41- امتحان رشد يسوع في الهيكل | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
41- امتحان رشد يسوع في الهيكل
21 / 12 / 1944
الهيكل في أيّام العيد. تَدخُل الجموع وتَخرُج مِن أبواب السّور، يجتازون الساحات والردهات والأروقة، يختفون في هذا البناء أو ذاك الـمُقام على مستويات مختلفة حيث تنتشر كُتَل الهيكل.
ها هُم جماعة يسوع يَدخُلون كذلك وهُم يُرَتِّلون المزامير بصوت خافت. جميع الرجال أوّلاً ومِن ثمّ النساء. وقد انضمّ إليهم أناس آخرون، مِن الناصرة ربّما أو ربّما أصدقاء مِن أورشليم. لستُ أدري.
بعد السجود إليه تعالى، -ليتني أُدرِك جيّداً أين يفعل الرجال ذلك- (وتقف النساء في مكان أخفَض قليلاً)، يترك يوسف المكان مع ابنه ويجتاز الساحات مِن جديد، إنّما بالاتّجاه المعاكس. يدور في المكان ويَلِج قاعة كبيرة لها مظهر مُجَمَّع. لستُ أفهم جيّداً هل كان يوجد في الهيكل مجامع؟ ثمّ يتحدّث إلى لاويّ، ويغيب هذا الأخير خلف ستار مخطّط ليعود بعد ذلك مع كَهَنَة مُسنّين. أظنّهم كَهَنَة. إنّما هم بالتأكيد معلِّمون في علوم الشريعة، فهم إذاً مكلَّفون بامتحان المؤمنين.
يُقَدِّم يوسف يسوع، وكانا قبلاً قد انحنيا انحناءة كبيرة أمام عشرة أحبار اتَّخَذوا أماكنهم بوقار على كراسي خشبيّة مرتفعة. فيقول: «هو ذا ابني. لقد بَلَغَ منذ ثلاثة أقمار واثني عشر يوماً السنّ الذي يحدّده الشّرع لبلوغ سنّ الرّشد. ولكنّني أرغَب في أن يُصبِح راشداً بحسب تعاليم إسرائيل. أرجوكم الأخذ بعين الاعتبار أنّ بنيته تُظهِر أنه خَرَجَ مِن الطفولة ولم يعد صغيراً. وأرجوكم امتحانه برفق وعدل لتَحكُموا بما أؤكد هنا، أنا أبوه، بأنّه حقيقيّ.
لقد هيّأتُه لهذه الساعة لاستحقاق كونه ابن الشريعة التي سيتلقّاها. إنّه يَعرف الأحكام والتقاليد والقرارات وعادات القرطاس والطلاسم. إنّه يُجيد تِلاوة الصلوات والتبريكات اليومية. فهو يستطيع إذن، بمعرفته للشريعة ذاتها ولفروعها الثلاثة: “هيلاسيا” و “ميدراسك” و “آكادا”، أن يتصرّف كرجل. لأجل ذلك أَرغَب في التحرّر مِن مسؤوليّة تصرّفاته وأخطائه. فليكن منذ الآن مسؤولاً وفق الأحكام، ويَأخذ على عاتقه تَبِعات تقصيره بها. امتَحِنوه.»
«سوف نفعل. اقترب أيّها الصبيّ. ما اسمكَ؟»
«اسمي يسوع بن يوسف الناصريّ.»
«ناصريّ… هل تعرف القراءة إذن؟»
«نعم أيّها الحاخام، أعرف قراءة الكلمات، ما كُتِبَ منها وما اختبأ بين الكلمات ذاتها.»
«ما الذي تريد قوله؟»
«أريد القول بأنّني أُدرِك كذلك معنى الـمَثَل أو الرمز المستتر خلف الظاهر، مثل اللؤلؤة التي لا تُرى، لكنّها موجودة ضمن الصَّدَفة الضخمة المغلقة.»
«إجابة غير مألوفة، وهي حكيمة جدّاً. نادراً ما نسمع ذلك مِن بالغ، وثمّ مِن طفل… وفوق كلّ ذلك ناصريّ!»
لقد شدَّ انتباه العشرة حتّى لم تعد عيونهم تحيد لحظة عن هذا الطفل الأشقر الجميل الذي يَنظر إليهم واثقاً مِن نفسه، إنّما دون مجابهة، ولكن دون خوف.
«إنّكَ تُشَرِّف معلّمكَ الذي هو، بكلّ تأكيد، عالِم كبير.»
«حكمة الله تستوطن قلبه المستقيم.»
«ولكن اسمعوا! ما أسعدكَ أباً لهكذا ابن!»
يوسف الذي في صدر القاعة يبتسم وينحني.
يُدفَع ليسوع بلفائف ثلاث مختلفة، ويُقال له: «اقرأ ما في اللفافة ذات الشريط الذهبي.»
يَفتَح يسوع اللفافة ويقرأ. إنّها الوصايا العشر. إنّما بعد الكلمات الأولى يَأخذ منه أحد الحُكّام اللفافة قائلاً: «أَكمِل غيباً.» فيتلوها يسوع بثقة كبيرة حتّى لتحسبه يقرأها. وكان في كلّ مرة ينطق اسم الربّ ينحني انحناءة كبيرة.
«مَن عَلَّمَكَ هذا؟ ولماذا تقوم به؟»
«لأنّ هذا الاسم قدّوس، ويجب أن نلفظه مصحوباً بكلّ دلالات الاحترام الداخليّة منها والخارجيّة. فإذا كان الماثلون أمام مَلِك، هو ليس كذلك إلاّ لزمن قليل، ينحنون، وهو ليس سوى غبار. فأمام مَلِك الملوك، ربّ إسرائيل العالي، الحاضر حتّى ولو لم يره سوى الروح، يجب أن تنحني كلّ المخلوقات التابعة له بخضوع أزليّ.»
«أحسنتَ! ننصحكَ أيّها الرجل بأن تُتلمذ ابنكَ على يد هيليل أو جملائيل. إنّه ناصريّ… ولكنّ إجاباته تُؤمِل بأن يُصبِح حَبراً كبيراً جديداً.»
«لقد بَلَغَ ابني السنّ، وهو سيفعل ما يشاء. بالنسبة إليَّ، إذا ما أراد ذلك بشكل جادّ فلن أمانع.»
«اسمع أيّها الصبيّ. لقد قلتَ: “تذكّر تقديس الأعياد. ولكن ليس أنتَ فقط، إنّما ابنكَ وابنتكَ وخادمكَ وخادمتكَ كذلك، وحتّى الحيوانات القَيِّمة قيل بعدم شغلها أيام السبت”. إذاً قُل لي: إذا باضت دجاجة بيضة أو إذا وَضَعَت نعجة حَمَلاً يوم السبت، فهل يُسمَح باستخدام ثمرة أحشائها، أم بالأحرى يجب اعتباره مُنكَراً؟»
«أَعلَم أنّ حاخامِين كثيرين -آخرهم سياماي، وهو ما يزال حيّاً- يؤكّدون أنّ بيضة يوم السبت لم تحترم الأحكام. ولكنّني أظنّ أنّ الإنسان يختلف عن الحيوان أو الذي يقوم بعمل حيوانيّ كالوضع. فلو أرغَمتُ حيواناً على الشُّغل، أتحمّل أنا خطيئته لأنّني استخدَمتُ نفسي لإجباره على العمل تحت ضغط السّوط. إنّما لو باضت دجاجة بيضة نمت في مبيضها، أو إذا وَضَعَت نعجة يوم السبت لأنّ الأوان قد حان ليرى حَمَلها النور، فلا؛ إنّ هذا العمل ليس خطيئة لا في ذاته ولا في عينيّ الله، إذ لا البيضة ولا الحَمَل اللذين أتيا يوم السبت قد تلطّخا بالخطيئة.»
«لماذا إذاً؟ طالما كلّ عمل يتم أثناء السبت هو خطيئة؟»
«لأنّ الحَمْل والولادة متعلّقان مباشرة بإرادة الله الذي نَظَّمَهُما بحسب قوانين وَضَعَها لكلّ خليقته. فالدجاجة لا تقوم بغير الطاعة لهذا القانون الذي يُحدّد مسبقاً عدد الساعات بعد التَّشكُّل التي ستكون البيضة بعدها كاملة وجاهزة للإباضة. وكذلك النّعجة لا تقوم بغير الطاعة لهذا القانون الموضوع مِن قِبَل الذي صَنَعَ كلّ شيء.
لقد رَتَّبَ الخالق أن تطيع النّعاج غرائزها مرّتين في العام، مرّة عندما تُقبِل بسمة الربيع إلى الحقول الـمُزهِرة، وأخرى عندما تفقد الأشجار أوراقها، ويَعصر البرد صدر البشر، وذلك كي تعطي في المرحلة التالية الحليب واللحم والجبن المغذّي في الأشهر الأكثر تعباً بسبب جني المحاصيل، أو الأكثر قفراً بسبب الصقيع. فإذا وَضَعَت نعجة حَمَلها عندما يحين الوقت، فيمكن اعتبار وَليدها مقدّساً حتّى للهيكل لأنّه ثمرة طاعة للخالق.»
«بالنسبة لي، فأنا أتوقّف عن امتحانه لأنّ حكمته تفوق حكمة البالغين.»
«لا. فلقد قال كذلك إنّه قادر على فهم الرموز أيضاً، فلنستمع إليه.»
«ليتلُ لنا مزموراً والتبريكات والصلوات.»
«وأيضاً الأحكام.»
«نعم اتلُ “المدراش” (Les midrasciot).» (طريقة تعلّم الشّرائع، ومنها كلمة مدرسة)
يَعرض يسوع برباطة جأش مجموعة مِن «لا تفعل هذا… لا تَقم بذاك…» ولو كان ينبغي لنا تحمُّل كلّ هذه القيود، نحن المتمرِّدين، أؤكّد لكم أنّ لا أحد سيخلص…
«يكفي. افتح اللفافة ذات الشريط الأخضر.»
يَفتَح يسوع ويَشرَع بالقراءة.
«بعد ذلك، بعد ذلك.»
يطيع يسوع.
«يكفي، اقرأ واشرح لو بدا لكَ وجود رمز.»
«في كلام الكتاب المقدّس نادراً ما لا يوجد، إنما نحن الذين لا نُحسِن اكتشافه وتطبيقه. أقرأ: سِفر الملوك الرابع، الفصل الثاني والعشرون، الآية العاشرة: “وأخبَرَ شافان الكاتب الـمَلِك وقال: لقد دَفَعَ إليَّ حلقيا الكاهِن سفراً وقرأته أمام الـمَلِك. فلما سَمِعَ الـمَلِك كلام شريعة الربّ مَزَّق ثيابه ثمّ أعطى… “»
«تجاوز الأسماء.»
«”هذا الأمر: اذهبوا واسألوا الربّ لي وللشعب ولجميع يهوذا مِن جهة كلام هذا السفر الذي وُجِد، لأنّه عظيم هو غضب الربّ الذي اضطَرَم علينا لأجل أنّ آباءنا لم يَسمَعوا لكلام هذا السفر ليَعمَلوا بكلّ ما كُتِب علينا…”»
«هذا يكفي. لقد جرى هذا منذ قرون كثيرة قبلنا. فما الرمز الذي تَجِده في مجريات هذه الأخبار التاريخية القديمة؟»
«أرى أن لا نحدّ في زمن ما هو أزليّ. فأزليّ هو الله وكذلك نَفْسنا. وأزليّة هي العلاقات بين الله والنَّفْس. وما أوجب آنذاك العقوبات هو ذاته يُوجِبها الآن. ونتائج الخطأ تبقى ذاتها.»
«ما الذي تريد قوله؟»
«لم تعد إسرائيل تعرف الحكمة المتأتّية مِن الله. فمِنه، وليس مِن البشر المساكين، يجب طَلَب النور، وما مِن نور بدون البرارة والاستقامة والإخلاص لله. إذاً: نحن نخطئ والله في غضبه يُعاقِب.»
«ألم يعد لدينا عِلم؟ ولكن ماذا تقول أيّها الصبيّ؟ والأحكام الستّمائة والثلاثة عشر؟»
«تُوجَد أحكام ولكنّها ليست سوى حبر على ورق. نحن نعرفها ولكنّنا لا نضعها مَوضع التطبيق. إذن فنحن لا نعرفها. والرمز هو ذاك: كلّ إنسان في كلّ زمن هو في حاجة إلى سؤال الربّ لمعرفة مشيئته فيلتزم بها لكي لا يَجلب لنفسه غضبه.»
«الوَلَد كامل. حتّى فخ السؤال الـمُخادِع لم يهزّ إجابته. فلنأخذه إلى المجمع الحقيقيّ.»
يَنتَقِلون إلى قاعة أوسع وأكثر زينة. وهنا أوّل ما قاموا به هو قص شعره. ويأخذ يوسف التقصيبات. ثمّ يقومون بتزنير ثوبه الأحمر بحزام طويل يلف خصره عدّة مرات. ثمّ يُعلِّقون له رايات على جبهته وذراعيه وعلى معطفه، مثبّتين إيّاها بأنواع مِن الدبابيس. ثمّ يُرَتِّلون مزامير بينما يُمجّد يوسف الربّ بصلاة طويلة ويَستَنزِل كلّ البركات على الابن.
ينتهي الاحتفال ويَخرج يسوع مع يوسف ليعودا إلى المكان الذي أتيا منه، حيث يجتمع رجال العائلة ويشترون حَمَلاً ليُقَدَّم، ومِن ثمّ مع التقدمة المذبوحة يُلاقون النساء.
تُقبِّل مريم يسوعها حتّى لتحسبها لم تره منذ سنوات. إنّها تَنظُر إليه الآن وهو يرتدي الثوب وشعره شعر رجل، إنّها تُداعِبه.
يَخرجون جميعاً. تلك هي النهاية.