14- زواج العذراء ويوسف | قصيدة الإنسان – الإله

2٬261
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

14- زواج العذراء ويوسف

05 / 09 / 1944

يا لجمال مريم بثياب العرس بين زميلاتها ومعلّماتها اللواتي يحتفلن بها! وقد كانت أليصابات بينهنّ.

لباسها بأكمله كان مِن الكتّان الناصع البياض، الحريريّ الناعم، حتّى لكأنّه مِن الحرير النفيس. والنطاق مِن الذهب والفضّـة المشـغولين بالـمُنَقَّـش؛ صُنِعَ بأكمله مِن ميداليات متّصلة ببعضها بحلقات صغيرة، وكلّ ميداليـة هي عبارة عن زخرفـة مِن خيوط الذهب على دخيلة فضّية، أصبَحَت بُنّية بفعل الزمن.

إنّها طويلة، وهي ما تزال شابّة صغيرة، وقد كان النطاق يشدّ خصرها النحيل فتتدلّى مِن الأمام الميداليات الثلاث الأخيرات. تغوص بين ثنيات الثوب الفضفاض جدّاً ذي الرفل (الذيل) القصير، بقدر ما هي طويلة… وفي قدميها الصغيرتين حذاء مِن الجلد الأبيض الناصع تزيّنه حلقات فضّية.

عند العنق، يُحصَر الثوب بسلسال مِن الوُرَيدات الذهبيّة ذات الزخارف السلكيّة الفضيّة، تتَّخِذ صيغة وروح النطاق، إنّما بشكل مصغّر، ويمرّ عبر التخريمات الواسعة في حفرة العنق الواسعة ليجمع الثنيات فتشكّل نوعاً من الكشكش. عنق مريم يظهر مِن خلال بياض الثنيات مع كياسة ساق القَبّة المغلفة بنسيج شفاف ثمّين، ويبدو أكثر نعومة وبياضاً: ساق زنبق يتفتّح بوجه زنبقيّ أكثر شحوباً مِن التأثّر وأكثر طهراً. وجه ذبيحة قربان طاهرة جدّاً.

لم يعد شعرها على كتفيها. لقد صُفِّف بدقّة بجدائل نصف معقودة بمشابك ثمّينة مِن الفضّة الضاربة إلى اللون البنّي، والمشغولة بتزيينات سلكيّة تُثَبِّتها ابتداء مِن القمّة. وشاح أُمّها موضوع على هذه الجدائل، ويعود ليتدلّى مُشكّلاً ثنيات حلوة تحت شريطة القصب النفيسة التي تشدّ الجبهة الناصعة البياض وينزل حتّى الوركين، ويتجاوزهما لأنّ مريم لم تكن بطول أُمّها؛ بينما كان على حنّة يتوقف عند النطاق.

لم تضع شيئاً في يديها، أمّا في معصميها فأساور والدتها التي تكاد تقع أرضاً لو حرّكتهما نتيجة نعومة قبضتيها مِن جهة، ووزن الأساور التي انزلقَت حتّى أعلى اليدين، مِن الجهة الأخرى.

تَنظُر رفيقاتها إليها مِن كافّة الاتّجاهات بإعجاب، أصواتهنّ مثل زقزقة العصافير المرحة بطلباتهنّ وهتافات الإعجاب.

«هل كان هذا لأُمّكِ؟»

«قديم حقيقيّ؟»

«كم هو جميل هذا النطاق، سارة!»

«وهذا الوشاح يا سوسن؟ انظري إلى هذه الدقّة وهذه الزنابق المطرّزة على الحبكة!»

«أريني الأساور يا مريم! هل كانت لوالدتكِ؟»

«أُمّي، كانت تَلبَسها. إنّما هي في الأصل لأُمّ أبي يواكيم.»

«آه! انظري. فيها خاتم سليمان متشابك مع سعف نخل صغيرة وأغصان زيتون، تتخلّلها زنابق وزهور. آه! مَن أنجَزَ هذا العمل العظيم والدقيق لهذه الدرجة؟»

فتقول مريم مُفَسِّرة: «إنّها مِن بيت داود. تتناقل النساء هذه الحليّ مِن جيل لجيل، تلبسها عند الزواج، ثمّ تنتقل بالإرث.»

«حقّاً! إنّكِ فتاة وارثة…»

«هل جَلَبَ لكِ كلّ شيء مِن الناصرة؟»

«كلّا. عندما ماتت أُمّي، حَمَلَت نسيبتي هذا الجهاز إلى بيتها لتحفظه مِن التَّلَف. وقد جلبَتهُ لي الآن.»

«أين هو؟ أين هو؟ أريه لصديقاتكِ.»

لم تعرف مريم كيف تتصرّف… أرادت أن تكون مُجامِلة، ولكنّها أرادت كذلك ألّا تُخَرِّب ترتيب كلّ أغراضها المرتّبة في صناديق ثلاثة ثقيلة. تتدخّل المعلّمات لمساعدتها: «العروس على وشك الوصول. فالوقت ليس وقت بعثرة. اتركنها، إنكنّ تتعبنها، اذهبن وهيّئن أنفسكنّ.»

يبتعد سرب المثرثرات بقليل مِن الاستياء. وأصبَحَ باستطاعة مريم أن تفرح بهدوء مع معلّماتها اللواتي يمدحنها ويباركنها.

تدنو أيضاً أليصابات. تتأثّر مريم وتبكي عندما تناديها حنّة التي لفانوئيل: «ابنتي» وتُقَبِّلها بإحساس الوالدة الحقيقيّ. وتقول لها أليصابات: «يا مريم، إنّ أمّكِ ليسَت هنا، ومع ذلك فهي موجودة. روحها تتهلّل فرحاً قرب روحكِ. انظري: إنّ ما تلبسينه مِن آثارها يعيد لكِ مداعبتها، وتجدين فيه أيضاً طعم قبلاتها… منذ زمن، في اليوم ذاته الذي أتيتِ فيه إلى الهيكل، قالت لي: “لقد هيّأتُ لها ثياب وجهاز عرسها. أريد أن أكون أنا مَن يَنسج لها الكتان ويخيط أثواب العروس، كي لا أكون غائبة يوم فَرَحها.”

وهل تدرين؟ في أواخر أيّامها، عندما كنتُ أعتني بها، كانت تودُّ مداعبة أثوابكِ الأولى كلّ مساء، وكذلك الأثواب التي تلبسين الآن. كانت تقول: “أشمّ فيها رائحة ياسمين صغيرتي، وأريد أن تحسّ فيها قبلة أُمّها.” كَم مِن القبلات في هذا الوشاح الذي يظلّل جبهتكِ! إنّها أكثر مِن الخيوط!… وعندما ستلبسين الثياب التي خاطتها، فكّري أنّ نصيب الصنعة فيها أقلّ مِن نصيب حبّ أُمّكِ.

وهذه العقود… قد أنقَذَها والدكِ أثناء ساعات النكبة ذاتها مِن أجل حبّكِ، لتجمّلكِ كما يليق بأميرة مِن نسل داود، في ساعة كهذه. كوني سعيدة يا مريم. لستِ يتيمة لأنّ أهلكِ معكِ. وَلديكِ عروس هو لكِ الأب والأُمّ، كم هو عظيم!…»

«آه! نعم! بالحقيقة! إنّ ممّا لا شكّ فيه، هو أنّني لا أستطيع التشكّي منه. ففي أقلّ مِن شهرين جاء مرّتين إلى هنا، واليوم يأتي للمرّة الثالثة متحدّياً المطر والرياح ليسألني عن أوامري… تصوّري: أوامري! أنا المرأة المسكينة، وكم أنا أصغر منه! ومع ذلك لم يرفض لي طلباً.

حتّى إنّه لا ينتظر أن أَطلُب. يبدو أنّ ملاكاً ينقل إليه رغباتي، فيحدثّني عنها حتّى قبل أن أفتح فمي. ففي المرّة الأخيرة قال لي: “مريم، أظنّكِ تفضّلين الإقامة في منزلكِ الوالديّ. بما أنّكِ الوريثة، يمكنكِ ذلك لو أردتِ. وسآتي أنا إلى منزلكِ، إنّما فقط للحفاظ على العرف والتقاليد، ستمضين أسبوعاً في بيت حلفا، أخي. إنّ مريم تحبّكِ كثيراً. وعشيّة العرس ينطلق الموكب مِن هناك ليوصلكِ إلى المنزل.”

أليس هذا لطفاً منه؟ لا يهمّه أبداً أن يقول الناس إنّ بيته لا يعجبني… بينما أنا فقد كان بيته يعجبني على الدوام بسببه هو، فهو طيّب جدّاً. ولكنّني، بكلّ تأكيد… أُفَضِّل منزلي… بسبب الذكريات… آه! إنّ يوسف لطيّب!»

«ماذا قال عن نذركِ؟ لم تُعلِميني بعد عن ذلك.»

«لم يُبد أي اعتراض. ولكنّه عندما عرف الأسباب قال: “سأضمّ تضحيتي إلى تضحيتكِ”.»

فقالت حنّة التي لفانوئيل: «حقّاً إنّه شابّ قدّيس.»

في هذه اللحظة يَدخُل “الشابّ القدّيس” بصحبة زكريّا. إنّه رائع حقّاً. باللباس الكامل الأصفر الذهبيّ، الذي يبدو فيه كَمَلِك شرقيّ. نِطاق خلّاب يحمل محفظة نقوده وخنجره، الأولى مِن الجلد بتوشيات ذهبيّة، والآخر أيضاً في غمد جلدي بخطوط ذهبيّة. على رأسه عمامة، كسوة رأس منسوجة كقبّعة، تشبه تلك التي ما تزال تلبسها بعض شعوب أفريقيا، البدو مثلاً، مثبّتة في مكانها بحلقة ذهبيّة دقيقة ترتبط بها طاقات مِن الآس. ويلبس معطفاً جديداً بأهداب يتدثّر به بجلال. عيناه تطفحان سروراً. وبين يديه باقات مِن الآس المزهر.

يُلقي التحيّة: «السلام لكِ يا عروستي! السلام للجميع!» وبعد أن يردّوا عليه التحيّة، يتابع: «رأيتُ فرحكِ يوم حملتُ لكِ الغصن مِن حديقتكِ. وفكّرتُ أن أحمل لكِ الآس الذي ينبت قرب المغارة التي تحبّين. كنتُ أريد أن أحمل إليكِ زهوراً بدأَت تتفتّح قرب البيت، ولكنّ الزهور لا تدوم طوال أيّام السفر… لم تكن لتصل إليكِ سوى أشواك، بينما لا أريد أن أقدّم لكِ يا محبوبتي سوى الزهور، وأريد أن أفرش لكِ الطريق زهوراً ناعمة وعَطِرة لكي تستطيعي وضع أرجلكِ عليها دون أيّة قذارة أو مضايقة.»

«آه! الشكر لكَ، كم أنتَ طيّب! إنّما كيف استطعتَ إيصالها وهي نديّة هكذا؟»

«لقد رَبَطتُ مزهريّة إلى السرج ووضعتُ داخلها الأغصان التي ما زال الزهر فيها بعد على شكل براعم. وقد تفتَّحَت طوال الطريق. ها هي يا مريم، ولتتزيّن جبهتكِ بإكليل الزهر رمز الطهارة ورمز الزوجة، ولكنّ طهارته أدنى كثيراً مِن طهارة قلبكِ.»

تزيّن أليصابات مع المعلّمات مريم بإكليل الزهور. تشكّلنه بتثبيته على الحلقة النفيسة التي تُمنطِق جبهتها بالتناوب، طاقة آس بيضاء ثمّ وردة بيضاء أُخِذَت مِن مزهرية موجودة على صندوق… وهكذا. أصبَحَت مريم الآن جاهزة لارتداء معطفها الفضفاض لوضعه على أكتافها، إلاّ أنّ عروسها يتحرّك ويساعدها على تثبيت المعطف في أعلى الكتفين بدبّوسين فضّيين. وتُرتّب المعلّمات الثنيات برعاية وحبّ.

أصبَحَ كلّ شيء جاهزاً. أثناء انتظار لستُ أدري ماذا، يقول يوسف بعد أن يتنحّى مع مريم قليلاً: «لقد فكّرتُ بنذركِ طوال هذا الوقت، ولقد قلتُ لكِ إنّني أشارككِ به، ولكنّني كلّما فكّرتُ به أُدرِك أنّ النذر المؤقّت لا يكفي حتّى ولو تجدّد عدّة مرّات. لقد فهمتكِ يا مريم. لستُ أستحقّ بعد كلمة النور، إلّا أن همساً أتاني. وهذا ما جعلَني أقرأ سرّكِ، أقلّه في خطوطه الأكثر قوّة.

أنا جاهل مسكين، يا مريم. أنا عامل مسكين. لا أعرف الحروف ولا أملك الكنز. إلّا أنّني أضع كنزي عند قدميكِ للأبد: عفّتي الـمُطلَقَة؛ لأكون أهلاً للبقاء بقربكِ، يا عذراء الله، “الأخت عروستي، الحديقة المغلقة، الينبوع المختوم”، كما قال أحد الأجـداد الذي يمكن أن يكـون قد كَتَبَ النشـيد وهو ينظر إليكِ أنتِ…

وسأكون البستانيّ في بستان العطور هذا، حيث توجَد الثمّار الأكثر قيمة، ومِن حيث يتدفّق نبع ماء الحياة باندفاع عذب: وداعتكِ يا عروستي، التي اجتاحت روحي ببراءتكِ، أيّتها الجميلة. الجميلة أكثر مِن الفجر، الشمس المشعّة، ذلك أنّ قلبكِ هو الذي يشعّ، أنتِ يا مَن بمجملكِ حُبّ لإلهكِ وللعالم الذي تريدين أن تعطيه المخلّص بتضحيتكِ كامرأة. تعالي يا محبوبتي.»

يُمسك بيدها بلطف ويقودها إلى الباب. يتبعهما الجميع، وفي الخارج تُقبِل رفيقاتها لينضممن إلى الاحتفال، بلباس أبيض بالكامل، وكذلك بالوشاح.

يَمضون عبر الساحات والأروقة وسط الجموع التي تراقبهم، إلى مكان ليس بالهيكل، ولكنّه يبدو أنّه غرفة مكرّسة للعبادة. بالفعل، هناك مصابيح وقرطاس كما في المجامع. يتقدّم العروسان حتّى يَصِلا إلى مَقرأ مرتفع، نوع مِن المنابر، وينتظران. ويصطفّ الآخرون خلفهما. كَهَنَة آخرون وبعض الفضوليّين في الداخل.

ويَدخُل كبير الكَهَنَة بشكل احتفاليّ.

ويدور الهمس بين الفضوليّين: «أهو الذي سيزوّجهما؟»

«نعم، فهي مِن أصل مَلَكيّ وكَهَنوتيّ، زهرة داود وهارون. العروسة هي إحدى عذارى الهيكل. وعروسها مِن نسل داود.»

يضع الكاهن يد العروسة اليمنى في يد عروسها ويباركهما بمهابة: «فليكن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب معكما، ليوحّدكما ويحقّق بكما بركته بإعطائكما سلامه وخَلَفاً كثيراً وحياة طويلة وميتة صالحة في أحضان إبراهيم.» ثمّ ينسحب بشكل احتفاليّ كما دَخَل.

يتبادلان الوعود، فمريم هي الآن زوجة يوسف.

يَخرُج الجميع بشكل منتظم ويذهبون إلى غرفة يُكتَب فيها عقد الزواج ويُعلَن أنّ مريم وريثة يواكيم بن داود وحنّة بنت هارون قد دَفَعَت “دوطة” لزوجها بيتها مع ملحقاته وجهازها الخاص وأشياء أخرى ورِثَتها عن أبيها.

وينتهي كلّ شيء.

يَخرُج العروسان إلى الباحة، ثمّ يتوجّهان إلى المخرج، جانب مقرّ النساء العاملات في الهيكل. عربة ثقيلة مرتّبة جيّداً كانت في انتظارهما. إنّها مغطّاة بنسيج؛ وصناديق مريم الثقيلة هي الآن داخلها.

وداع وقبلات ودموع، مباركات ونصائح وتوصيات، ثمّ تَصعَد مريم مع أليصابات، وتَجلسان داخل العربة، بينما يجلس يوسف وزكريّا على المقعد الأماميّ. لقد خلعوا معاطف الاحتفال وتدثروا جميعاً عباءات داكنة. تمضي العربة، يجرها حصان كبير داكن اللون بمشيته الثقيلة.

تبتعد جدران الهيكل، ثمّ أسـوار المدينة، وها هي القرية المجدّدة النديّة والمزهرة بأوائل شمس الربيع، القمح المرتفع شبراً على الأقل، وهو يبدو بلون الزمرّد بأوراقه الفتيّة التي تتماوج بفعل نسمة خفيفة تحمل عِطر زهر الدرّاق والتفّاح والمشمش الهنديّ والنعناع البريّ.

تبكي مريم بهدوء خلف الستار الذي كانت تزيحه مِن وقت لآخر لتنظر إلى الهيكل الذي أضحى بعيداً، والمدينة التي تَرَكَتها.

وهكذا تنتهي الرؤيا.


يقول يسوع:

«ماذا جاء في سفر الحكمة عندما أنشَدَ مدائحها؟ “في الحكمة يوجد بالفعل روح الذكاء، مقدّساً، وحيداً، متعدِّداً، وثاقباً”. ويستمرّ في تعداد صفاتها، ويختَتم بهذه العبارات: “…تستطيع كلّ شيء وتتوقّع كلّ شيء وتستوعب كلّ النفوس، ذكيّة، طاهرة، وثاقبة الفكر. الحكمة تَلِج كلّ شيء بطهرها، إنّها فيض (نفحة) مِن روح الله… إذ ليس فيها ما هو غير طاهر… إنّها صورة عن الصلاح الإلهيّ. مع كونها وحيدة، فإن وحدتها تستطيع كلّ شيء؛ ومع كونها غير قابلة للتبدّل، فهي تُجدّد كلّ الأشياء. إنّها تتّحد بأرواح القدّيسين وتُشكّل أصدقاء الله والأنبياء.”

رأيتِ كيف أنّ يوسف، ليس بثقافته البشريّة، بل إنّما بمعرفته فائقة الطبيعة، عرف القراءة في الكتاب المختوم للعذراء المنزّهة عن كلّ عيب، وكيف يلامس برؤيته الحقائق النبويّة برؤية سرّ فائق البشر، حيث لا يَرَى الآخرون سوى فضيلة كبرى. مُشرَّباً بهذه الحكمة التي تنبعث مِن فضيلة الله، والتي هي انبثاق مِن القُدرة الكلّية، يتوجّه بروح مطمئنّ وواثق في بحر سرّ النعمة هذا الذي هو مريم، يلتقي بها في مبادلة روحيّة، حيث لم تتكلّم الشفاه، بل كانا نفسين يتبادلان الحديث في صمت الأرواح المقدّس، حيث لا يَسمَعان سوى صوت الله الذي لا يستقبله سوى المرضيّين لدى الله، لأنّهم يخدمونه بإخلاص وهم ممتلئون منه.

حكمة البارّ التي تنمو بالاتّحاد وبحضور كلّية النعمة، تهيئه للولوج في أسرار الله الأكثر سموّاً ليستطيع حمايتها والدفاع عنها ضدّ الشِّراك البشريّة أو الشيطانيّة. وقد كان كلّ هذا فرصة له للتجدّد. لقد جَعَلَت مِن البارّ قدّيساً، ومِن القدّيس حارساً لعروسة الله وابنه.

دون رفع خاتم الله، وهو العفيف الذي يحمل الآن عفّته إلى البطولة الملائكيّة، استطاع قـراءة الكلمة الناريّة المكتوبة على الماسة البتوليّة بإصبع الله، وقرأ عليها ما لم يُفصَح عنه لفطنته، إلاّ أنّه أعظم كثيراً مما قرأه موسى على الألواح الحجريّة. ولكي لا تَبتَذِل عين دنيويّة السرّ، وَضَعَ نفسه خاتماً على الخاتم، رئيس ملائكة على عتبة الفردوس الذي يجد فيه الأزليّ متعته “متمشّياً مع نسمة المساء”، ومتّحدثاً إلى التي هي حُبّه، غابة الزنبق الـمُزهِر، النسمة المعطّرة بالأريج، النسمة الصباحيّة النديّة، النجمة البهيّة، متعة الله.

حوّاء الجديدة موجودة هنا أمامه، هي ليست عظماً مِن عظامه، ولا لحماً مِن لحمه، ولكنّها شريكة حياته، تابوت عهد الله الحيّ الذي تولّى الوصاية عليه، والذي يتوجّب عليه إعادته إلى الله فيما بعد طاهراً كما استَلَمَه.

“عروسة الله”. هكذا كان مكتوباً في هذا الكتاب السرّيّ في الصفحات غير المدنَّسَة… وعندما عَصَفَ له الشكّ بالاختبار بآلامه المبرّحة، كرجل، وكخادم لله، تألّم كإنسان في العالم، لانتهاك القدسيّات بالشكّ. إنّما هذا كان اختبار المستقبل. أمّا في الوقت الحاضر، في زمن النعمة، فإنّه يَرى ويضع نفسه في الخدمة الحقيقيّة لله. إنّما بعدئذ ستأتي عاصفة الاختبار، كما لكلّ القدّيسين، ليجتازوا الامتحان ويُصبِحوا معاوني الله.

ماذا جاء في سفر الأحبار؟ “مُرْ هارون أخاكَ بأن لا يَدخُل القُدس في كلّ وقت، إلى داخل الحجاب، إلى أمام الغشاء الذي يغطّي تابوت العهد، لكيلا يموت، لأنّي متجلٍّ في الغمام فوق الغشاء، قُل له ألّا يدخل قبل أن يقوم بهذه الأفعال: يُقدِّم عجلاً مِن البقر كذبيحة عن الخطايا، وكبشاً للمحرقة، ويعود ليلبس قميصاً مِن الكتّان، وبالسراويل الكتّانية سيستر عريه.”

بالحقيقة، يَدخُل يوسف، عندما يريد الله، وبالقدر الذي يريده، إلى قدس أقداس الله، وراء الحجاب الذي يغطّي تابوت العهد الذي يرفرف فوقه روح الله، ويُقدّم نفسه، وسيُقدّم الحمل محرقة عن خطيئة العالم وكفّارة عن هذه الخطيئة. ويقوم بهذا وهو يرتدي الكتّان على جسده الذي أماته بنذره ليُبطِل الغرائز التي انتصرت يوماً في بداية الزمان، مُخلّة بأوامر الله للإنسان، وستُداس الآن في الابن وفي الأُمّ وفي الأب الذي بالتبنّي، ليعيد الناس إلى النعمة، وليعود لله حقّه على الإنسان. لقد فَعَلَ ذلك بعفّته الدائمة.

ألم يكن يوسف في الجلجلة؟ أيبدو لكم أنّه لم يكن بين المشاركين في عمليّة الفداء؟ الحقّ أقول لكم إنّه كان أوّل الموجودين، لذلك فهو عظيم في عينيّ الله. عظيم بالتضحية والصبر والثبات والإيمان. وأيّ إيمان أعظم مِن إيمان الذي آمَنَ دون أن يرى معجزات ماسيا؟

كلّ المديح لأبي بالتبنّي، الـمَثَل الأعلى لكم لما ينقصكم على الأغلب: الطهارة والإخلاص، والحبّ الكامل. للذي قَرَأَ بشكل رائع الكتاب المختوم، مُتثقِّفاً بالحكمة ليعرف كيفيّة إدراك أسرار النعمة. ذاك الذي اختاره الله ليحمي خلاص العالم ضدّ مكائد كلّ الأعداء.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.