25- ختان المعمدان | قصيدة الإنسان – الإله

1٬433
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

25- ختان المعمدان

04 / 04 / 1944

أرى البيت وكأنّ فيه عِيداً. إنّه يوم الخِتان. تَحرص مريم على أن يبدو كلّ شيء جميلاً في مظهره ومرتّباً. فالغُرَف تتلألأ بالضياء، وكذلك الأقمشة الجميلة والمفروشات الحلوة، إنّه رونق وروعة. يوجد كثير مِن الناس.

مريم تتنقّل، رشيقة بين الجموع، بهيّة في ثوبها الأبيض الرائع الجمال.

أليصابات وَقورة كامرأة مُسِنّة مهيبة، تستمتع بمتعة العيد. الطفل على صدرها وقد شبع مِن الحليب.

حان موعد الخِتان.

يقول الرجال: «سنسمّيه زكريّا. فأنتَ قد شختَ ومِن الأفضل أن يُعطى اسمكَ لابنكَ.»

تصرخ الأُمّ: «أبداً. فاسمه هو يوحنّا. يجب أن يكون اسمه شهادة لقُدرة الله.»

«ولكن منذ متى واسم يوحنّا هذا في عائلتنا؟»

«لا يهمّ. يجب أن يُسمَّى يوحنّا.»

«ما هو قولكَ يا زكريّا؟ أنتَ تريد أن يَحمل اسمكَ، أليس كذلك؟»

يُشير زكريا بِلا. ثمّ يَأخذ اللوح ويَكتب: “اسمه يوحنّا”. وما أن يُنهي كتابة هذا حتّى ينطَلِق لسانه ويُضيف: «بما أنّ الله قد أَغدَقَ بنعمته الكبيرة عليَّ أنا أبيه، وعلى أُمّه، وعلى هذا الصغير خادمه الجديد الذي سيُمضِي حياته بالفعل في تمجيد الربّ، وسيكون اسمه عظيماً في الأجيال القادمة وفي عينيّ الله، لأنّ مهمّته ستكون هِداية القلوب إلى الربّ العلي. هكذا قال الملاك وأنا لم أؤمن به. ولكنّي الآن أنا أؤمن وقد امتلأتُ مِن النور. إنّه بيننا وأنتم لا تَرونه. مصيره أن يبقى مجهولاً لأنّ نفوس الناس مُثقَلة ونائمة. ولكنّ ابني سيراه وسيتكلّم عنه ويُحوِّل قلوب أبرار إسرائيل نحوه.

آه! طوبى لمن سيؤمنون به ويؤمنون دائماً بكلمة الربّ. وأنتَ أيّها الإله الأزليّ، لتكن مباركاً يا إلـه إسرائيل لأنّكَ زرتَ وافتـديتَ شعبكَ بإرسـالكَ له مُخَلِّصاً قادراً مِن آل داود خادمه. كما وَعَدتَ بفم الأنبياء القدّيسين منذ الأزمنة القديمة أن تُحرّرنا مِن أعدائنا ومِن أيدي مُبغِضينا. لتَمنَح رحمتكَ لآبائنا وتُظهِر أنّكَ لا تنسى عهدكَ المقدّس كما عاهدت أبانا إبراهيم: أن تَهِبنا أن نخدمكَ دون خوف، ومُحرَّرين مِن أيدي الأعداء بالقداسة والبرّ بحضوركَ كلّ أيّام حياتنا.» ويُكمِل هكذا حتّى النهاية.

أمّا الحضور فقد أخَذَهم الذهول: للاسم، للمعجزة، وللكلام الذي تفوَّهَ به زكريّا.

ما أن نَطَقَ زكريا كلمته الأولى حتّى زغردت أليصابات فَرَحاً، وبكت، بينما عانَقَتها مريم بفرح.

حُمِل الطفل إلى مكان آخر مِن أجل الخِتان. وعندما أُعيد كان يوحنّا الصغير يصرخ بملء صوته. حتّى حليب أُمّه لم يُهدئه. كان يتخبط مثل الصوص. فما كان مِن مريم إلّا أن أَخَذَته وهَدهَدَته فصَمَت وسَكَن.

فتقول سارة: «عجباً، انظروا! إنّه لا يَصمُت إلا حينما تَحمله!»

يَمضي الناس على مهل. ولا يبقى في الغرفة سوى مريم تحمل الطفل بين ذراعيها وأليصابات المفعَمَة فَرَحاً.

يَدخُل زكريّا ويُغلِق الباب. يَنظُر إلى مريم والدموع في عينيه. يريد التكلّم ولكنّه يُؤثِر الصمت. يتقدّم، يَركَع أمام مريم ويقول لها: «بارِكي خادم الربّ البائس. بارِكيه فأنتِ تستطيعين ذلك لأنّكِ تحملينه في أحشائكِ. كلمة الربّ قالت لي ذلك عندما اكتشفتُ خطيئتي وآمنتُ بكلّ ما قيل لي. أراكِ وقَدَرُكِ السعيد. أعبد فيكِ إله يعقوب، أنتِ هيكلي الأوّل حيث الكاهن الأوّل الذي أصبَحَ الآن مُدرِكاً يستطيع الآن الصلاة للأزليّ.

مباركة أنتِ يا مَن نلتِ نعمة للعالم وحَمَلتِ له المخلّص. اغفري لخادمكِ إن لم يلحظ مِن الوهلة الأولى عَظَمَتكِ، فإنّكِ قد جَلَبتِ لنا بقدومكِ كلّ النِّعم، لأنّكِ أينما ذهبتِ، يا ممتلئة نعمة، يَصنَع الله العجائب، ومقدّسة هي الجدران التي تَدخُلينها، مقدّسة هي الآذان التي تَسمَع صوتكِ، والأجساد التي تلمسينها. مقدّسة القلوب لأنّكِ تَمنَحين النِّعم يا أُمّ الله تعالى، العذراء التي تَكلَّمَ عنها الأنبياء والمنتَظَرة لتَمنَح المخلّص لشعب الله.»

تبتسم مريم مُضطَرِمة بالتواضع وتقول: «التسبيح للربّ، له وحده. فمنه، لا منّي تأتي كلّ نعمة. وهو الذي مَنَحَكَ نعمته لتحبّه وتخدمه بالكمال بقيّة أيّام حياتكَ، لتستحقّ ملكوته الذي سيَفتَح ابني أبوابه للآباء والأنبياء وأبرار الربّ. وأنتَ يا مَن تستطيع أن تصلّي الآن أمام قدس الأقداس، صلِّ مِن أجل خادمة العليّ، لأنّ كوني أُمّ ابن الله، فهو قَدْر السعادة، أمّا كوني أُمّ الفادي، فهو قَدْر الآلام الفظيعة. صلِّ لأجلي، أنا التي أُحِسُّ ساعة بعد ساعة بتعاظُم ثِقل الألم.

وهذا ما يجب أن أحمله حياة بأكملها. وإذا كنتُ لا أرى التفاصيل، إلاّ أنّني أُحِسُّ أنّه حِمل أثقل مما لو كان العالم كلّه موضوعاً على كَتِفَيَّ كامرأة، وأنّه ينبغي لي أن أرفعه إلى السماء. أنا، أنا وحدي، المرأة المسكينة! ابني! وَلَدي! آه! في الوقت الحاضر، إن حَمَلتُ ابنكَ وهَدهَدتُه يتوقّف عن البكاء. ولكن هل سأستطيع هَدهَدة ابني لأُسكّن ألمه؟… صلِّ لأجلي يا كاهن الربّ. قلبي يرتعد مثل زهرة في قلب زوبعة. أَنظُر إلى الناس وأحبّهم، ولكن خلف وجوههم أراه يَظهَر، العدوّ، بـل فعليّاً أعداء الله ويسوع ابني…»

وتبدأ الرؤيا بالتلاشي مع رؤية شحوب مريم ودموعها حيث تتألّق نظرتها.


تقول مريم:

«يَغفر الله لمن يعرف خطأه ويندم عليه ويَعتَرِف بتواضع وبقلب صادق. إنّه لا يغفر وحسب: إنّه يُكافِئ. آه! كم هو طيّب ربّي تجاه المتواضِع والصادق! تجاه مَن يؤمن به ويتّكل عليه! أزيلوا مِن نفوسكم كلّ ما مِن شأنه أن يعيقها ويجعلها خامدة. هَيّئوها لتستقبل النور. كالمنارة في الظلام. سيكون لكم مُرشِداً ومؤاسياً مقدّساً.

الصداقة مع الله، غبطة الذين يُخلِصون له، غنى لا يعادله شيء، مَن يمتلككِ لا يبقَ وحيداً ولا يحسّ مرارة اليأس. إنّكِ لا تلغي الألم، يا مَن أنتِ الصداقة المقدّسة، لأنّ الألم كان مصير الإله المتأنّس، ويمكنه أن يكون مصير الإنسان. ولكنّكِ تجعلين هذا الألم حلواً في مرارته، فإنّكِ تمزجين فيه الضياء والملاطفة اللَّتَين، مثل لمسة سماويّة، ترتقيان بالصليب.

وعندما يمنحنا الصلاح الإلهيّ نِعمة، فلنستخدم الخير الذي نتلقّاه لتمجيد الله. ولا نكن مجانين نجعل مِن الغَرَض النافع سلاحاً ضارّاً، أو مثل السفهاء الذين يُحوّلون غناهم إلى شقاء.

كثير هو الألم الذي تسببوه لي، يا أولادي، خلف الوجوه التي تكشف لي عن العدوّ الذي ينقضّ على يسوعي. ألم عظيم! أرغب في أن أكون للجميع نبع النِّعم. ولكن الكثيرين منكم يرفضون النّعمة. تطلبون “النِّعم” ولكن بنفس لا تحوي النِّعمة. وكيف ستنجدكم النِّعمة إذا كنتم أعداءها؟

السرّ العظيم للجمعة المقدسة يقترب. كلّ شيء في الهيكل يُذكِّر به ويَحتَفل به. إنّما ينبغي لكم أن تحتفلوا به وتتذكّروه في قلوبكم، وأنتم تقرعون صدوركم مثل الذين كانوا نازلين مِن الجلجلة وتقولون: “إنّه حقّاً ابن الله المخلّص” وأيضاً: “يا يسوع باسمكَ خَلِّصنا” وكذلك: “أيّها الآب اغفر لنا” وأخيراً: “ربّي أنا لستُ أهلاً، ولكن لو غفرتَ لي وأتيتَ إليَّ فسَتَبرأ نفسي، ولا أريد، لا ولن أريد الخطيئة لكي لا أعود إلى الشرّ والكُره تجاهكَ.”

صَلّوا يا أبنائي بكلمات ابني. قولوا معه للآب مِن أجل أعدائكم: “أيّها الآب اغفر لهم”. نادوا الآب الذي خَرَجَ منكم مغتاظاً بسبب أخطائكم: “أبتي، أبتي، لماذا تَركتَني؟ أنا خاطئ ولكن إذا تَركتَني فسأهلك. عُد أيّها الآب القدّوس لأخلص”. اتَّكِلوا على الوحيد الذي يستطيع أن يحفظ خيركم الأبديّ، روحكم، في مأمن مِن ضربات الشيطان: “أيها الآب، بين يديكَ أستَودِع روحي”.

آه! إذا استودعتم روحكم بكلّ تواضع وقلب مُحِبّ بين يدي الله، فإنّه يقودكم كما يقود الأب ابنه ولا يسمح بأن يَغبنه شيء. يسوع عند نزاعه صلّى ليُعَلِّمكم كيفية الصلاة. أُذَكِّركم بها في أيّام آلامه هذه.

وأنتِ يا ماريا، أنتِ يا مَن تَرَين فيَّ فرح الأمومة وأنتِ مندهشة بها، أعيدي إلى ذاكرتكِ هذه الفكرة: لقد امتلكتُ الله مِن خلال آلام متزايدة باستمرار. لقد نَزَلَ إليَّ مِن مبدأ حياة الله، ومثل شجرة عملاقة كَبر حتّى لامَسَ السماء بقمّتها والجحيم بأساساته. حينها تلقّيتُ على صدري الجثّة الهامدة للجسد الذي مِن جسدي، حيث رأيتُ وعَدَدتُ التمزُّقات الوحشيّة، ولمستُ قلبه الذي كان قد اختُرِق بطعنة ليستنفذ الألم حتّى آخر قطرة مِن دمه.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.