ظهورات السيدة العذراء في المكسيك – الصورة العجائبية

4٬946

سيدة غوادالوبّي

عذراء غوادالوبّي - المكسيك
عذراء غوادالوبّي – المكسيك

ظهرت العذراء سيدة غوادالوبّي،  في بلاد المكسيك على شخص اسمه خوان دياغو، وهو هندي من قبيلة الأزتيك، ولد وثنياً سنة 1474 .  وبعد الاحتلال الأسباني لبلاد المكسيك، التي اكتشفها خريستوف كولومبو عام 1492، كان هو وامرأته وعمه من أوائل المتعمدين، فسمي خوان دياغو، وما لبثت أن توفيت امرأته فلزم هو وعمه قرية تولبتلاك الواقعة 12 كم شمالي مدينة مكسيكو، ينسج الحصر من قش ينمو على ضفاف بحيرة تكسيكو القريبة.

رغم نشأته الوثنية، أصبح دياغو، بعد العماد مؤمناً حاراً، محباً لله ومكرماً أميناً للسيدة العذراء، وكان يتوجه ماشياً كل يوم سبت إلى أحد أحياء مدينة مكسيكو ليشترك في القداس، في كنيسة للفرنسيسكان، إكراماً للبتول والدة الإله. أما الطريق فكانت تنساب بمنحدر تل تيباك وقد ارتفع قبل مجيء الأسبان هيكل وثني على قمته إكراماً للآلهة تيوتنانتسين الذي تفسيره “”أم الإله””.

في 9/12/1531، عند الفجر، وبينما كان خوان على درب التل المذكور، سمع نشيداً طروباً ينبعث من قمة الجبل، يشبه تغريد العصافير الكثيرة، ولما كانت القمة جرداء، استغرب الأمر وجعل يتفرس ويتفحص الموضوع، وإذا به يرى غيمة بيضاء يرتكز عليها قوس قزح برّاق الألوان، فارتاح لذلك المشهد الخلاب وخيل إليه أنه يرى الفردوس. ثم توقف التغريد وسمع صوتاً رقيقاً يناديه باسمه ليقترب. فتسلق القمة وإذا بسيدة بارعة الجمال تنتظره وسط الغيمة، ملامحها ملامح بنات بلده وثوبها لامع انفرش نوره على الصخور القائمة في المكان فكادت تصبح شفافة. فسجد خوان وانكبّ على وجهه، فخاطبته السيدة بلهجته:

– “”يا بُنيّ خوان، أين تتجه؟””، فأجابها: – “”أيتها السيدة النبيلة، أتوجه إلى كنيسة تلالتلولكو لأشترك في ذبيحة القداس التي يقيمها خدام الرب””.

– فأردفت: “”اعلم يا بُنيّ أني البتول العذراء مريم الدائمة البتولية البريئة والكاملة الأوصاف، والدة الإله الحق، باعث الحياة في الخلائق وسيد الأشياء القاصية والدانية، ورب السماوات والأرض… إني أريد أن يُشاد لمجد اسمي معبد في هذا المكان… وهنا، سأسكب على الشعب، ساكني هذه البلاد، حبي وحناني، ورحمتي وعوني وحمايتي… أنا أم الرحمة… أنا أمكم جميعاً… أنا أم البشر، أم جميع الذين يحبون ويلجئون إليّ بثقة بنوية… هنا، سأستمع لطلباتهم وأمسح دموعهم وأخفف آلامهم وأوجاعهم وأسد احتياجاتهم…، اذهب إلى مكسيكو واطلع الأسقف على رغبتي هذه وحدّثه عن جميع ما رأيت وسمعت، فأشكر لك خدمتك وأسعدك… اذهب بسلام يا بُنيّ…””

بعدما التقط خوان كل كلمة وتفهمها، سجد وقال: “”لبيك سيدتي النبيلة واطمئني، إني ذاهب للقيام بما أمرتني به””.

فانتصب وودعها وتوجه مسرعاً إلى المدينة، إلى دار الأسقفية.

 

خوان عند الأسقف

في الصباح الباكر من 9/12/1531، وقف خوان في باب الدار الأسقفية وطلب مواجهة المطران خوان دي زومارانما الفرنسيسكاني وقلبه يرقص من الفرح لرؤيته البتول القديسة. فعارضه المستخدمون وازدروه لما رأوا هندامه القروي واستخفّوا بجرأته واندفاعه لمواجهة المطران.

لكن خوان لم يقطع الأمل بل جلس عند باب الأسقفية ينتظر ميعاد المواجهة. وبعد برهة طويلة ضجر المستخدمون منه فأخبروا المطران، فأمر بدخوله.

عرض خوان، بسذاجة قروية، ما رأى وسمع… لكن الحبر الجليل، لما كان يعلم ما في طبيعة الهنود من تخيلات واهنة وأوهام باطلة، استمع إليه حذراً وكتم تعجبه الشديد وأنهى الجلسة باحترام وسأله أن يمهله بعض الوقت ليتدارس الأمر. فعاد خوان إلى بلدته فاشلاً وأيقن أن الأسقف لن يقتنع من حديث هندي أميّ فقير.

 

العذراء على الطريق تنتظره

وفي طريق العودة كانت العذراء في انتظار الجواب عند تل تبياك، فرآها خوان فأكب على الأرض وخاطبها والألم يحز في نفسه ومرارة الخيبة تحرقه… يا سيدتي وملكتي، لقد أبلغت رسالتك إلى الأسقف ولم يصدقني… أرجو أن ترسلي شخصاً آخر، من طبقة الأغنياء يلقى كل اعتبار. فإني كما ترين، فلاح فقير ورجل أميّ حقير وليست هذه الوظيقة من خصائصي.

فأردفت البتول: “” أنصت إليّ يا بني المحبوب واعلم أن الكثيرين من مكرمي ّ يلتمسون تلبية رغباتي، ولكن رغبتي هذه، من الضروري أن تتم على يدك. فأطلب إليك يا بني، أن تعود وتسرد على الأسقف نفس الكلام مرة أخرى””.

 

المواجهة الثانية

وفي صبيحة اليوم التالي 10/12/1531 عاد خوان إلى دار الأسقفية واستقبله الخدم بنفس الفتور والازدراء والملل، وبعد برهة طويلة، تمكن من مواجهة الأسقف وأعاد عليه نفس الحديث والدمع ينهمر من عينيه، وأضاف أن السيدة انتظرت الجواب بالأمس وأنها تترقب الجواب هذا المساء، عندها تبيّن للمطران مدى إخلاص وصدق هذ الفلاح البسيط فيما يقول، فقال له: “”أطلب إليك وإلى السيدة إشارة أو آية، تبرهن على صدق حديثكما. فعادت البهجة إلى خوان ووعد بوفاء الشرط المطلوب وانقلب عائداً إلى السيدة، إلى الجبل…

وعلى غير علم من الفلاح بعث المطران جاسوسين يراقبانه عن بعد ليتحقق من نواياه. ولما اقتربوا من الجبل، اختفى خوان عن أعينهما: فعادا إلى المدينة ينعتان خوان بالهرطقة والخداع… أما هو فتسلق القمة عند الغروب ورأى السيدة وبلّغها شروط المطران. فأجابته: “” بنيّ خوان، سأعطيك غداً الآية المطلوبة، فيطمئن الأسقف ولن يسيء الظن فيك وفي صدق رسالتك… اهدأ يا بنيّ ولا تضطرب، إني سأكافئك على جميع أتعابك… اذهب الآن بسلام وإلى الغد…””

 

نقض الموعد

عاد خوان إلى بيته فرحاً وفوجىء بانحراف صحة عمه الخطير: فقد أصيب بمرض محلي، اسمه كولولستل، فأخذ يحيطه بخدمته طيلة الليل وطيلة النهار التالي، حتى غفل عن الموعد المحدد مع السيدة. وفي صباح يوم 12/12/1531، إذ استفحل المرض في عمه، هرع خوان إلى تلالتلولكو، يستدعي كاهناً يمنحه الأسرار الأخيرة. وعند جبل تبياك، تذكر الموعد مع السيدة، فتحوّل إلى درب آخر، ليتحاشى رؤيتها وملامتها وليسرع في استحضار الكاهن. لكن السيدة فاجأته بظهورها وسط الغيمة اللامعة: فسجد إلى الأرض وألقى عليها السلام، والرعدة تهز كيانه… فابتسمت وكلمته بحنان أموي: “”بني خوان، إلى أين تتجه؟ ولما تحولت عن الدرب المعروف؟”” فاستعذ ر لها خوان واستأذنها كي يحضر الكاهن لعمه العليل. فأجابت السيدة: “”لا تقلق يا بني، ولا تيأس ألستُ أمك، ألستَ أنت ابني تحت ستر حمايتي؟ ألستُ أنا نبع الحياة لك، أم أحتضنك كالولد المحبوب؟ وهل تحتاج إلى أكثر من ذلك ألا يكفيك هذا؟ اطمئن، إن مرض عمك ليس للموت بل العكس إنه سيبرأ من علته في هذه اللحظة””.

ارتاح خوان لتصريحات السيدة السماوية وسألها عن بيته وعمه المريض، وطلب منها “”الآية”” المفروضة. فأمرته بالصعود إلى قمة الجبل لكي يلتقط الورود التي نبتت هناك وليضعها في معطفه، المسمى “”تلما”” فانصاع خوان لأوامرها مع علمه أن الورد لا ينبت على القمة الجرداء لاسيما في فصل الشتاء البارد. وتسلّق الجبل فوجد وروداً كثيرة فقطفها وحملها في “” التلما”” ورجع إلى السيدة، فرتّبها هي بنفسها في المعطف بتأن وقالت: “”هذه هي “”الآية المنشودة”” احملها إلى الأسقف فينصاع لكلامي ويشيِّد لي مزاراً في هذا المكان… انتبه… يا بني أنت رسولي الخاص! وإياك أن تبين ما في التلما ولا تفردها إلا أمام الأسقف…””. فانصرف خوان من حضرتها شاكراً ومودعاً، وتوجّه فرحاً مرحاً إلى دار الأسقفية. وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي رأى فيها السيدة السماوية.

 الورود العجيبة

العلامة العجيبة

وصل خوان إلى دار الأسقفية للمرة الثالثة وتكرّرت لجاجته وتكرّر استقبال المستخدمين الفاتر، وإذ هم كذلك تيقّظوا للمعطف واحتشدوا لرؤية ما فيه ولما صدّهم بشدة وعناد أكرهوه ورأوا الورد قصراً، فتعجبوا لجمالها الفريد وهبوا يخبرون الأسقف بما جرى: فأسرع المطران إلى استقبال الفلاح الهندي وإلى رؤية الورود العجيبة ففرد خوان التلما بكل وقار، فسقطت الورود وظهرت صورة للعذراء مريم مطبوعة عليها، مثلما رآها أربع مرات على الجبل. عند ذلك المشهد العجيب الغريب انتاب الأسقف خوف تقوي وسجد مع الحاضرين إلى الأرض واستغفر والدة الإله عن قلة إيمانه، فحمل الصورة العجائبية فنصبها في معبده الخاص إلى أن تُنقل إلى الكنيسة، المنوي بناؤها. ثم اختلى الأسقف بالهندي خوان دياغو واستفسر بدقة متناهية عن الظهورات التي جرت من التاسع إلى الثاني عشر من كانون أول وعن جميع الأحاديث التي تناولاها. وفي صباح اليوم 13/12/1531 رافق خوان الأسقف إلى جبل تيبياك ليتحقق من مكان الظهور ومكان منبت الورود وتمنى المطران لو يرى عم خوان المعافى ليسجل للتاريخ المريمي حقيقة شفائه العجيب. ثم عاد خوان إلى بيته ليرى عمه فوجده في تمام الصحة والعافية، فأخذ عمه يخبره كيف أتحفته البتول بظهورها وأبرأته وأطلعته على اسم المعبد المنوي بناؤه:

guadalupe

الصورة العجائبية

لا تزال صورة العذراء غوادالوبّي العجائبية محفوظة في معبد تيبياك منذ سنة 1531، كما انطبعت على معطف خوان دياغو أو “”التلما”” ومساحة المعطف 6X3 أقدام، مخيط قطعتين وهو نسيج صبار محلي يدعى “”ماغوي”” خشن، لا يصلح لوحة لفن تصويري.

أما ملامح العذراء فدقيقة جداً ولا يظهر على الصورة أي أثر لضرب فرشاة دهان وقد تفحّصها فنانون كثيرون وأجمعوا أنها ليست من صنع يد إنسان.

بشرة العذراء مائلة إلى السمار كبشرة بنات المكسيك، ووجهها ظريف جداً لم ير له المعجبون نظيراً في الأيقونات المريمية العديدة. عيناها تنظران بحنان والدي إلى أسفل ويديها مجتمعتان. ثوبها زهري وعباءتها زرقاء منقوطة بالنجوم. تخت أقدامها قمر نحاسي اللون وملاك يسند العباءة.

مزار “سيدة غوادالوبّي” في المكسيك

أمر الأسقف بالإسراع في تشييد معبد صغير على قمة جبل “”تيبياك”” وقد صار محجّاً ومزاراً للشعب المكسيكي. وعيّن خوان دياغو حارساً للمعبد. وذكر المؤرخون أن عدد الوثنيين الذين اهتدوا إلى الدين المسيحي، بلغ ثمانية ملايين شخصاً وهذا ما يساوي تقريباً عدد سكان المناطق الوسطى من المكسيك، كلها بسبب ما كانت تغدقه العذراء من النعم والعجاب في ذلك المعبد.

أما خوان فقد عاش في ظلّ المعبد 17 سنة وتوفاه الله عن عمر 74 سنة وبأمر من الأسقف دُفن هو وعمه داخل المعبد. ومع مرور الزمن توسع العمار وتطور إلى أن تحوّل إلى كنيسة كبيرة، دُشّنت سنة 1709. وفي أيامنا الحاضرة يسعى الشعب المكسيكي لاستبدال العمار القديم ببناء فخم، يتلاءم وتقدّم العصر.

حدث بعد ذلك العديد من المعجزات التي لا تصدق والشفاءات والتدخّلات التي نسبت بكاملها الى السيدة العذراء. ويقدّر عدد الزوّار سنوياً بعشرة ملايين زائر الى كاتدرائيّتها في مدينة المكسيك لتصبح بذلك أكثر المقامات المريمية شهرةً في العالم، وأكثر الكنائس الكاثوليكيّة زيارةً في العالم بعد الفاتيكان.

وقد بجّل 24 بابا مجتمعين سيدتنا سيدة غوادالوبي. وزارها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني أربعة مرات : في أول رحلة بابويّة خارج روما في 1979، ومرةً أخرى في 1990، و1999 و2002.

يحتفل بعيد سيدة غوادالوبي في الثاني عشر من ديسمبر. وفي 1999 أعلن البابا يوحنا بولس الثاني في عظته الدينية في القداس الذي أقامه في كاتدرائية سيدة غوادالوبي وذلك خلال زيارته الثالثة الى مقامها هناك أن يوم الثاني عشر من ديسمبر هو يوم دينيّ مقدّس لجميع القارة.

وخلال زيارته ذاتها عزى البابا يوحنا بولس الثاني سبب حياته الى حمايتها المحبّة وأوكل حيات الأطفال الأبرياء الى عنايتها الأموميّة، خاصةً أولئك المحاطون بخطر عدم الولادة.

“تمّت الموافقة على هذه الظهورات التي حصلت في غوادالوبي من قبل رئيس الأساقفة ألونسو دي مونتوفار عام 1555”

وقد جعل قداسة البابا بندكتوس الرابع عشر من “”سيدة غوادالوبّي”” شفيعة المكسيك وأمريكا اللاتينية بأسرها.

 

مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.