عقيدة مريم العذراء أم الله

10٬841

 مريم أم الله

سمّى المسيحيون الأوائل مريم العذراء بـ : “ثيوذوكس” باليونانية وتعني: التي تلد الله، التي تضع الله وقد اتفق على ترجمتها إلى لغات العالم بـ: “أم الله”.

جاء مجمع أفسس (431 م.) لينهي بعض الجدل الذي قام حول هذه التسمية. فقرر أن المسيح هو شخص واحد في طبيعتين. وأن مريم هي أم هذا الشخص الواحد ذو الطبيعة الإلهية والإنسانية, أي أن مريم هي أم شخص ابن الله، فهي حقاً ” والدة الإله “. وقد قال القديس غريغوريوس (330-395) قبل المجمع بكثير:” الإنسان ابن الله قد اتخذ لنفسه جسداً من مريم العذراء. لذلك حقٌ لمريم العذراء أن تدعى “والدة الإله”.

لم يلتئم مجمع أفسس لتحديد عقيدة بشأن مريم العذراء، بل لتجديد عقيدة بشأن السيّد المسيح. فأعلن، ضدّ نسطوريوس، أنّ المسيح شخص واحد في طبيعتين، وليس شخصين متّحدين أحدهما بالآخر كرامة وسلطة. وينتج من هذا التحديد أنّ مريم العذراء، التي هي أمّ هذا الشخص الواحد، شخص ابن الله، هي حقاً “والدة الإله”. لم يصدر عن المجمع قانون إيمان خاص. بل اكتفى المجمع بالموافقة على رسالة القدّيس كيرلّس إلى نسطوريوس. وقد جاء فيها:


” إنّنا نعترف بأنّ الكلمة صار واحدًا مع الجسد، إذ اتّحد به اتّحادًا أقنوميًّا. فنعبد الشخص الواحد، الابن الربّ يسوع المسيح. إنّنا لا نفرّق بين الإله والإنسان، ولا نفصل بينهما كأنّهما اتّحدا الواحد بالآخر اتّحاد كرامة وسلطة. فهذا القول ليس سوى كلام فارغ. ولا ندعو الكلمة المولود من الله مسيحاً آخر غير المسيح المولود من امرأة. إنّما نعترف بمسيح واحد هو الكلمة المولود من الآب، وهو الذي اتخذ جسداً. إنّنا لا نقول إنّ طبيعة الكلمة تغيّرت فصارت جسدًا، ولا إنّها تحوّلت إلى إنسان كامل مكوّن من نفس وجسد؛ ولكننا نؤكّد أنّ الكلمة، باتّحاده اتّحادًا أقنوميًّا بجسد تحييه نفس عاقلة، صار إنسانًا على نحو لا يفي به وصف ولا يمكن إدراكه، ودعي ابن البشر. هذه الوحدة لم تتمّ بأنّ الكلمة اتّخذ شخصاً وحسب. وإن اختلفت الطبيعتان اللتان اتّحدتا اتحادًا حقيقيًّا، ففي كليهما مسيح واحد وابن واحد… ليس أنّ إنسانًا اعتياديًّا وُلد من مريم العذراء ثمّ حلّ عليه الكلمة… فالكتاب المقدّس لم يقل إنّ الكلمة وحّد بين نفسه وشخص إنسان، بل قال إنّه صار جسدًا. وهذا التعبير “الكلمة صار جسدًا” لا يمكن أن يعني شيئًا آخر غير أنّه اتّخذ لحمًا ودمًا مثلنا أي جعل جسدنا جسدًا له. ووُلد إنسانًا من امرأة دون أن يخلع عنه وجوده كإله أو ولادته الأزليّة من الله الآب. ولكنّه مع اتّخاذه لذاته جسدًا بقي كما كان. هذا هو إعلان الإيمان القويم الذي ينادى به في كل مكان. وهكذا اعتقد الآباء القدّيسون، ولذلك تجرّأوا على أن يدعوا العذراء القدّيسة “والدة الإله”، ليس لأنّ طبيعة الكلمة أو ألوهيّته كانت بدايتها من العذراء القدّيسة، بل لأنّه منها ولد الجسد المقدّس بنفس عاقلة، وهو الجسد الذي اتّحد به شخصيًّا الكلمة الذي قيل عنه إنّه وُلد بحسب الجسد“.

 

 أبعاد “الأمومة الإلهيّة ومعانيها

إنّ حبل مريم العذراء بيسوع المسيح لم ينتج عنه إذاً تكوين شخص جديد لم يكن له وجود سابق، كما هي الحال في تكوين سائر البشر، بل تكوين طبيعة بشريّة اتّخذها الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، الموجود أقنومًا منذ الأزل في جوهر إلهي واحد مع الآب والروح. في يسوع المسيح ليس إلاّ شخص واحد، شخص ابن الله. وهذا الشخص هو الذي أخذ طبيعتنا البشريّة من جسد مريم، وصار بذلك ابن مريم وكائنًا بشريًّا حقيقيًّا كما ترنّم الكنيسة:

“اليوم بدء خلاصنا، وظهور السرّ الذي منذ الأزل. فإنّ ابن الله يصير ابن البتول. وجبرائيل بالنعمة يبشِّر. فلنهتف معه نحو والدة الإله: السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الربّ معك“.

 

مريم أمّ حقيقيّة

       إبن الله صار ابن البتول، وصارت هي “والدة الإله”. مريم هي أمّ المسيح الإله بكل ما في لفظة “أمّ” من معنى حقيقي وواقعي، على غرار أيّ أمّ أخرى من أمّهات البشر. لكنّ أمومتها هي من نوع خاصّ. إذ إنّ الأبوّة البشريّة لم يكن فيها أيّ دور. فقدرة العليّ هي التي ظلّلت مريم العذراء وبذرت الحياة في أحشائها. إنّ كون مريم لم تعرف رجلاً لا ينقض حقيقة أمومتها ولا يحطّ من شأنها. إنّ كون مريم العذراء ولدت كلمة الله وهي بتول لا يجعل منها أقلّ أمومة من سائر الأمّهات. بل على خلاف ذلك، يظهر فيها الأمومة. فبتوليّتها هي علامة ملء استسلامها لله، إله المحبّة والحياة. لقد استسلمت بكلّ كيانها لدعوة الله إليها لتصير أمَّا لابنه الوحيد، فصار كيانها كلّه شعلة حب وينبوع حياة بشريّة. وبقدرة الروح القدس الذي ظلّلها، استطاع كيانها البشري أن يكوّن كيانًا بشريًّا جديدًا. فهي إذاً فيض من الحياة وينبوع حياة. بحيث يصحّ القول إنّ مريم هي أمّ وأكثر أمومة من أيّ أمّ سواها، لأنّها وحدها، دون مباشرة رجل، أعطت ابنها وربّنا يسوع المسيح كلّ ما فيه من طبيعة بشريّة. إنّ ابنها قد استمدّ بشريّته كاملة من جسدها ودمها. بتعبير آخر، لم تكن مريم بحاجة إلى أن تضمّ بعضًا من مزاياها الأنثويّة إلى مزايا رجل من البشر لتكوين إنسانيّة ابنها. لقد أظهر علم الوراثة أنّ كلّ خليّة من خلايا جسم الطفل مركبّة بصورة متجانسة ومتساوية ممّا ينتقل إليها بالوراثة من كلا الوالدين. أمّا طبيعة المسيح الإنسانيّة فقد استمدّها كلّها من طبيعة أمّه.

مع الأسف, في وقتنا الحاضر, لم نعد نندهش لهذا اللقب ” أم الله “, فنحن نصليها مراراً وتكراراً وتخرج من فمنا دون شعور , فليس لدينا وقت للتأمل فيها والغوص في معناها واستخراج أسرارها لتدخل في حياتنا اليومية. ولكن مسيحيي الكنيسة الأولى دُهشوا وتسائلوا: كيف تكون هذه المرأة البشرية المخلوقة أم الله اللامحدود والكلي القدرة وخالق كل شيء ؟! . ولكن القديسة مريم هي حقاً أم الله. هكذا أوحى الله في الكتاب المقدس, وهكذا رأى الآباء القديسون ومجامع الكنيسة, وهكذا قالت مريم في ظهورها في غوادالوبي في المكسيك إلى خوان دييغو: “أنا الدائمة البتولية, أم الله الحق”.

هكذا أراد الله أن يولد ويتجسد في أحشاء مريم الطاهرة, والكلمة صار جسداً من الروح القدس ومن مريم وعاش بيننا ليحقق المخطط الإلهي الخلاصي للبشر.

مريم العذراء هي شفيعتنا لدى الله

مريم هي شفيعتنا لأنها أم الله . في قانا الجليل تشفعت مريم لدى ابنها يسوع, ومع أن ساعته لم تأت بعد, قَبِل شفاعتها وحوَّل الماء خمراً وأجرى أولى معجزاته, معجزة العرس والفرح . وهكذا يفعل ربنا وإلهنا يسوع المسيح دائماً إذا تشفعنا لديه بأمه مريم العذراء عن إيمان وثقة ومحبة.

في القرون الخامس والسادس عشر دخل الأتراك إلى أوروبا منتصرين لنشر الإسلام, وكان هناك خطر حقيقيّ وكبير على المسيحية في أوروبا, عندها سلّح البابا بيوس الخامس الكنيسة بالمسبحة الوردية للدفاع عن الحضارة المسيحية. وفي 7 تشرين الأول 1571 تقابل الأسطول المسيحي والأسطول التركي في معركة ليبانتو الشهيرة, وكان انتصار المسيحيين عظيماً وكبيراً, حتى أن السلطان التركي سليمان قال: أخاف من صلوات البابا للسيدة مريم أكثر من الجيوش الأوربية.

لقد ظهرت رسومات ونقوش وأيقونات تُظهر مريم العذراء رافعة يديها نحو السماء متضرعة إلى الله. هكذا نراه في نقوش دياميس روما والعملات البيزنطية والأختام الإمبراطورية ونقوش حجرية بارزة مثل النقش على واجهة كنيسة القديس ديمتريوس في حلب حيث تبدو مريم العذراء رافعة يديها مصلية ومتضرعة ومتشفعة ومتوسطة بين البشر وابنها يسوع المسيح ربنا وإلهنا.

مريم هي أمنا : ما أروع كلام يسوع المصلوب لأمه وليوحنا الحبيب : ” هذه أمك ” , ” هذا ابنك “. هكذا, وبكل محبة لنا, جعل يسوع أمه مريم أمنا كلنا. أم لكل البشرية, إنها حواء الجديدة لبشرية جديدة.

كلنا نحتاج إلى أم وخصوصاً في الأوقات الصعبة في الحياة, في الضعف, في الوحدة, في أوقات الشك, في الألم . ومريم تعزينا وتشجعنا وترافقنا في طريق يسوع .

مريم العذراء هي أمي : كان القديس ستانيسلاو يردد بشوق وحنان : ” أم الله هي أيضاً أمي “.

 مريم أم الله

مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.