35- سجود المجوس الثلاثة | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
35- سجود المجوس الثلاثة
28 / 02 / 1944
الذي يُخطِرني داخليّاً يقول لي:
«سمّي هذه التأملات التي ستَحصَلين عليها والتي سوف أقدّمها إليكِ: “أناجيل الإيمان” إذ إنّها، بالنسبة إليكِ وإلى الآخرين، ستأتي لتَضَع قُدرة الإيمان وثماره في النور، وتثبّتكم في إيمانكم بالله.»
أرى بيت لحم صغيرة وبيضاء بأكملها، مُجتَمِعة مثل فراخ صيصان جائعة تحت ضوء النجوم. هناك شارعان رئيسيّان يتقاطعان عموديّاً، الواحد قادم مِن ما قبل البلدة، وهي الطريق الرئيسيّة التي تمتدّ إلى ما بعد المدينة، والآخر يَقطَع المدينة عرضيّاً ولكنّه لا يتجاوزها.
وطُرُق أخرى صغيرة تقطع هذه البلدة الصغيرة دون أيّ أثر لمخطّط إجمالي كما يُستَدَلّ مِن ذلك، ولكنّها تتكيّف مع الأرض مُختَلِفة المستويات، والبيوت الموزَّعة هنا وهناك حسب ظروف الأرض وأهواء البنّائين، فمنها ما يتّجه إلى اليمين ومنها إلى اليسار، وأُخرى تنحرف حسب الطريق التي تحدّها فتضطرّها إلى الظهور بمظهر الشريط الذي يمتدّ بتعرّجات بدل أن تكون طريقاً مستقيمة تصل مكاناً بآخر دون انحراف.
وبين مرحلة وأخرى هناك ساحة قد تكون سوقاً أو ينبوع ماء، أو ربّما بَقيَت مساحات بينيّة لا يمكن البناء عليها، وذلك بسبب الأبنية التي انتَصَبَت كيفما اتّفق.
في المكان الذي يبدو لي وجوب التوقّف عنده بشكل خاصّ، هناك بالتحديد واحدة مِن الساحات غير المنتَظَمة. كان ينبغي أن تكون مربّعة أو أقلّه مستطيلة. إنّما هي على شكل شِبه مُنحَرِف غريب الشكل تستطيع معه القول بأنّه مثلّث حادّ الزوايا مُنحَرِف مِن الرأس. الضلع الأول، أي قاعدة المثلّث بناء عريض وُمنخَفِض، إنّه البناء الأكبر في البلدة. مِن الخارج له جدار أملس وعار بالكاد فُتِحَت فيه بوّابتان، وهما الآن مغلقتان تماماً.
في الداخل، على العكس، توجد نوافذ كثيرة في الطابق الأوّل تطلّ على فناء دار مربّع الشكل، بينما في الأرضيّ هناك أروقة تُحيط بساحات مفروشة بالقشّ والفَضَلات مع فسقيّات لإرواء الأحصنة والحيوانات الأخرى. وعلى أعمدة الأروقة القرويّة توجد حلقات لربط الحيوانات، وعلى أحد الجوانب هناك عَنبَر كبير لإيواء القطعان والمطايا. فأدركتُ أنّه نَزل بيت لحم.
وعلى طَرَفين آخَرَين مِن نفس الامتداد هناك منازل كبيرة وبيوت صغيرة، منها ما أُلحِقَت به حديقة، ومنها ما لم تُلحَق، لأنّ بينها ما واجِهته تطلّ على الساحة، ومنها ما هو خلفيّ. على الجانب الآخر الأكثر ضيقاً، في المقابل، خان القوافل، وهناك منزل وحيد له سلّم خارجي صغير في منتصف الواجهة، يَنفذ إلى الطابق الأوّل. وهي جميعها مُغلَقة لأنّ الوقت ليل، ولا يوجد إنسان في الطريق بسبب الوقت.
أراها تتنامى، تلك الضياء الليليّة، الهابطة مِن السماء، مرصّعة بالنجوم الجميلة جدّاً، مِن سماء الشرق الحيويّة والكبيرة، حتّى لتبدو قريبة جدّاً وأنّ مِن السهل الوصول إليها ولمسها، هذه الزهور التي تَلمَع على مخمل القبّة السماويّة. رَفَعتُ عينيَّ لأتحقّق مِن مصدر ازدياد النور هذا، وإذا بنجمة بحجم غير عاديّ، مِثل قمر صغير، تتقدّم في سماء بيت لحم، فتبدو باقي النجوم وكأنّها تتوارى لتفسح لها المجال لتمرّ، مثل الوصيفات في خدمة الـمَلِكَة، وكذلك كان أَلَقها يفوقها جميعاً ويجعلها تختفي.
مِن هذه الكُرة التي تبدو كسفير ضخم مُنار مِن الداخل بشمس، ينبَعِث ذَنَب مُنير، تذوب فيه، تحت هيمنة نور السفير، ألوان الزبرجد الأشقر والأخضر وأَلَق عين الـهرّ (حجر كريم كثير الألوان) الأغبش وأنوار الياقوت الدمويّة، وتوهّجات الجمز العذبة (الجمز هو أكسيد السيليكون المتبلوِر، وهو مِن الأحجار الكريمة). كلّ الأحجار الكريمة التي على وجه الأرض كانت تذوب في هذا الذَّنَب الذي يجتاز السماء بحركة سريعة ومُتماوِجة كما لو كان حيّاً.
ولكنّ اللون الذي يُهيمِن هو هذا اللون الذي يبدو وكأنّه يَهطل مِن كرة النجمة: اللون الفردوسيّ للسفير الشاحب الذي يَهبط ليضفي لون اللازورد الفضّيّ على المنازل والطرقات وأرض بيت لحم، مهد المخلّص.
لم تَعُد الآن المدينة الفقيرة التي لم تكن بالنسبة لنا سوى تجمّع طُرُقات، بل هي أصبَحَت مدينة خياليّة مِن حكايات الساحرات حيث كلّ شيء مِن الفضّة، أمّا ماء النبع والفسقيّات فمثل الماس السائل.
مع ألق السطوع الأكثر حيويّة، توقَّفَت النجمة فوق المنزل الصغير الموجود في الناحية الضيّقة مِن الساحة الصغيرة. لم يَرَها سُكّان المنزل، ولا حتّى سُكّان بيت لحم لأنّهم جميعاً نيام في البيوت المغلقة. حينئذ سَرَّعَت النجمة خفقان نورها، واهتزّ ذيلها وزاد تأرجُحه مُشَكِّلاً أنصاف دوائر في السماء التي أُنيَرت بكاملها بفعل شَبَكة النجوم هذه التي جَذَبَتها، شَبَكة الأحجار الكريمة هذه التي تنعكس على بقيّة النجوم بألف لون، كما لتُشارِكها كلمة فرحة.
لقد سَبح البيت الصغير في نار هذه الجواهر السائلة. سطح الشرفة الصغيرة، السلّم الصغير ذو الأحجار الداكنة، الباب الصغير، لقد كان كلّه عبارة عن سبيكة فضّة خالِصة موشّاة بغبار ماس وجواهر. لم يكن لأيّ قصر مَلَكي ولن يكون سلّم خارجي مماثل لهذا المعدّ ليَستقبل خُطى الملائكة، لتستخدمه الأُمّ التي هي أُمّ الله. فقدماها قدما عذراء منزَّهة عن كلّ عيب تستطيعان أن تدوسا هذا البياض الـمُشرِق، قدماها الـمُعدَّتان لتدوسا دَرَجات عرش الله.
ولكن العذراء لا تعرف شيئاً عن هذه الروعة الفاتنة. إنّها تَسهَر قُرب مهد ابنها وتصلّي. وفي نفسها تألُّق تَجاوَزَ ذلك الذي جَمَّلَت به النجمة الأشياء.
مِن الطريق الرئيسيّة تتقدّم قافلة: أحصنة مسرَّجة وأُخرى تُقاد باليد، جِمال بِسَنَم وأُخرى بِسَنَميَن. بعضها مُمتَطى والبعض الآخر مُحمَّل. صوت حوافرها الـمُصطَدِمة بحجارة سَيل يشبه صوت مياه جارية.
عند وصولها إلى المكان، تَوقَّف الجميع. وتحت إشعاع النجمة بَدَت القافلة بتألّق خياليّ. زينات المطايا الفاخرة جدّاً، ثياب الفرسان، الوجوه، الحُمولة، الكلّ يتألَّق مُذكِّياً ومُوحِّداً البريق الصرف للمعادن، للجلود، للحرائر، للأحجار الكريمة وللفرو، مع بريق النجمة. شَعَّت عيونهم وابتسَمَت أفواههم لأنّ تألُّقاً آخر قد أُضرِم في قلوبهم: ألق فرح فائق الطبيعة.
بينما يتوجّه الخدّام صوب خان القوافل مع الحيوانات، يَترجَّل ثلاثة أشخاص مِن القافلة مِن على مطاياهم الفخمة التي يقودها خادم إلى مكان آخر ويتوجّهون إلى البيت على أقدامهم. هنا، يَسجدون، جِباههم إلى الأرض، مُقَبِّلين التراب. إنّهم أشخاص ثلاثة مِن ذَوي النفوذ كما تُشير ملابسهم الفاخرة جدّاً.
أحدهم، وهو ذو بشرة داكنة، ما أن تَرَجَّل مِن على جَمَل حتّى تَلَفَّح بكامله بثوب فاخر مِن الحرير الأبيض، بينما جبينه مُمَنطَق بحلقة مِن المعدن الثمين، وعلى خَصره نطاق ثمين يتدلّى منه خنجر أو سيف وقد زَيَّنَت مِقبضه أحجار كريمة.
والاثنان الآخران، وقد ترجَّلا مِن على حصانين رائعين، فقد كان أحدهما يرتدي لباساً مخطّطاً جميلاً للغاية ويَغلب عليه اللون الأصفر. هذا اللّباس مصنوع مثل “بُرنُس” طويل مزيّن بقبّعة وبحبل، ويبدو كلّ شيء مصنوعاً مِن الصياغة السلكيّة الذهبيّة على قدر ما كان مزيّناً بالحواشي الذهبيّة.
وأمّا الثالث فإنّه يرتدي قميصاً مِن الحرير مُنتَفِخاً يَبرُز عن بنطال طويل وعريض محصور عند القدمين، وهو يتلفّح بوشاح ناعم جدّاً، وهو يبدو كحديقة حقيقيّة مُزهِرة بقدر ما كانت زاهية تلك الألوان التي كان مُزَيَّناً بها بالكامل، وعلى رأسه عمامة مُثبّتة بسلسلة مُرصَّعة بفصوص ماس.
بعد تبجيل البيت الذي يَقطن فيه المخلّص، يَنهَضون ويَقصدون الخان حيث يَقرَع الخدّام ويُفتَح لهم.
هنا تتوقّف الرؤيا.
تُعاوِد بعد ثلاث ساعات بمشهد سُجود المجوس ليسوع.
هو النهار. شمس جميلة تتألّق في سماء بعد الظهر. أحد خدّام المجوس الثلاثة يجتاز الساحة ويرتقي سلّم البيت الصغير. يَدخُل. يَخرُج. ويعود إلى النَّزل.
يَخرُج المجوس الثلاثة، وكلّ منهم يتبعه خادمه الخاصّ. يَجتازون الساحة. يَلتَفِت المارّة القليلون جدّاً ليَنظروا إلى الشخصيّات المهيبة الذين يمرّون ببطء شديد وفخامة. كانت ربع ساعة قد مرّت بين مجيء الخادم ومجيء الثلاثة، ممّا أعطى سكّان البيت الفرصة للاستعداد لاستقبال الضيوف.
إنّهم يرتدون ثياباً فاخرة أكثر مِن الليلة السابقة. فالحرائر تتلألأ، والأحجار الكريمة تلمع، خصلة كبيرة مِن الريش النفيس قد نُثِرَت عليها حراشف أكثر قيمة تَبرق على رأس الذي يَحمل العمامة.
يَحمِل أحد الخدّام صندوقاً مُطَعَّماً بالنقوش المعدنيّة مِن الذهب المشغول. والثاني يحمل كأساً مشغولة بشكل ناعم جدّاً، مغطّى بغطاء مِن الذهب المنقوش. أمّا الثالث فيحمل نوعاً مِن الجِّرار كبيرة وقصيرة، وهي مِن الذهب كذلك، ولها غطاء بشكل هَرَميّ، وفي قمّته ماسة مصقولة. يُفتَرَض أن تكون تلك الأشياء ثقيلة، ذلك أنّ الخدّام يُعانون مِن حَملِها، خاصّة ذاك الذي يحمل الصندوق.
يرتقي الثلاثة السلّم ويَدخُلون. يَلِجون غرفة مِن جهة الطريق تطلّ على ما خلف البيت، فالحديقة الخلفيّة تُرى مِن خلال نافذة مفتوحة للشمس. تُفتَح أبواب مِن الجدارين الآخرين، يَنظُر منها أصحاب المنزل. رجل وامرأة وأولاد أربعة بأعمار مختلفة.
مريم جالسة والطفل على صدرها، ويوسف واقف إلى جانبها. إلّا أنّها عندما ترى المجوس الثلاثة يَدخُلون تقف وتنحني. إنّها ترتدي الأبيض، وهي جميلة جدّاً بثوبها الأبيض الذي يكسوها مِن أسفل العنق حتّى القدمين، ومِن الكتفين حتّى الكفّين الناعمين، جميلة جدّاً ورأسها مُكَلَّل بضفائر شقراء، ووجهها قد أضفى عليه الموقف المؤثّر لوناً ورديّاً زاهياً، وعيناها تبتسمان بنعومة، وفمها الذي يُفتَح لِيُحَيّي: «الله معكم.» ويبقى المجوس الثلاثة حائِرين للحظة. ثمّ يتقدّمون، ويجثون عند قدميها ويرجونها أن تجلس.
هُم لا. لم يَجلسوا رغم دعوة مريم ويَظلّون جاثين على ركبهم متّكئين على أعقابهم. وخلفهم يجثو كذلك الخدّام الثلاثة. إنّهم خلف العَتَبَة مباشرة، وقد وَضَعوا أمامهم الأغراض التي كانوا يحملونها. ويَنتَظِرون.
يتأمّل الحكماء الثلاثة الطفل. يبدو لي أن عمره يتراوح بين تسعة أشهر وسنة، وذلك حسب وعيه وقوّته. يَستَنِد على صدر أُمّه. يبتسم ويناغي مثل عصفور صغير. إنّه يرتدي الأبيض مثل أُمّه، مع صندل صغير في قدميه. ثوب صغير بسيط تَخرج منه قدماه اللتان تتحرّكان، اليدان الربيلتان اللتان تريدان الإمساك بكلّ شيء، وخاصّة الوجه الصغير الفائق الجمال حيث تلمع عيناه اللازورديّتان الداكنتان، والفم الذي يُشكّل غمّازتين على جانبيه عندما يبتسم ويَكشف عن أولى أسنانه الصغيرة. شعره القصير يبدو مثل غبار الذهب لشدّة لمعانه ونعومته.
يتكلّم كبير الحكماء باسمهم جميعاً، فيشرح لمريم أنّهم في ليلة مِن ليالي كانون الأوّل الماضي رأوا نجماً جديداً أضاء في السماء بتألُّق غير عادي. ولم تكن الخرائط السماويّة قد حَمَلَت يوماً هذا النجم في رسوماتها، كما لم تُشِر إليه. ولم يكن اسمه معروفاً، بل لم يكن له اسم مُطلَقاً. لقد خُلِقَ مِن قلب الله، وأزهَرَ ليُعلِن للعالم حقيقة مباركة، سِرّاً مِن الله. ولكنّ الناس لم يكترثوا له لأنّ نفوسهم كانت غارقة في الوحل. لم يَرفَعوا أنظارهم إلى الله ولم يكونوا يعرفون قراءة الكلام الذي يُسطّره: -فليكن مباركاً إلى الأبد- مع نجوم النار على قبّة السماء.
هُم، قد رأوه، وجَهدوا في إدراك صوته، زاهِدِين عن طيب خاطر بالقليل مِن النوم الذي يمنحونه لأعضائهم، ناسين الأكل، غارقين في دراسة الأبراج وارتباطات النجوم، الزمن، الفصول وحسابات الأزمنة القديمة؛ والترتيبات النجوميّة هذه بَاحَت لهم باسم وسِرّ النجم، اسمه: «ماسيا». سِرّه: «إنّه هو ماسيا الآتي إلى العالم».
وقد قَطَعوا المسافات ليَسجدوا له دون معرفة الواحد منهم بالآخرين. وبعد أن عَبَروا جبالاً واجتازوا صحارى وودياناً وأنهاراً، وسافَروا ليلاً، اتّجهوا صوب فلسطين لأنّ النجم كان يسير بهذا الاتّجاه. ومِن أصقاع ثلاثة مختلفة مِن العالم كان كلّ منهم يسير بهذا الاتّجاه، إلى أن التقوا معاً قُرب البحر الميت. لقد جَمَعَتهم إرادة الله هناك، ومعاً ساروا متفاهِمِين، وعلى الرغم مِن أن كلّاً منهم يتكلّم بلغته الخاصّة، فقد كان يُدرِك ويتمكّن مِن التكلّم بلغات البلاد التي يجتازها بمعجزة مِن الأزليّ.
ذَهَبوا معاً باتّجاه أورشليم، لأنّ ماسيا كان ينبغي أن يكون مَلِك أورشليم، مَلِك اليهود. إلاّ أنّ النجم اختفى في سماء تلك المدينة. لقد أَحَسّوا بقلوبهم تنفَطِر ألماً وكانوا يتفحّصون أعماق ذواتهم لمعرفة ما إذا كانوا فَقَدوا عطف الله واحترامه. ولكن بعد التأكّد مِن سلامة ضمائرهم ونواياهم، ذَهَبوا للقاء الملك هيرودس ليَسألوه عن القصر الذي وُلِد فيه مَلِك اليهود الذي أتوا ليَسجدوا له. والـمَلِك، بعد أن جَمَعَ رؤساء الكَهَنَة والكَتَبَة، سألهم أين يُمكِن أن يُولَد الماسيا. فأجابوه: «في بيت لحم قضاء يهوذا.»
سَاروا باتّجاه بيت لحم، وعاد النجم يَظهَر لهم بعد أن تجاوَزوا المدينة المقدّسة، وفي المساء السابق كان قد ازداد تألُّقاً. كانت السماء قد أُضيئَت بِنور وَهَّاج، ثمّ توقَّف النجم جامِعاً نور باقي النجوم في إشعاعه فوق هذا البيت. فأَدرَكوا أنّه في هذا المكان يوجد المولود الإلهيّ.
وها هم الآن يَسجدون له، ويُقدّمون له هداياهم المتواضعة، وفوق كلّ شيء، قلوبهم التي لم تتوقّف عن حمد الله على نِعمته التي وَهَبَهم إيّاها، وعن محبّة ابنه الذي يَرَون فيه الإنسانيّة المقدّسة. ومِن ثمّ سيعودون ليُخبِروا الـمَلِك هيرودس لأنّه هو أيضاً كان يَرغَب في السجود له.
«إليكِ الذهب الذي يليق بِـمَلِك أن يَقتَنيه، هذا هو البخور الذي يليق بإله، وهذا، يا أيّتها الأُمّ هو الـمُرّ، لأنّ ابنكِ المولود، الذي هو إله وكذلك إنسان، سوف يَعرِف بجسده وحياته كإنسان المرارة وقانون الموت الذي لا يمكن تحاشيه. ونحن، بمحبّتنا، كنّا نودُّ عدم البوح بهذه الكلمات، كما نريد التفكير بأنّ جسده أزليّ مثل روحه. ولكن، أيّتها المرأة، إذا كانت خرائطنا وخاصّة نفوسنا لم تُخطئ، فإنّه، أي ابنكِ، هو المخلّص، مسيح الله، ولهذا السبب ينبغي له، ليُخَلِّص الأرض، أن يَحمل خطايا العالم التي إحدى عقوباتها الموت.
وهذا الراتنج هو لتلك الساعة، لكي لا يعرف جسده تَفَسُّخ الفساد، ويُحافِظ على سلامته حتّى القيامة. ولكي يَذكرنا بهذه الهبات ويخلّص خدّامه بأن يمنحهم ملكوته. وفي الوقت الحاضر، لكي نحصل على التقديس، فلتُقَدِّم الأُمّ ابنها الصغير إلى حُبّنا، وبتقبيلنا قدميه فلتحلّ علينا البَرَكة السماويّة.»
مريم، التي تجاوَزَت الخوف الذي سَبَّبَه كلام الحكماء، وأَخفَت خلف ابتسامة منها حزن الدعوة المأتميّة، تُقَدِّم الطفل، وتضعه بين ذراعي أكبرهم سنّاً الذي يقبّله ويتقبّل مداعباته ثمّ يَدفعه إلى الآخرين.
يبتسم يسوع ويلعب بسلاسل وأهداب الثلاثة. إنّه يَنظُر بفضول إلى صندوق المجوهرات المفتوح والمليء بمادة صفراء برّاقة. ويَضحك لرؤيته الشمس تُشكّل قوس قزح بملامستها ماسة غطاء الـمُرّ.
ثمّ يُعيد الثلاثة الطفل إلى أُمّه ويَنهَضون، وتَنهَض مريم كذلك. يَأمر أصغر المجوس سنّاً خادمه بالخروج، ويَنحَنون كلّ مِن جهته، ويتكلّم الثلاثة قليلاً. لا يستطيعون اتّخاذ قرار مغادرة هذا البيت. فتَظهَر في عيونهم دموع التأثّر. في النهاية يتوجّهون صوب الباب يُرافِقهم يوسف ومريم.
أراد الطفل النزول وإعطاء يده الصغيرة للأكبر سنّاً بين الثلاثة. ثمّ يمشي ويده في يد أُمّه والأُخرى في يد المجوس الذي ينحني ليُرافقه. خُطى يسوع ما تزال خُطى طفل غير واثقة، ويَضحك بينما يَضرب بقدمه الشريط المضيء الذي تُشَكِّله الشمس على الأرض.
لدى وصولهم إلى العَتَبَة -مع العِلم أنّ الغرفة على مدى طول المنزل- يَأخذ المجوس الثلاثة فرصة أخيرة ويَجثون وهم يُقَبِّلون قدميّ يسوع. ومريم المنحنية على الطفل تأخذ يده الصغيرة وتقودها في إشارة بَرَكَة على رأس كلّ مِن المجوس. إنّها إشارة صليب خَطَّتَها أصابع يسوع الصغيرة التي قادتها مريم.
ثمّ يَهبط الثلاثة السلّم. لقد أصبَحَت القافلة هنا جاهزة وتنتظر. رصيعات لجامات الأحصنة تتلألأ تحت الشمس المائلة للمغيب. وتَجَمَّع الناس في الساحة الصغيرة لرؤية هذا المشهد غير المألوف.
يَضحك يسوع وهو يُصفّق بيديه الصغيرتين. ترفعه أُمّه وهي متّكئة على درابزين الشرفة العريض، وتُمسِكه ويدها على صدره لتَقيه مِن السقوط. ويَنزل يوسف مع الثلاثة ويمسك بالرّكاب لكلّ منهم، بينما يمتطون الحصان أو الجَّمَل.
أصبَحَ الآن الجميع، خدّام ومعلِّمون، جاهزين على مطاياهم. تُعطَى إشارة الانطلاق، وينحني الثلاثة حتّى يُلامِسوا أعناق مطاياهم في تحية مُبالَغ فيها، وينحني يوسف، ومريم كذلك وهي تأخذ بقيادة يد يسوع في حركة وداع وبَرَكَة.
يقول يسوع:
«والآن؟ ماذا أقول لكِ الآن أيّتها النفوس التي تشعر بأنّ إيمانها يموت؟
لم يكن لدى حكماء الشرق هؤلاء ما يؤكّد لهم الحقيقة. لا شيء فائق الطبيعة، لم يكن لهم سوى حساباتهم الفلكيّة وعَمَلهم الفكريّ التأمّليّ الذي جَعَلَته حياتهم النزيهة كاملاً. ومع ذلك فقد كان لديهم الإيمان. الإيمان بكلّ شيء. الإيمان بالعِلم، الإيمان بضمائرهم والإيمان بالجّود الإلهيّ.
بالعِلم اعتَقَدوا بدلالة النجم الجديد الذي لم يكن ممكناً أن يكون إلّا “ذاك” الذي تنتظره البشريّة منذ قرون: الماسيا. بالضمير حَصَلوا على الإيمان بالصوت ذاته الذي بتلقّيه “الأصوات” السماويّة قال لهم: “إنّها هي النجمة التي تحدّد مجيء الماسيا”. وبصلاحهم كان لهم الإيمان بأنّ الله لم يخدعهم، وبما أنّ نواياهم كانت سليمة، فقد ساعَدَهم الله بكلّ الوسائل لبلوغ هدفهم.
ولقد نجحوا، هُم وحدهم مِن بين عدد كبير مِن الناس الذين يدرسون الدلالات، لقد فَهِموا هذه الإشارة، لأنّهم وحدهم الذين كانت في نفوسهم الرغبة المتلهّفة لمعرفة كلمات الله بِنِيَّة مستقيمة، حيث كانوا يفكّرون في أعماقهم أن يُقَدِّموا لله دون تأخير كلّ تسبيح وتمجيد وإكرام.
لم يكونوا يفتّشون عن منفعة شخصيّة. وأكثر مِن ذلك فلقد تحمَّلوا مشقّات السفر ومصاريفه دون أن يَطلبوا أيّ تعويض بشريّ. لقد طَلَبوا فقط أن يذكرهم الله ويخلّصهم في الأبديّة. كما وأنّهم لم يفكّروا بأيّة مكافأة بشريّة في المستقبل، وكذلك حين قرّروا السفر لم يكن لديهم أيّة اهتمامات بشريّة.
أمّا أنتم فكنتم سَتُبدون ألف عذر: كيف العمل لأقوم برحلة طويلة كهذه في بلدان وبين شعوب بلغات مختلفة؟ هل يُصدّقونني أم يَسجنونني كجاسوس؟ ماذا سيُقَدَّم لي مِن عون لاجتياز الصحارى والأنهار والجبال؟ والحرارة؟ ورياح الهضاب العالية؟ والحرارة التي تهيمن على مناطق المستنقعات؟ والأنهار الفائضة بسبب الأمطار؟ والغِذاء المختلف؟ واللغات المختلفة؟ و… و… و… ” وهكذا تفكّرون، بينما هم لم يفكّروا بهذه الطريقة.
لقد قالوا بجُرأة صادِقة مقدّسة: “أنتَ أيّها الإله، تقرأ ما في قلوبنا وترى إلى أيّة نهاية نسير. نضع أنفسنا بين يديكَ. امنَحنا الفرح فائق البشر بسجودنا لأقنومكَ الثاني المتجسّد لمجد العالم”.
كان هذا كافياً. وغَذّوا السير مِن الأصقاع البعيدة. سَلاسل جبال منغوليّة لا يحلّق فوقها سوى النسور والعُقبان حيث كلَّمَهم الله بجَلَبة الرياح والعواصف، وكَتَبَ كلمات سريّة على صفحات الثلج التي لا نهاية لها. مِن الأراضي التي يُولَد فيها النيل ويجري، وَريد الربوع السماويّة إلى قلب البحر الأبيض المتوسّط اللازورديّ. فما استطاعت قمم ولا غابات ولا رمال محيطات جافة، وهي أكثر خطورة مِن المحيطات المائيّة، الوقوف في وجه مسيرتهم. والنجمة تَلمَع في لياليهم، مانعة عنهم النوم. عندما يبحث أحدنا عن الله فينبغي للعادات الحيوانيّة أن تتخلّى عن ضِيق الصدر والـمَطالب الفائقة البشر.
قادهم النجم مِن الشمال، مِن الشرق ومِن الجنوب، وبمعجزة إلهيّة تقدَّمَ أمام الثلاثة ليَصِل بهم إلى النقطة ذاتها. وكذلك بمعجزة أخرى يجمعهم بعد مسيرات طويلة في نفس المكان. وبمعجزة أخرى أيضاً يمنحهم نعمة الفهم والإفهام كما في الفردوس حيث اللغة واحدة: لغة الله. سابِقِين بذلك حكمة العنصرة.
لقد اجتاحَتهم لحظة خوف واحدة عندما غاب النجم. عندئذ، متواضِعِين لأنّهم حقيقة عُظَماء، لم يُفكّروا أنّ ما جرى كان بسبب شرور الناس، وأنّ سكّان أورشليم الفاسدين لا يستحقّون رؤية النجم. بل لقد فكَّروا بأنّهم هم أنفسهم فَقَدوا عطف الله واحترامه، وقد تفحَّصوا ذواتهم مرتجِفين ونادمين وهم مستعدّون لطلب الغفران.
ولكنّ ضمائرهم طَمأَنَتهم. فنفوسهم التي تعوَّدَت التأمّل، وضمائرهم حسّاسة جدّاً. ولقد صَفَت بالانتباه المتواصِل، بتأمّل باطني مُرَكَّز جَعَلَ مِن باطنهم مِرآة تعكس أدقّ آثار الأحداث اليوميّة. لقد جَعَلوا منها معلِّمة، صوتاً يُنَبِّه ويُسمِع صوته، لا أقول لأقلّ الهفوات، إنّما لمجرّد نظرة بسيطة صوب الانحراف أو الخطأ بحقّ ما هو إنسانيّ، بما يخصّ مجاراة الأنا. وكذلك حين يَقِفون في مواجهة هذه المعلّمة، هذه الـمِرآة الجادّة الواضحة، فإنّهم يعرفون أنّها لا تكذب، فهي تُطمئِنهم الآن ويستعيدون شجاعتهم.
“آه! ما أعذب معرفة أنّ لا شيء فينا مخالف لإرادة الله! والعِلم بأنّه يَنظر بعطف إلى نفس الابن البارّ ويباركها. مِن هذا الشعور يأتي نموّ الإيمان والثقة والرجاء، وقُدرة النَّفْس والصبر. في هذه الأثناء هي العاصفة. ولكنّها ستمضي لأنّ الله يحبّني ويعرف أنّني أحبّه ولن يبخل بمدّ يد العون لي مرّة أخرى”.
هكذا يتكلّم الذين يمتلكون السلام، السلام المتأتّي مِن ضمير مستقيم يوجِّه بسلطان مطلَق كلّ حركة مِن تصرّفاتهم. لقد قلتُ إنّهم كانوا “متواضعين لأنّهم في الحقيقة عظماء”. أمّا في حياتكم فعلى العكس؛ ماذا يحدث؟ تَجِد أحدهم، ليس لأنّه عظيم، بل لأنّه عنيف ويَستمدّ قُدرته مِن تَضافُر تأثيره مع عبادتكم الغبيّة للأصنام، تراه لذلك ليس متواضعاً على الإطلاق. كذلك تَجِد مِن البؤساء المساكين مَن، بفعل كونه كبير خدّام شخصيّة لها وزنها، أو حاجب مكتب شخصيّة ما، أو موظفاً في دائرة حكوميّة، أو أحد أتباع مَن يوفّر له مكانة معينة، يتّخذ وضعيّة نصف آلهة، وأمثاله يَبعَثون على الشفقة!…
هُم، الحكماء الثلاثة، كانوا فعلاً عظماء. بفضيلتهم فائقة الطبيعة في المقام الأوّل، وثمّ بضميرهم، وأخيراً بثرائهم. إلاّ أنّهم يَعتَبِرون أنفسهم لاشيء: غباراً على غبار الأرض بالنسبة لله تعالى الذي يَخلق العوالم بابتسامة ويَنثرها مثل الحبوب مع أطواق مِن النجوم، ليُشبِع بها نَظَر الملائكة.
ولكن إذا كانوا يعتَبِرون أنفسهم لا شيء تجاه الله تعالى الذي خَلَقَ الكوكب الذي يعيشون عليه، وقد مَنَحَه تنوّعاً غير عاديّ بترتيبه، وهو النحّات اللامتناهي في العَظَمَة للأعمال التي بلا حدود، فهنا، بلمسة إصبع مَنَحَه إكليلاً مِن هضاب ناعمة، وهناك هيكل قباب وقمم تبدو مثل فقرات العمود الفقريّ للأرض، وهذا الجسم الذي بغير قياس، والذي يمتلك الأنهار كأوردة والبحيرات كأحواض والمحيطات كقلب والغابات كَثَوب والغيوم كَوِشاح، والمجمّدات المتبلوِرة كزينة، والزمرّد والفيروز وعين الهرّ والحومة (زمرد مصري) مِن كلّ شكل كأحجار كريمة، وجميعها مثل جوقة كبيرة ترتّل مع الغابات والرياح التسابيح لربّها.
ولكنّهم، بكلّ حكمتهم، يَشعرون بأنفسهم مثل العَدَم أمام حضور الله الذي منه تأتيهم الحكمة، والذي مَنَحَهم نَظَراً أكثر نفوذاً مِن عيونهم ليَروا الحقائق: عيون النَّفْس التي تعرف القراءة في الأشياء، قراءة الكلمات التي لم تكتبها يد إنسان، إنّما فِكر الله هو الذي نَقَشَها.
ولكنّهم يَعون تلاشيهم كَمالِكي الكنوز: فهي ذرات إذا ما قورِنَت بكنوز مالِك الكون الذي يَنشر المعادن والأحجار الكريمة في النجوم والكواكب، وثروات لا تنفذ في قلوب الذين يحبّونه.
ولدى وصولهم أمام منزل متواضع في أكثر مدن يهوذا وضاعةً، لم يهزّوا رؤوسهم قائلين: “غير معقول”. ولكنّهم يَحنون ظهورهم، يجثون، ويتواضعون، خاصّة في قلوبهم، ويَسجدون. فهنا، خلف هذا الجدار الوضيع يتواجد الله. هذا الإله الذي تَضَرَّعوا إليه دائماً وهم لا يَجسرون مطلقاً على التأمّل في أن يَحصَلوا، ولو مِن بعيد، على إمكانيّة رؤيته، ولكنّهم يَبتَهِلون إليه مِن أجل خير الجنس البشريّ، و”خيرهم” الأبديّ. آه إنّهم كانوا يتمنّون فقط إمكانيّة رؤيته ومعرفته وأن يكون في حياتهم حيث لا يعود فجر ولا غَسَق.
إنّه هنا، خلف هذا الجدار الوضيع. بدون شكّ، إنّ قلبه الطفوليّ الذي هو مع ذلك قلب الله، يحسّ بخفقات قلوب هؤلاء الثلاثة الذين يَصرخون جاثين على غبار الطريق: “قدّوس، قدّوس، قدّوس، مبارك الربّ إلهنا، المجد له في أعالي السموات، والسلام لخدّامه. المجد، المجد، المجد والبركة.” هذا ما كانوا يطلبونه بقلب يرتعش بالحبّ. وأثناء الليل والصباح الذي تلاه، يتهيّئون بالصلاة الأكثر حرارة للاتّصال بالإله الطفل. ولم يَذهَبوا إلى هذا الهيكل الذي هو صدر العذراء الذي يحمل القربان الإلهيّ كما تذهبون أنتم إليه ونفوسكم مُفعَمة بالاهتمامات البشريّة.
إنّهم يَنسون النوم والطعام، وإذا ما ارتدوا أجمل الثياب، فهذا ليس على سبيل الغرور الإنسانيّ، إنّما لتبجيل مَلِك الملوك. ففي بلاط الملوك يَدخُل الوُجَهاء مرتدين أفخر الثياب، إذن لماذا لا يذهبون هم أيضاً لرؤية هذا الـمَلِك بثياب العيد؟ وأيّ عيد بالنسبة إليهم أهمّ مِن هذا العيد؟
آه! في بلادهم البعيدة جدّاً جدّاً كان ينبغي أن يتبرّجوا للناس المساوين لهم ليُعايدوهم ويُكرّموهم. فمِن العدل إذن أن يَرموا عند أقدام الـمَلِك الأعظم البرفير والجواهر، الحرائر والريش الثمين، أن يضعوا عند قدميه الصغيرتين العذبتين نُسُج الأرض وجواهرها وريشها ومعادنها -كلّ ما صَنَعَه هو- حتّى تَسجد أشياء الأرض هذه، هي أيضاً، لخالقها. وسوف يكونون سعداء لو طَلَبَ منهم هذا الطفل أن يتمدّدوا على الأرض ليكونوا سجّادة حيّة لخطواته الطفوليّة وأن يسير فوقها، وهو الذي تَرَكَ النجوم مِن أجلهم، غباراً، غباراً، غباراً.
إنّهم مُتواضِعون وكرماء، مُطيعون “لأصواته” تعالى، التي أَمَرَت أن تُحمَل الهدايا للملك المولود حديثاً، فَحَمَلوا بأنفسهم هذه الهدايا. لم يقولوا: “إنّه غنيّ ولا حاجة به إليها. إنّه إله ولا يعرف الموت”. لقد أطاعوا. وكانوا هُم أوّل مَن يُغيثون فَقر المخلّص. كم سيكون هذا الذهب مفيداً للذين سيكونون في الغد فارِّين! وكم سيكون الـمُرّ ذا مغزى كبير لمَن سيُحكم عليه قريباً بالموت! وكم سيكون هذا البخور درءاً لـه مِن نتانة فسق الناس التي تَحَتدِم حول طهارته اللامتناهية ويتنشَّقها.
إنّهم مُتواضِعون، كُرَماء، مُطيعون ومحترمون الواحد مِن الآخر: فالفضائل تَلِد دائماً فضائل أخرى. بعد تلك التي تتوجّه إلى الله تأتي التي تتوجّه إلى القريب. إنّه الاحترام الذي يُصبِح محبّة. لقد أُسنِد الكلام باسم الجميع إلى أكبرهم سنّاً، فيتقبّل كذلك هو أوّلاً قبلة الربّ ويقوده مِن يده. ذلك أنّ باستطاعة الآخرين أن يَرَوه فيما بعد، أمّا هو فإنّه مُسنّ. لا بل إنّ اليوم الذي يعود فيه إلى الله قريب جدّاً. وسوف يرى المسيح بعد موته الـمُفجِع وسيتبعه ضمن عِداد المخلَّصين، عندما يعود إلى السماء. ولكنّه لن يراه ثانية على هذه الأرض، لذا، وكزاد لرحلته، تبقى له حرارة اليد الصغيرة التي استسلَمَت ليده المتجعّدة.
لم يكن أحد مِن الآخرين يحسده، بل على العكس، فقد كان احترامهم لذاك الـمُسنّ يتنامى. لقد استحقّ ذلك أكثر منهم، وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة، والإله الطفل يَعلَم ذلك. لم تكن كلمة الآب قد سُمِعَت بعد، ولكنّ حركته كلمة. فلتكن مباركة كلمته المنزهة التي حدّدت الكبير كمفضّل لديه.
ولكن، يا أبنائي، هناك عبرتان أيضاً يمكن استخراجهما مِن هذه الرؤيا.
سلوك يوسف الذي يعرف البقاء في “مكانه”، حاضراً كحارس وحافظ للطهارة والقداسة ولكنّه لا يغتَصِب حقّاً. إنّها مريم، مع يسوعها، التي تتقبّل الهدايا، وإليها يُوجَّه الكلام. يسعد يوسف مِن أجلها ولا يهتمّ لكونه شخصيّة ثانويّة. إنّ يوسف رجل بارّ. إنّه البارّ. ويبقى بارّاً على الدوام، حتّى في مثل هذه الساعة. فأبخرة الاحتفال لم تَصعَد إلى دماغه. إنّه يَظلّ مُتواضِعاً ومستقيماً وبارّاً.
سعيد هو بالهدايا. إنّما ليس مِن أجله. ولكنّه يفكّر أنّ بإمكانه، بواسطة هذه الهدايا، توفير حياة أسهل لزوجته وللطفل. ليست لدى يوسف رغبة بالثراء، فهو عامِل، وسيظلّ يَعمَل. إنّما ليوفِّر “لهما”، لحُبَّيه، قليلاً مِن اليُسر والراحة. لا هو ولا المجوس يَعلَمون أنّ هذه الهدايا ستنفع في الهرب وحياة المنفى حيث سيتبدّد هذا الثراء مثل غيوم تُطارِدها الرياح، وكذلك في العودة إلى الوطن. إذاً فَهُم سيفقدون كلّ شيء. العملاء والأثاث، لن يَجِدوا سوى جدران بيتهم التي حماها الله، إذ في هذا المكان قد اتَّحَدَ بالعذراء واتَّخَذَ لنفسه جسداً.
إنّ يوسف مُتواضِع، فحتى مع كونه حارس لله ولتلك التي هي أُمّ الله وعروسته تعالى، فقد أمَسَكَ بالرِّكاب لأتباع الله هؤلاء. إنّه نجّار فقير لأنّ قسوة العالم قد بَدَّدَت إرث داود مِن ممتلكاتهم الـمَلَكيّة. ولكنّه يبقى مِن أصل ملوكي، وله طِباع الملوك. فمِن أجله أيضاً قيل: “إنّه مُتواضِع لأنّه في الحقيقة عظيم”.
آخِر عِبرة، وهي عذبة ومُعَبِّرة.
إنّها مريم التي تأخذ بيد يسوع الذي لم يكن يعرف بعد أن يبارك، وتقودها في الحركة المقدّسة.
دائماً هي مريم التي تأخذ بيد يسوع وتقودها، حتّى الآن كذلك. الآن يَعرف يسوع أن يبارك، إنّما أحياناً تَسقُط يده المختَرَقَة تَعِبَة ومُثبَطَة عزائمها، لأنّ البركة لا تفيد. إنّكم تَنقضون بركتي. وتعود لتَسقُط كذلك لعدم استحقاقكم لأنّكم تلعنونني. حينئذ تحتوي مريم هذا السُّخط وهي تُقَبِّل هذه اليد. آه! يا لقُبلة أُمّي! مَن يستطيع مقاومة هذه القُبلة؟ ثمّ تأخذ أصابعها الناعمة قبضتي بحبّ آمِر وتُرغِمني على أن أُبارِك. فأنا لا أستطيع أن أردّ أُمّي، إنّما يجب العبور مِن خلالها لتجعلوها المحامية عنكم.
إنّها مَلِكَتي قبل أن تكون مَلِكَتكم، وحبّها لكم يمتلك مِن الغفرانات ما لا يعرفه حبّي نفسه. وهي، بدون كلام، بلآلئ دموعها ودعوة صليبي الذي جَعَلَتني أرسم إشارته في الهواء، تُرافِع عنكم وتَحثني: “أنتَ المخلِّص، فخلِّص!”
هذا هو، يا أبنائي “إنجيل الإيمان” في رؤيا مشهد المجوس. تأمّلوا واقتدوا مِن أجل خيركم.
الجمعة 3 آذار (مارس) 1944
يقول يسوع:
«اكتبي هذا فقط. منذ أيّام كنتِ تقولين إنّكِ تموتين دون رؤية إشباع رغبتكِ بزيارة الأماكن المقدّسة تتحقّق. إنّكِ تَرَينَها، وكما كانت حين قدَّستُها بوجودي. أمّا الآن، وبعد عشرين قرناً مِن الانتهاكات، بحقد أو بحبّ، فلم تعد أبداً كما كانت. إذاً، فأنتِ في الوقت الحاضر تَرَينها، بينما الذي يذهب إلى فلسطين لا يراها. لا تَحزَني.
أمر آخر: تشتكين مِن أن الكُتُب التي تتحدّث عنّي، بعضها يبدو لكِ بلا طعم أبداً، الآن، بينما كنتِ في السابق تحبّينها كثيراً. وهذا أيضاً يأتي مِن الظروف التي وَجَدتِ نفسكِ فيها. فكيف تريدين أن تَظهَر لكِ الأعمال الإنسانيّة أكثر كمالاً، بينما أنا أهتمّ في إظهار حقيقة الوقائع لكِ أنتِ؟
هذا الانطباع يمكن أن يَحدُث حتّى مع الترجمات الجيّدة. إنّها تُشوّه دائماً قوّة الجملة الأصليّة. الوصف البشريّ للأمكنة كما للوقائع هو “ترجمة”، ولأجل ذلك، هو دائماً ناقص، غير دقيق، ليس في الكلام والوقائع وحسب، بل إنّما في المشاعر كذلك. خاصّة وأنّ العقلانيّة قد خَرَّبَت الحياة التي يُعَبَّر عنها فيها. كذلك عندما أَهِب أحداً أن يرى ويعرف، فإنّ كلّ وصف آخر يبدو بارداً، مُقصّراً، غير مرضيّ، ومنفِّر.
ثالثاً: إنّه يوم الجمعة، أريد أن تعيشي آلامي مِن جديد. أريد ذلك منكِ اليوم، أن تعيشيها مِن جديد في نفسكِ وجسدكِ. هذا يكفي. تحمّلي الآلام بسلام وحبّ. أبارككِ.»