60- شفاء الأعمى في كفرناحوم | قصيدة الإنسان – الإله

1٬478
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}

60- شفاء الأعمى في كفرناحوم

07 / 10 / 1944

يتكلّم يسوع فيجتاحني في الحـال الارتيـاح ويُغرِقني في نشـوة تجعل الفرح يَسكُن قلبي: «انظري، إنّ حوادث العميان ترضيكِ كثيراً. وها هي حادثة أخرى تُقدَّم لكِ.»

وأرى غروب شمس صيفيّ جميل. فالشمس تُضرِم كلّ الغرب، وبحيرة جنّسارت غَدَت مِرآة عملاقة تنعكس فيها السماء الـمُضاءة.

ها الناس وقد بَدَأَت شـوارع كفرناحوم تغصّ بهم: نسـاء ذاهبات إلى النبع، صيّادون رجال يُجِهِّزون شِباكهم ومراكبهم للصيد الليليّ، أطفال يَجْرون وهم يلعبون عبر الشوارع، حمير مُحمَّلة سلالاً تمضي إلى القرية، ربمّا لتحميل الخضار.

يتقدّم يسوع باتّجاه باب يُفضي إلى ساحة صغيرة مُظلَّلة بكرمة وشجرة تين. بعد ذلك هناك درب مرصوف حجارة يحدّ البحيرة. المفروض أنّه منزل بطرس، فهو على الشاطئ مع أندراوس يُجَهِّز سلِال السمك والشِّباك ويُرَتِّب المقاعد والحِبال. ذلك بمجمله مِن أجل الصيد. وأندراوس يساعده بذهابه وإيابه بين البيت والمركب.

ينادي يسوع تلميذه: «هل سيكون الصيد وفيراً؟»

«الوقت مناسب والمياه ساكنة، بالإضافة إلى ذلك نور القمر. لذا فسيصعد السمك مِن الأعماق وستحمله شِباكي.»

«أنذهب وحدنا؟»

«آه! يا معلّم، إذا كنّا وحدنا فكيف العمل مع كلّ هذه الشِّباك؟»

«لم أُمارِس الصيد أبداً وأنتَظِر منكَ أن تُعَلِّمني.» ويهبط يسوع على مهل صوب البحيرة، ويتوقّف عند الشاطئ ذي الرمال المحصاة جانب المركب.

«انظر يا معلّم: هذا ما سوف نقوم به. نَخرُج جنباً إلى جنب مع مركب يعقوب بن زبدى، ونمضي هكذا سويّة باتّجاه المكان المناسب. ثمّ نرمي الشِّباك ونمسك نحن بطرفها. وتريد أنتَ أن تمسك بالطرف الآخر، هذا ما قُلتَه لي.»

«نعم! إذا قُلتَ لي ما ينبغي لي أن أفعله.»

«آه! ليس هناك سوى مراقبة رمي الشِّباك، لتَنزِل الشِّباك بهدوء ودون حدوث عُقَد. بهدوء لأنّنا سنكون فوق مكان الصيد، وأيّة حركة مفاجئة سَتُبعِد السمك، ودون عُقَد لكيلا تُغلَق الشباك التي يجب أن تُفتَح مثل صرّة، أو بالأحرى مثل شراع منفوخ بالهواء. وحالما تنتهي عمليّة الإنزال سوف نجذّف ببطء أو نتقدّم شراعيّاً حسب ما يجب أن يكون، دائِرِين نصف دورة على البحيرة. وعندما تُشير لنا تحرّكات شارات الأمان بأن الصيد جيّد نتوجّه إلى اليابسة، وهناك حوالي الشاطئ، ولكن ليس في مرحلة مُسبَقَة لتحاشي خطر هروب الغنائم، ولا في مراحل متأخّرة لكيلا يخرب السمك والشِّباك على الحصى، وسننشر الشِّباك. حينئذ يجب الانتباه جيّداً، إذ يجب على المراكب أن تقترب كثيراً إلى الحدّ الذي نستطيع معه الإمساك بأطراف الشِّباك التي تُمرَّر مِن المركب الآخر، ولكن على ألّا نصطدم لكيلا نهرس الشِّباك الممتلئة سمكاً. سوف أُفوّض الأمر لكَ يا معلّم، إنّه قُوتنا ورزقنا. عينكَ على الشِّباك لكيلا تُفتَح مع اهتزاز السمك. فالسمك يُدافِع عن حريّته بضربات ذَنَب قويّة، وإذا كان عددها كبيراً… تُدرِك ذلك… إنّها حيوانات صغيرة، إنّما كونها بالعشرات والمئات والألوف فهي تصبح ذات قوّة هائلة.»

«الأمر ذاته مع الخطايا يا بطرس. في البداية خطأ واحد يمكن إصلاحه. إنّما بعدئذ إذا لم نتوقّف عن هذا الخطأ “الواحد” وإذا ما تَرَكنا الأخطاء تتراكم وتتراكم وتتراكم، فالذي يحصل أخيراً هو أنّ هذا الخطأ الصغير، وقد يكون مجرّد إهمال بسيط أو ضُعف بسيط، يصبح يوماً بعد يوم أكثر قوّة ويتحوّل إلى عادة لينتهي برذيلة رئيسيّة. نبدأ أحياناً بنظرة شهوة لننتهي بالزنى التامّ. وأحياناً بقلّة محبّة عن طريق الكلام بحقّ أحد الأقارب لينتهي بنا بالعنف ضدّ القريب. حذار، فالسهر السهر منذ البداية لكيلا يزداد وزن الأخطاء بكثرتها! فتصبح خَطِرة ومُتَمَكِّنة أكثر مِن الحيّة الجهنميّة ذاتها وتقودكم إلى هاوية الجحيم.»

«حسناً تتكلّم أيّها المعلّم… ولكنّنا ضعفاء جدّاً!»

«عليكَ بالانتباه والصلاة لتصبح قويّاً وتحصل على العون، وبالإرادة الثابتة بعدم ارتكاب الخطيئة، ثمّ الثقة الكبيرة بعدالة الآب الـمُحِبّة.»

«أتقول بأنّ “هو” لن يكون قاسياً مع سمعان المسكين؟»

«كان يمكن كذلك أن يكون قاسياً مع سمعان، أمّا مع بطرسي، الإنسان الجديد، رجل مسيحه… فلا، يا بطرس، إنّه يحبّكَ وسيحبّكَ.»

«وأنا؟»

«وأنتَ كذلك يا أندراوس، وكـذلك يوحنـّا ويعقـوب وفليبـّس ونثنـائيـل. فأنتم مُختاريّ الأوائل.»

«هل سيأتي آخرون؟ هناك ابن عمكَ، وفي اليهوديّة…»

«آه! إنّ مملكتي مفتوحة لكلّ الجنس البشريّ، والحقّ الحقّ أقول لكَ إنّ صيدي في ليل الدهور سيكون أَوفَر مِن وفرة صيدكَ كلّه… إنّ كلّ دهر هو ليل حيث لا يكون الدليل فيه والنور، لا نور الكواكب الصَّرْف، ولا نور القمر الذي يُرافِق البحّارة، بل إنّما كلمة المسيح والنعمة المتأتّية منه. وهذا الليل سيعرف فجر يوم لن يَغرب، نوراً سيعيش فيه جميع المؤمنين، شمساً يلبسها المختارون فتجعل مظهرهم بهيّاً، وتجعلهم أزليّين، سعداء مثل الآلهة، آلهة أدنى مِن الآب الذي هم أبناؤه وشبيهون بي… لا تستطيعون الآن إدراك هذا، ولكنّ الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ حياتكم المسيحيّة ستُوفّر لكم التشبّه بمعلّمكم، وستكون العلامات هي نفسها التي تجعلكم تتألّقون في السماء. وإذاً سيكون لي، رغم ضغينة الشيطان وإرادة الإنسان الضعيفة، صيد أوفر مِن صيدكَ.»

«ولكن هل سنكون وحدنا تلاميذكَ؟»

«هل بطرس حَسود غَيور؟ لا تكن كذلك. سيأتي آخرون وسيكون في قلبي حُبّ للجميع. لا تكن بخيلاً يا بطرس. فأنتَ لا تعرف بعد طبيعة الذي يحبّكَ. هل عَدَدتَ النجوم يوماً؟ أو الحجارة التي تَفرش قاع البحيرة؟ لا، لا يمكن ذلك، وقدرتكَ على عدّ خفقات الحبّ التي يستطيعها قلبي أقلّ. هل استطعت أبداً حساب عدد المرّات التي يُقَبِّل فيها البحر الشاطئ مع قبلة الموج خلال الإثني عشر قمراً؟ لا، لا يمكنكَ ذلك، وقدرتكَ على حساب أمواج الحُبّ التي تَنسَكِب مِن هذا القلب لتعطي قُبلاتها للناس أقلّ كذلك. كن أكيداً مِن حبّي يا بطرس.»

يَأخذ بطرس يد يسوع ويُقَبِّلها وهو متأثّر بشدّة.

يَنظُر أندراوس ولا يجرؤ، إلّا أنّ يسوع يضع يده في شعره ويقول: «أنتَ أيضاً أحبّكَ كثيراً. وفي ساعة فجركَ سترى يسوع منعكساً على قبّة السماء، ستراه، دون وجوب رفع عينيكَ، يبتسم لكَ ليقول: “أحبّكَ، تعال”، ودخولكَ في هذا الفجر سيكون أمتع مِن الدخول إلى غرفة الزفاف…»

«سمعان! سمعان! أندراوس! ها أنذا قد وصلتُ…» يجري يوحنّا لاهثاً «آه! يا معلّم هل جعلتُكَ تنتظر؟» وينظر يوحنّا إلى يسوع بعين الـمُحِبّ.

ويجيب بطرس: «في الحقيقة كنتُ قد بدأتُ أظنُّ أنّكَ لن تأتي… جهّز مركبكَ بسرعة. ويعقوب؟…»

«لقد تأخّرنا بسبب رجل أعمى. كان يظنّ أنّ يسوع في بيتنا فأتى إليه. ولكنّنا قلنا له: “إنّه في مكان آخر، وقد يشفيكَ غداً. انتَظِر”. ولكنّه لم يكن يريد الانتظار. وكان يعقوب يقول: “لقد انتظرتَ النور طويلاً، فما المانع مِن انتظاره ليلة أخرى أيضاً؟” إلّا أنّه لم يكن ليَقبَل سماع حجة…»

«يوحنّا، لو كنتَ أنتَ الأعمى، أفلا تكون متعجّلاً لرؤية أُمّكَ؟»

«إيه! طبعاً!»

«وإذاً؟ أين الأعمى؟»

«إنّه قادم مع يعقوب. لقد تمسَّكَ بمعطفه ولا يتركه، ولكنّه يسير ببطء لأنّه يتعثّر على الشاطئ المغطّى بالحجارة… يا معلّم، هل تغفر لي قسوتي؟»

«نعم، إنّما لإصلاح الخطأ اذهب وساعد الأعمى واجلبه إليَّ.»

يجري يوحنّا مبتعداً.

يهزّ بطرس رأسه بشكل خفيف ولكنّه يصمت. يَنظُر إلى السماء التي تُصبِح لازورديّة بعد أن أدرَكَتهـا العتمة. ينظر إلى البحيرة، وينظر إلى المراكب الأخرى التي خرجت للصيد، ويتنهّد.

«سمعان!»

«معلّم!»

«لا تَخَف، فسيكون صيدكَ وفيراً حتّى ولو خرجتَ الأخير.»

«حتّى هذه المرة؟»

«في كل مرة تكون فيها مُحِبّاً سيُنعِم الله عليكَ بصيد وفير.»

«ها هو ذا الأعمى.»

يتقدّم المسكين بين يعقوب ويوحنّا. بين يديه عصا لا يستخدمها الساعة، ذلك أنّه يعتَمِد على الإثنين اللذين يقودانه. وهذا أفضل له.

«يا رجل، ها هو المعلّم، إنّه أمامكَ.»

يجثو الأعمى: «سيّدي، الرحمة!»

«أتريد أن ترى؟ انهض. منذ متى وأنتَ أعمى؟»

يتحلّق التلاميذ الأربعة حولهما.

«منذ سبع سنوات يا سيّدي. وقد كنتُ في السابق أرى بشكل جيّد وكنتُ أعمل. كنتُ صاحب حرفة في القيصريّة الساحليّة. كنتُ أكسَب جيّداً. لقد كان المرفأ والتجّار الكثيرون في حاجة دائمة إليَّ في أعمالهم. ولكن لدى طَرقِي حديد مِرساة، وتَصَوَّر الحديد الـمُحَمَّر ليصبح جاهزاً للعمل، انطَلَقَت شرارة منه أحرَقَت عيني. ولقد كانت عيناي آنذاك عليلَتَين بسبب حرارة الكور. فخسرتُ عيني التي أُصيبَت، وانطَفَأَت الأخرى بعد ثلاثة أشهر. أنفقتُ كلّ مُدّخراتي، وأنا الآن أعيش مِن الإحسان…»

«هل أنتَ بمفردكَ؟»

«لديَّ زوجة وثلاثة أطفال صغار جدّاً حتّى إنّني لا أعرف وجه أصغرهم… ولديَّ أُمّ عجوز، هي وزوجتي مَن تَكسِبان الآن اليَسير مِن القُوت. وهذا مع الصَّدَقة التي أجمعها يكاد يكفينا لكيلا نموت جوعاً. لو أنّكَ تشفيني!… فأعود إلى العمل. فأنا لا طلب لي سوى العمل كإسرائيليّ صالح لِأَقوت الذين أحبّهم.»

«وأتيتَ تبحث عني ، مَن قال لكَ ذلك؟»

«أبرَص شَفيتَه عند أسفل طور طابور أثناء عودتكَ إلى البحيرة بعد الخطبة الرائعة.»

«ماذا قال لكَ؟»

«قال إنّكَ قادر على كلّ شيء. إنّكَ خلاص الأجساد والأرواح. إنّكَ نور للأرواح والأجساد لأنّكَ نور الله. وهو، أي الأبرَص، قد تجرّأ على الاختلاط بالجموع غير آبِه بخطر أن يُرجَم، ملتحفاً بمعطف، إذ إنّه قد رآكَ تَمُرّ عندما كنتَ ذاهباً إلى الجبل، وكان وجهكَ قد أعاد الأمل إلى قلبه. لقد قال لي: “رأيتُ في هذا الوجه شيئاً ما أكَّدَ لي: ’هو الخلاص، اذهب!‘ وذهبتُ”. وهكذا كرَّرَ لي خطابكَ وقال إنّكَ أبرأتَه بلمسة مِن يدكَ دون تَقزُّز. وقد كان عائداً مِن عِند الكَهَنَة بعد التطهير. كنتُ أعرفه، فقد كان يملك حانوتاً في القيصريّة. وأتيتُ أسأل عنكَ في المدن والقرى، حتّى وجدتكَ… ارحمني!»

«تعال، فما زال النُور يُبهِر الخارِج مِن الظلمة!»

«ستشفيني إذن؟»

يأخذه يسوع إلى بيت بطرس، في نور الحديقة الصغيرة الخافِت، ويضعهُ مُقابِلاً له، بحيث لا تكون البحيرة المتلألئة هي أول ما تراه العينان اللتان ستُشفَيان.. وقد بدا الرجل طفلاً مطيعاً بقدر ما كان مستسلماً دون سؤال.

«أبتاه! نوركَ لهذا الذي هو ابنكَ!» ويمدّ يسوع يديه على رأس الرجل الجاثي. يبقى هكذا لحظـة ثمّ يُبَلِّل أطـراف أصـابعه باللّعـاب ويمسـح بيده اليمنى العينين المتفتّحتين إنّما بغير حياة.

لحظة. ثمّ يُحَرِّك الرجل جفنيه. يفركهما مثل إنسان ما زال يستفيق، وما تزال غشاوة على عينيه.

«ماذا ترى؟»

«آه! آه! آه! يا أيّها الله الأزليّ! يبدو لي… يبدو لي… آه! أنّني أرى… أرى ثوبكَ… إنّه أحمر أليس كذلك؟ ويداً بيضاء… وحزاماً صوفيّاً… آه! يا يسوع الصالح، إنّ الرؤية تتحسّن باطّراد طالما عيناي تتعوّدان… ها هو عشب الأرض… وهذا بالتأكيد بئر، وهذه كرمة…»

«انهض يا صديقي.»

يَنهَض الرجل وهو يبكي ويضحك. وبعد لحظة مِن الصراع في داخله بين الاحترام والرغبة، يَرفَع رأسه ويُواجِه نظرة يسوع. يبتسم يسوع برحمة مُفعَمَة حناناً. يُفتَرَض أن تكون استعادة النَّظَر ورؤية هذا الوجه كشمس أولى، روعة لا يمكن وصفها. فيهتف الرجل ويمدّ يديه، إنّه فعل غريزي. ولكنّه يتوقّف.

إلاّ أنّ يسوع يفتح ذراعيه ويشدّ إليه الرجل قصير القامة جدّاً. «اذهب إلى بيتكَ الآن وكن سعيداً ومستقيماً. امض بسلامي.»

«يا معلّم! يا معلّم! سيّدي! يسوع! القدّيس! المبارك! النور… أنا أرى… أنا أرى كلّ شيء… ها هي البحيرة اللازورديّة والسماء الساكنة والشمس الغاربة والربع الأوّل مِن القمر… ولكنّ اللازورد الأجمل والصفاء الأكثر أراه في عينكَ. ففيكَ أرى جمال الشمس الأكثر حقيقة والأَلَق الأطهر للقمر الكلّيّ قدسه. يا نجم المتألِّمين ونور العميان والرحمة الحيّة الفاعِلَة!»

«أنا نور الأرواح. فكن ابناً للنور.»

«دائماً يا يسوع. عَهد أُجدّده مع كلّ رفّة جفن على حدقة عيني التي عادت إليها الحياة. فلتكن مباركاً أنتَ والباري تعالى!»

«ليكن الباري تعالى، الآب، مُبارَكاً! اذهب!»

ويمضي الرجل، سعيداً، هادئاً، بينما يَنزِل يسوع والتلاميذ الـمُندَهِشون إلى المركبين وتبدأ عمليّة الإبحار.

وتنتهي الرؤيا.


11 / 10 / 1944

أوّل أمس، وأمس، صَمت وليل. إنّما لا، فالهمّة لم تَفتر. بالفعل إذا كان صلاح الله قد صان جسدي الـمُنهَك والـمُنكَسِر بالألم الحاصل مِن تعب الكتابة، فلقد قَوَّى روحي بحضوره غير المرئي، الكامل لأجلي، الأبيض والمبتسم. وكلّ صفاء عينيه المقدَّسَتَين قد انسَكَبَ في قلبي. آه! يا كنزي المجهول مِن العالم! حتّى مِن العالم الأقرب إليَّ: حتّى مِن الذين يحيون معي ويَرَونَني مجرّد منشغلة بقراءة صلواتي أو في شغل الدانتيل، أو في تَناوُل الفاكهة أو في الكلام عن أشياء عاديّة، ولا يعرفون أنّ “الجزء الأفضل” مِن كياني لا يَفعَل سوى تمجيد الله الذي أراه ومُحادَثَته وسماعه. أحياناً، تأسرني ابتسامة لدى تفكيري بأنّ الذين حولي لا يعرفون مَن معي. وكذلك يتّفق أن أتألّم حين تجري بحضور القدوس، غير المرئي، الطَّاهِر والـمُمَجَّد، أحاديث خارجة عن القداسة وغير طاهرة ولا رائحة للمحبّة فيها. لا يستطيع الناس معرفة ذلك كما لا أستطيع أن أُحدّثهم عنه… ولكن أيّة صدمة أَتلقّى، وأيّ سهر أُمارِس لأُصلح بأفعال حبّ وإيمان ورجاء وطهارة، الصدمة التي يحسّ بها يسوعي مِن هذه الأحاديث! يفترض أن تكون هذه الصدمة قويّة جدّاً، لأنّها تُسبّب لي أنا الدودة المسكينة ألماً كبيراً بفعل أنّ يسوعي قد أشرَكَني بشيء يسير مِن طريقته في الإحساس والتفكير.

يعاودني هذا الصباح الشعور بهذه الفرحة الفاعلة التي هي فيَّ دائماً بمثابة التمهيد لكلامه. أُعَبِّر عن نفسي كما أستطيع. ويكون فرحي سلبيّاً عندما، مثل أمس وأوّل أمس، أَغتَبِط بالحضور دون دعوتي لخدمته. وفرحتي تكون إيجابيّة عندما يقول لي انطباع لا يمكن وصفه: «يا خادمة يسوعكِ، إنّه يناديكِ فاخدميه.» حينذاك أَعبُر مِن السَّكينة إلى فرح الروح، مِن السلام إلى خفّة تَرفَعني. لو كنتُ أستطيع الحركة، أظنّني سأنطلق إلى الأعلى وإلى الأسفل في المنزل، أو بالأحرى إلى الخارج بفعل فيض هذا الفرح وهذه القوة التي تخترقني. وكما أنّني وقتذاك، لا أستطيع التحرُّر إلّا بالنشيد… ثمّ ينتابني تَراخ لطيف يُغيّر وجهي، تَراخ أذوي فيه بلطف ليس مِن هذه الأرض. ثمّ أنتَقِل إلى العمل الحقيقيّ بكلّ معنى الكلمة: الكتابة بالإملاء أو وصف ما يَحضرني. فإذا كان موضوع الإملاء يتعلّق بفصل مِن الكتاب المقدّس، يبدأ يسوع بجعلي أفتح الكتاب المقدّس على الفصل الذي يريد شرحه لي. أمّا إذا كان الإملاء على العكس يجري دون مَرجع خاص، حينئذ يجعلني لا أحمل في يدي لا الكتاب المقدّس ولا أيّ كتاب مُكرَّس. وإذا كانت الرؤيا تحضرني كما قلتُ مع صورة أوليّة هي بشكل عام نقطة الأوج في الرؤيا، ثمّ تتوالى وفق الترتيب، وما أن تحضر حتّى أَختَبِر فرحاً أكثر حيويّة. وعندما تتوسّع الرؤيا بالترتيب، أبدأ مِن البداية، عندما تحضر للبدء بنقطة الأوج، أصف هذه النقطة، ثمّ عندما ما هو سابق أكتبه ومِن ثمّ التالي [هكذا كان في رؤيا الحاخام جملائيل في الأيّام العشرة الأوائل مِن شهر آب (أغسطس) على ما أظنُّ.]

لقد قال لي يسوع أن أكرّرها مرة أخرى لأوضِّح أكثر مَن يكون، أو مَن يريد الإبقاء على حالي في الظلّ. والآن هو يقول لي أن أفتح الكتاب المقدّس. فاليوم إذاً إملاء.


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.