد، فسيكون بلا ريبَ هذا الحبُ عظيماً جداً لا مثيلَ له، ومع ذلك فانه أكيدٌ أنَ مريمَ تُحب أبناءَها بحنان أعظمَ، من هذه الامِ لابنِها. إنها لا تُحبُهم فقط عاطفياً، ولكن أيضاً فعلياً. ان محبتها لهم هي حيةٌ وفعّالة، كمحبة رفقة ليعقوب وأكثر، هذه الأمُ الصالحةُ التي لم تكن رفقةُ الا رمزاً لها.
إنها تتحيَّنُ الفُرصَ، لتحصلَ لأبنائِها بركةَ الآبِ السماوي، مثل رفقة، لصُنعِ الخير معهم، ورفع مقامهم وإثرائهم. واذ ترى واضحاً في الله كلَّ الخيور والشرور، والنصيب الصالح والحظ الطالح، البركات واللعنات، فانَّها ترتبُ عن بُعد، الامور لتُخلِصَ خدامَها من كل الشرور وتفيضَ عليهم كل خيرٍ، بنوع أنه اذا ما يوجد طالعٌ سعيدٌ للحصول عليه من لدن الله، فإنه أكيدٌ أنَّ مريمَ ستحصلُ عليه لأحدِ ابنائِها الصالحين، وستُعطيهم النعمةَ لإنجازِ عملِهم بأمانة، لأنها المهتمةُ بتدبير أمورِنا.
تمنَحُ لمُحبيها المشورات الصالحة، مثل رفقة ليعقوب، ومن بين هذه، تُلهمُهم بحملِ جَدْيين إليها، أعني جسدَهم ونفسَهم، ليكرّسوها لها، فتصنعَ منها طعاماً لذيذاً لله وأن يعملوا هم كلَّ ما علّم إبنُها يسوع بالكلماتِ والافعال. واذا لا تُلهمُهم ذلك بذاتِها، فانها توحي الملائكةَ بمساعدةِ خدامِها الأُمناء.
ماذا تفعلُ هذه الامُ الصالحةُ عندما يُكرسُ المرءُ لها جسَدَه ونفسَه وكلَّ ما يتعلقُ بهما، دونَ استبقاءِ أي شيء؟ إنَّها تفعلُ ما صنَعته رفقةُ سابقاً بالجديين اللَّذَين حَمَلَهما لها يعقوب:
1) إنها تذبحهما وتُميت آدمَ القديم.
2) تَسلُخُهما وتُجرّدُهُما عن جلدِهما الطبيعي وأميالِهما الطبيعيةِ ومحبتِهما الذاتيةِ وارادتِهما الخاصةِ ومن كلِ ما يتعلقُ بالخليقة.
3) إنها تُطهّرهُما من أدرانِهما وأوساخِهما وخطاياهُما.
4) تُصلحُهما حسبَ رغبةِ اللهِ ومجدِه الاعظم.
وبما أنه لا توجدُ الا هي التي تعرف بنوعٍ كامل، الذوقَ الالهيَ، ومجدَ العلي الاعظم، فلا يوجد غيرُها يعرفُ بلا غلط، كيفَ يُعدُ ويهيء جسدَنا ونفسَنا للذوق المتسامي جداً، وهذا المجدُ المختفي بنوع غيرِ متناهي وأزلي.
وعندما تقبلُ هذه الأمُ الصالحةُ التقدمة الكاملة التي عملناها لها بتقديمنا ذاتنا واستحقاقاتنا وتعويضاتنا بواسطة الاكرام الذي تكلمت عنه، وتكونُ قد جرَّدَتنا عن ثيابِنا القديمة، فانها تُحضرّنا وتجعلُنا أَهلاً للمثول امام أبينا السماوي. وتُلبسُنا ثياباً نظيفةً وجديدة، ثمينةً ومعطرة من عطريات عيسو البكر، أي ابنها يسوع المسيح، تلك الثيابَ التي تحفظُها في بيتها، أعني التي هي تحتَ سلطانها، اذ انها المؤتمنةُ على الخزانة والموزعةُ العامةُ لاستحقاقاتِ وفضائلِ ابنِها يسوع المسيح تلك التي تمنحُ وتُشركُ بها من تريد، وكما تُريد، وعلى قدرَ ما تُرِيد.
فتحيطُ رقَبةَ ويدي خدمِها بجِلْد الجديين المذبوحين والمسلوخين، أعني أنها تُزينها باستحقاقات وقيمة أعمالهم الخاصة، فتذبح وتُميت حقاً كل ما يوجد في شخصهم من غير طاهرٍ وغيرِ كامل. إلا أنها لا تضعُ ولا تُضيّع كلَّ الخير الذي عملَتهُ فيهم، بل تحفَظُه وتَزيدُه لتجعلَ منه زينةً حول عنُقِهم ويديهم، أعني لتقويَهم لحملِ نيرِ الرب، الذي يُحمَلُ على الرقبة، ولكي يقوموا بأعمالٍ كبيرة لمجد اللهٍ ولخلاصٍ إخوتهم المساكين.
ثم تُعطي عطراً جديداً ونعمةً جديدةً لهذه الثياب والزينات باعطائها لهم ثيابَها الخاصة اي استحقاقاتِها وفضائلَها تلك التي ورَثَتْها لهم عند موتها، فكلُ خدامِها وعبيدِها الأُمناء، لهم ثيابٌ مضاعفة أعني لهم ثيابُ ابنِها وثيابُها الخاصة (امثال 21:31) ولهذا لا يخافون بردَ يسوع الأبيضَ كالثلج، البَرد الذي لا يَقوى المرذولون على تحملّه، اذ إنهم مجرَّدون من استحقاقات يسوع المسيح ومريم العذراء.
وأخيراً تجعلُهم ينالون بركةَ الآبِ السماوي، ولو أنهم ليسوا إلَّا مولودين بعده وأبناء بالذخيرة، وما كانوا يستحقون طبيعياً ذلك. إنهم يتقدمون بثقة، بهذه الثيابِ الجديدةِ والثمينة، وذاتِ العطورِ الطيبة، بجسدهم ونفسِهم المستعدين والمهيَّئين من سرير الراحة لأبيهم السماوي، فيَسمع صوتَهم ويميْز صوتَ الخطأةِ، يلمَسُ أياديهم المغطاةِ بالجلود، ويشتمُ رائحةَ ثيابِهم الطيبة، ويأكلُ بفرحٍ مما اعدته له مريمُ أُمُهم، فيعرف فيهم الاستحقاقاتِ والرائحةَ الطيبة التي لابنه وأمه القديسة فيُعطيهم بركتَه المضاعفة، بركةَ سمْنِ الارض (تكو 28:27)، أعني أن هذا الأبَ الصالحَ يمنحُهم الخبزَ اليومي مع كفايةٍ فائضةٍ من خيرات الارض، ويُقيمُهم سادةً على إخوتِهم الآخرين المرذولين، ولو أنَّ هذه الاولوية لا تظهرُ دائماً في هذا العالم، حيث تعبر في لحظة واحدة (1كور 31:7) وحيث المرذولون يسيطرون مراراً (مز 3:93) ولكن هذه الأولويةَ هي حقيقيةٌ وستظهرُ بوضوحٍ في العالم الآخر، في كلِ الأبدية، حيث الابرار، كما يقولُ الروحُ القدس، يسيطرون ويحكمون الشعوبَ (حكمة 8:3) ولا يَكفي ان تُباركَ جلالتُه شخصَهم وخيراتِهم فقط، تبارك ايضاً كلَّ الذين سيباركونهم، وتلعنَ جميعَ الذين يلعنونهم ويضطهدونهم.
2- إنها ترعاهم
إنَّ الواجبَ الثاني الحبيّ الذي تُمارسُه العذراءُ القديسةُ نحو خدامِها المحبين، هو رعايتُهم جسماً ونفساً، مقدِمةً لهم ثياباً مضاعفةً، مع أطيب الاطعمة من المائدة الالهية أي خبزِ الحياة الذي عملته، فتقول لهم بفم الحكمة: «امتلِئوا من أجيالي» (ابن سيراخ 26:24) يا أبنائي الاعزاء، امتلئوا من يسوع ثمرةِ الحياة الذي وضعْتهُ في العالم لأجلكم. هلُمّوا كُلو من خبزي اشربوا خمري الذي مزجْته لكم (امثال 5:9) كلوا واشربوا واسكروا يا اعزائي» (نشيد 1:5) هلموا كلو من خبزي الذي هو يسوع واشربوا من خمر محبتِه الذي مزجْتهُ لكم مع حليبي.
3- إنها تقودُهم
إنَّ الخيرَ الثالثَ الذي تَعملُه الامُ القديسةُ لخدامِها الأُمناء، هو قيادتُهم وتدبيرُهم حَسَبَ إرادةِ ابنِها. كانت رفقة تقودُ يعقوبَ الصغير وتُعطيه من حينٍ إلى آخر نصائحَ مفيدةً سواءٌ للحصول على بَرَكة أبيه، وسواءٌ لِتجنُّبِ كراهيةِ واضطهادِ اخيه عيسو. ومريمُ التي هي نجمةُ البحر، تقودُ كلَّ خدامِها الأُمناء الى مرفأ السلام، فتُريهم طرقَ الحياةِ الابدية وتجعلُهم يتجنبون الخطواتِ الخطرةَ، وتقودُهم باليدِ في سبيل البرارة وتسندُهم عندما يَميلون نحو السقوطِ وتُوبخهم كأُمٍ مُحبة، عندما يرتكبون نقصاً وتُقاصصُهم أيضاً أحياناً بمحبة.
فهل يقدر ابنٌ طائعٌ لمريمَ أُمِه المرضعةِ ومدبرتِه العظيمة أن يتيهَ في طُرقِ الأبدية؟ «باتباعِك إياها لن تضيعَ»، يقولُ القديس برنردس. لا تخافوا على ابنٍ حقيقي لمريم من خداع الخبيث وسقوطِه في هرطقة، لأن حيث تمشي مريمُ، لا يقدِرُ الاقترابَ لا الشيطانُ ولا الهرطقاتُ، «اذا تمسكك لن تسقطَ» يقول القديس برنردس.
4- إنها تُدافع عنهم وتُحاميهم
إنَّ الرعايةَ التي تؤديها مريمُ لأبنائها وخدامِها الأُمناء هو دفاعُها عنهم وحمايتُهم ضدَّ اعدائِهم، كما نجَّتْ رفقةُ بهمتها ومهارتها يعقوبَ من كلِ الأخطارِ التي احاقت به، لا سيما من القتل الذي كان سابقاً لقائين ضدَّ هابيل. فمريمُ الامُ المحبة للمختارين، تُخفيهم تحتَ أجنحةِ حمايتها، كما تفعلُ الدجاجة بفراخِها، تتصل بهم وتُخاطبهم وتَغُضُ الطرْفَ عن ضعفَهم لتنقذَهم من الباز والنسر، فتبقى بجَانبهم، وتُرافقُهم كجيشٍ مصطفٍ للقتال، فهل يخافُ إنسانٌ مُحاطٌ بمئةِ ألفِ جندي من اعدائه؟ إنَّ الخادمَ الأمين لمريمَ، المُحاطَ بشفاعتها وقدرتِها الملوكية يخافُ أقل. إنَّ هذه الأمَ الفاضلةَ وأميرةَ السماوات القديرة تُرسِلُ بالأحرى فِرقاً من ملايين الملائكة، لمساعدة أحَدِ خدامِها، الذي كان أميناً لها، وملتجئاً اليها، فلن يرضخَ لخَباثةِ وعددِ وقوةِ أعدائِه.
5- تتشفعْ بهِم
إنَّ الخيرَ الخاصَ والأكبرَ الذي تُقدمُه لهم الأمُ الحبيبةُ مريمُ لمحبيها الامناء، هو تشفعُها بهم لدى ابنِها لتهدئتِه، فتربطهُم به برباطٍ مكين جداً وتحفظُهم له. قرَّبتْ رفقةُ يعقوبَ من فراش أبيه، فلمَسَهُ الشَيخُ وعانقه وقَبَلّه ايضاً مسروراً، لأنه كان فرحاً وشبعاً من اللحوم المعدةِ جيداً والتي حملَها له. فاستنشق بلذة رائحةَ العطورِ التي تفوحُ من ثيابه، فهتف: «هوذا رائحةُ ابني مثلُ رائحة حقلٍ ممتلئٍ، باركه الرب» (تكو 27:27). فهذا الحقل المملتئ الذي خلبت رائحتْه العطرةُ قلبَ الأبِ الشيخ، ما هو الا رائحةُ الفضائلِ والاستحقاقات المريمية التي هي كحقلٍ ممتلئ من النعم، زرعها اللهُ الآبُ لابنه الوحيد، كبِذرةِ حنطةِ المختارين.
إن ابناً معطَّراً بعطورِ مريمَ المحبوبة، هو مقبولٌ من يسوع المسيح ابي الاجيال المقبلة (أشعيا 6:9) إنه حقاً متحدٌ معه فوراً وبنوع كامل.
هذا وبعد أن تَملأَ أبناءَها ومحبيها الأمناءَ من امتيازاتها وقد استمدَّتْ لهم بركةَ الآب السماوي والاتحادَ مع يسوع المسيح، تحفظهم فيه وهو فيهم، وتسهر عليهم دائماً، خوفَ أن يَفقدوا نعمةَ الله ويسقطوا في فخاخ اعدائهم، «إنها تُمسك القديسين في امتلائِهم وتثبتهم حتى النهاية» (القديس بونافنتورا). هذا شرحٌ لهذا الرمز الكبير والقديم للاختيار والرذلِ المجهول والمملوء أسراراً.