مريم العذراء في قلب الثالوث الأقدس

3٬694

ثمّة كهنةٌ ومؤمنونَ لا يجدونَ في أنفسِهِم حاجةً إلى طلبِ شفاعة مريم ولا الالتجاء إلى حمايتِها، وهم أحرار في ذلك حتّى ولو أرادوا بمشيئتِهم الحرّة أن يتخلَّوا عمّن هي بنظر الكنيسة طريقنا الأمين نحوَ المسيح، ومرشدتِنا إليه. فالله يحترم حرّيّة الإنسان. ولكنّ حرّيّة الإنسان تستَحِقُّ لهُ الـمِدْحَةَ والـمَجدَ كما الخزيَ والدينونة.

مرضُ الغرورِ الروحيّ

هل الادّعاء أنّ الإنسانَ جدير بمخاطَبَةِ المسيح الربّ الّذي سيأتي بمجدٍ عظيم ليدينَ الأحياء والأموات، هو علامةُ بطولةِ فضائل؟

أتُراني، أنا، من أدّعي الجُرأةَ على مخاطبةِ المسيحِ ندًّا إلى ندٍّ، أَجِدُ نَفسَي طاهرًا بريئًا من الخطيئة جديرًا بمحاورة القدّوس الحيّ إلى دهرِ الدهورِ، سافِرَ الوجهِ، ولا أحتاجُ إلى رفيقٍ ولا دليلٍ ولا مُعين؟

أنا الّذي حُبلَ بي بالآثامِ وبالخَطايا وَلَدتْني أمّي، أأعلنُ نفسي قِدّيسًا كاملًا حتّى أدّعي أنّي، وحيدًا، بلا معونةِ العذراءِ والقدّيسينَ، أستطيعُ أن أبلُغَ ملءَ قامَةِ المسيح؟

إذا كنتُ أستطيعُ بلوغَ المسيح من دون مريم والقدّيسين، تُرى لماذا سألَ البابا فرنسيس المؤمنين، ساعة انتخابهِ، أن يصلّوا لأجله؟

ولماذا، في بدايةِ كلّ قدّاسٍ مارونيّ، يفتتحُ الكاهنُ صلاتَهُ بفعلِ توبة: «أيُّها الملكُ السماويّ اغفر لي ما خطئتُ بهِ إليك»؟ ولماذا يكرّرُ الشعبُ على مثالِهِ نفسَ الصلاة؟

ومن ثمّ، لماذا يسألُ الكاهن الشعبَ قائلًا: «صلّوا عنّي لأجلِ المسيح» فيجيبون: «قبلَ اللهُ قربانَكَ ورَحمنا بصلاتِك»؟

إذا كانَت صلاةُ مَريَم أمّ الله والرسل والقدّيسينَ والمعلّمين والشهداء أبطال الإيمان لا تُجدي نفعًا ولا تشكّلُ سَنَدًا للكاهِنِ، فلماذا يقومُ بهذه المسرحيّة الهزليّة طالبًا من الشعبِ إسنادَهُ بالصلاة، فيجيبونَهُ متواضعين أنّهُ هو بقربانِهِ وصلاتِهِ يستحقُّ لَهُمُ الرحمة؟

هذا دليلٌ ليتورجيّ كنسيّ أنّ صلاةَ الآخرينَ، وحتّى الخطأة منهم، هي حاجةٌ لكلّ مؤمن وسندٌ له في مسيرتِه نحو الله. كذلكَ بالفعلِ ذاتِهِ تكونُ صلاةُ مَرْيَم أمّ الله الفائقة القداسة هي خَيرُ ما يُعينُ المؤمِنَ في هذه المسيرة الشاقّة.

وهذا دليلٌ أيضًا أنّ أبناءَ الكنيسة لا يدّعونَ البطولةَ ولا القداسة، بل يُقرّونَ بضعفِهم وبعجزِهم بقواهم الخاصّة عن إرضاء الله، فيتواضعونَ سائلين العذراء والقدّيسن وكلّ المؤمنين أن يسندوهم بصلاتِهم، عاملين بحسب تعبير المزمور 51: «القلبُ المتخشّع المتواضع لا يرذلُهُ الله».

في الحقيقة، إنّ الخطيئة المفضّلةَ عندَ الشيطان هي الغُرور. الغرور والكبرياء فيروسانِ يضربانِ بسهولة نفوسَ البَشَر بشكلٍ كافٍ لإرضاءِ عدوِّ الله، الكذّاب أبي الكذب، قاتل الناس منذ البدء. أمّا التواضع فهوَ الفضيلة المفَضّلة عند الله الّذي يرفَعُ المتواضعين. هذه الفضيلة كانَت السببَ الأوّلَ في رِفعة مريم: «أنا أمةُ الربّ… تعظّم نفسي الربّ وتبتهجُ روحي بالله مخلّصي لأنّهُ نظَرَ إلى تواضعِ أمته. فها منذ الآنَ تطوّبني جميعُ الأجيال».

غرورُ «المتمكّنينَ من الله» يقودُهم إلى أسفل، وتواضعُ عارِفي الله البسطاء يرفعُهُم إلى اعلى.

ولأنَّ مريَم تواضعَت غايَةَ التواضع، وهيَ المختارة لتكونَ أمَّ القدّوس، رَفعَها اللهُ غايَةَ الرِفعَة وجَعَلَها شريكةَ الفداءِ وسلطانةََ السمواتِ والأرضِ والشفيعةََ الّتي لا يَرُدُّ لَها شفاعَةً.

تجسّد الله وتألّهُ الإنسان

فَهِمتِ الكنيسةُ، منذ بداياتِها، عبر الأناجيل وإلهامات الروح، أنّ الله تجسّدَ ليصير الإنسانُ إلَـهًا.

هذا ما قالَهُ يسوعُ المسيحُ نفسُهُ لليهود الّذينَ كانوا ينوون قتلهُ:

«… فأَتى اليَهودُ بِحِجارَةٍ ثانِيَةً لِيَرجُموه.أَجابَهم يسوع: (( أَرَيتُكم كثيراً مِنَ الأَعمالِ الحَسَنةِ مِن عِندِ الآب، فِلأَيِّ عَمَلٍ مِنها تَرجُموني؟)) أَجابَه اليَهود: (( لا نَرجُمُكَ لِلعَمَلِ الحَسَن، بل لِلتَّجْديف، لأَنَّكَ، وأَنتَ إنْسان، تَجعَلُ نَفْسَكَ الله)). أَجابَهم يسوع: (( أَلَم يُكتَبْ في شَريعتِكم: قُلتُ إِنَّكُم آلِهَة؟ فإِذا كانَتِ الشَّريعَةُ تَدعو آلِهَةً مَن أُلْقِيَت إِلَيهِم كَلِمَةُ الله – ولا يُنسَخُ الكِتاب – فكَيفَ تَقولونَ لِلَّذي قَدَّسَه الآبُ وأَرسَلَه إِلى العالَم: أَنتَ تُجَدِّف، لأَنِّي قُلتُ إِنِّي ابنُ الله؟ إِذا كُنتُ لا أَعمَلُ أَعمالَ أَبي فَلا تُصَدِّقوني. وإِذا كُنتُ أَعمَلُها فصَدِّقوا هذهِ الأَعمال إِن لَم تُصَدِّقوني. فَتعلَموا وتُوقِنوا أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب)) (يو 10: 31-38).

كرّر آباءُ الكنيسة التعبيرَ عن هذه الحقيقة مرارًا كما سنرى في هذه الأقوال:
يقول العلامة أوريجينوس: «صار مثلهم ليصيروا هم مثله، مشابهين صورة مجده (رو 8: 29). في مجيئه الأول صار مشابهًا لجسدِ تواضعنا (في 3: 21)، إذ أخلى نفسه وأخذ شكل العبد، حتّى يدخل البشر إلى شكلِ الله، يجعلهم على شبهه. هذا أيضًا ما قاله القديس إيريناؤس: «صار الله إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهًا»، والقديس إكليمنضس السكندري: «صار كلمة الله (اللوغوس) إنسانًا حتى تتعلم كيف يصير الإنسان إلهًا»، والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: «هكذا وُلد بالجسد حتى تولد أنت بالروح. ولد من امرأة لكي تكف عن أن تكون ابن امرأة، صار ابنًا للإنسان لكي يصير بنو الإنسان أبناء الله».

لا أظنُّ أحدًا ينعَتُ هؤلاء بالهراطِقة ولا بالكفّار، فهؤلاء هم آباء الكنيسة ومعلّموها الّذينَ نقلوا لنا الإنجيلَ وإيمانَ الرُسلِ بأمانَةٍ كاملة.

فإذا كانَ كلُّ إنسانٍ جديرًا بالصيرورة إلهًا باستحقاقات تأنسنِ ابن الله، فكَم بالأحرى تستحقُّ مريَمُ هذا التأليهَ وهيَ البريئةُ من دنسِ الخطيئة الأصليّة باختيارٍ إلهيّ ونعمة خاصّة، وهيَ الأَمَةُ (مؤنّث عبد) المصغيةُ الطائعَةُ طاعةً مطلقة مشيئةَ الله، نظيرَ ابنِها الّذي أخلى ذاتَهُ آخذًا صورةَ عبدٍ وأطاعَ حتّى الموتِ، موتِ الصليب، فرَفَعَهُ اللُه جدًّا، وهيَ الّتي صانَت بتوليّتَها طوالَ حياتِها وصانَت نفسَها عن كلّ خطيئة، وهيَ الّتي حمَلت في بطنِها، تسعَةَ أشهُرٍ، من هو سيّدُ السماءِ والأرض، ومِن جسدِها أخذَ جسدًا، فصارت بالفعلِ ذاتِهِ شريكةَ اللهِ وواسطتَهُ لتجسِّدِ الابنِ الكلمة في عالَمِنا.

إنّها الملآنة نعمة، إنّها المبارَكَةُ في النساء، إنّها شريكةُ الفداء، إنّها الفائقَةُ القداسةِ والنقاء، إنّها بابُ السماء، إنّها مريمُ العذراءُ، أمُّ الخليقةِ الجديدةِ وذُروَتُها. فيها، قَبْلَ كُلِّ إنسانٍ آخر، وأَسمى من أيّ قدّيسٍ آخر، يتحقّقُ هذا التأليهُ الّذي شاءَه الله في تجسّدِ ابنِه.

فإذا كانَ اللهُ قد شاءَ تأليهَنا، وإذا كانَت مَريم هيَ أفضلَ من عاش نعمة الله حتّى الملء، وإذا كانَت هيَ خَيرُ من يتحقَّقُ فيه هذا التأليه، فما بالُنا نتّهِمُ عِبادَها بتأليهِها، متنكّرينَ أنّ اللهَ نفسَهُ هو الّذي اختارَها ونقّاها وقدّسها لتكونَ باكورةَ من يتحقّقُ فيهم التأليهُ الّذي شاءه الله في التجسّد؟

الكنيسةُ تؤمنُ بالتأليه:

مكَّن التجسّد البشرية من الاتّحادِ مع الله. وعادةً يشير المؤلفون الأرثوذكس إلى هذا الاتّحاد على أنّه «تأليه».

الليتورجيّات الأصيلة في الشرق والغرب، وهيَ الشاهِدُ الأفضَلُ على مضمونِ الإيمان والعقيدة المسيحيّة، تعبّرُ عن هذا التأليه، وعن شوقِ البَشَرِ إلى بلوغِه عبرَ الصلاة ولا سيّما الاشتراكِ بالأسرار المقدّسة، الوسائط الإلهيّة الّتي سلّمنا إيّاها المسيح لتكونَ العاملَ الأوّل لتقديسِنا وتأليهِنا.

في القدّاس المارونيّ، كلّ يوم ومنذ قرونٍ طويلة، يتلو الكاهنُ والشعبُ هذه الصلاة:

«وحّدت (خلطتَ) يا ربُّ لاهوتَكَ بناسوتِنا وناسوتَنا بلاهوتِك، حيويّتكَ بميتوتَتِنا وميتوتَتِنا بِحيَوِيَّتِكَ. أخذتَ ما لَنا ووهبتنا ما لكَ لحياتِنا وخلاص نفوسنا. لكَ المجدُ إلى الأبد.

تُرى ما المقصود بِهذا؟ أليسَ أنّ اللهَ اشتركَ في بشريّتِنا، حتّى يُشرِكُنا عبرَ الأسرار المقدّسة بألوهتِه؟

وإذا كانَ المؤمنُ الخاطئ الضعيف، يتوقّع المشاركةَ في الألوهة بفضل الأسرار، فما القولُ في العذراء مريَم الّتي حملت يسوع ابن الله تسعَةَ أشهُرٍ في بطنِها، ومنحتهُ من جسدِها جسدًا؟ ألا تكونُ باكورَةَ من يشترك في ألوهةِ ابنِها ثمرةِ أحشائها؟

في القدّاس اللاتينيّ نجدُ صلاةً مشابهةً للصلاة المارونيّة، يتلوها الكاهن عند تحضير مزيج الخمر والماء في الكأس:

Comme cette eau se mêle au vin pour le sacrement de l’Alliance, puissions-nous être unis à la divinité de Celui qui a pris notre humanité.

ترجمتُها العربيّة: :«كما أنّ هذا الماء يمتزجُ بالخمرِ لأجلِ سرّ العهد، لنؤهّلنَّ نحنُ أيضًا للاتّحادِ بألوهةِ من أخذ بشريّتَنا».

من الواضِح أنّ الشرقَ والغربَ يجتَمعانِ على أنّ الأسرارَ المقدّسَةَ تُعطينا حظّ الاتّحادِ بألوهةِ المسيح.

نَعم نحنُ غالِبًا ما لا نستغلُّ هذه النِعمَة ونبقى بعيدينَ عن هذا الاتّحادِ بالألوهة بسبب خطايانا وجهالاتِنا. أمّا مرَيَم الّتي حملت المسيح كلّه بناسوته ولاهوته، بلحمه وعظمه ودمه، بالكمال والنقاوة والقداسة، عاصمةً نفسَها من الخطيئة، فهي بغيرِ شكّ، قد استحقّت، عن جدارة، هذا الاتّحاد بالألوهه، لذلك رفعَها الله إليه، بالنفس والجسد، لتُقيمَ في قلبه، في قلبِ الثالوثِ الأقدس.

مكانَةُ مريَم في قلبِ الله.

يقول يوحنّا الرسول في رسالته الأولى:

«أللهُ مَحبَّة فمَن أَقامَ في المَحَبَّةِ أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه» (1يو 4: 16).

كلامٌ جليٌّ صريحٌ واضحٌ معبّرٌ وصادِق: كلّ إنسانٍ يثبُتُ في محبّة الله، يقيمُ اللهُ فيه، ويُقيمُ هوَ في الله.

لكي نَفهَم، فهمًا أعمقَ، هذه الآية لا بدّ من أن نفهَم معنى عبارة «محبّة الله» في زَمنٍ ضاعَ فيه مفهوم الحبّ والمحبّة في زواريبِ المتعة والرغبة.

يسوع نفسُهُ يقولُ:

«مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي)). قالَ له يَهوذا، غَيرُ الإِسخَريوطيّ: ((يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟)). أَجابَه يسوع: (( إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً» (يو 14: 21-23).

مَن هوَ الإنسانُ الّذي ينطبِقُ عليهِ هذا الكلام بغير شائبة؟

من هو الإنسانُ الّذي سمِعَ كلامَ الله وحفظَه؟

من هو الّذي ثبتَ في المحبّة حتّى اتّباع يسوع إلى قمّة الجُلجُلة؟

أليسَت مريمُ «أُمُّه هي التّي كانت تَحفُظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها» لو 2: 51)، الّتي أصغت مطيعة لبشارة الملاك والّتي قبلَت سيفَ الحزنِ يجوز في قلبِها؟

أليسَت مَريَمُ أمُّ يسوعَ ابنِ الله هي الّتي لا يُمكنُ لأيّ إنسانٍ أنّ يحبّ المسيحَ اللهَ ابنَها مثلَها، ولا أنّ يحبَّ الآبَ الّذي اختارَها مثلَها، ولا أن يُحبَّ الروحَ الّذي حلّ فيها مثلها؟ أليسَت هيَ حبيبةََ الله الآب ومختارتَهُ، أليسَت هي عروسَ الروح القُدُسِ، أليسَت هيَ حبيبةََ يسوعَ الّذي حملته وأضعتهُ وربّتهُ واعتنت به حتّى انطلاقِه للبشارة؟ أليسَت هيَ من يستحقُّ قبلَ أيّ كائنٍ آخر أن تُقيمَ في قلبِ الله، في قلبِ الثالوث، في قلبِ الألوهة؟

مريمُ مسكنُ الثالوث

إنّ أناجيلَ الطفولةِ هي خيرُ شاهدٍ على أنّ مَرْيَم تسمو في القداسة على كلّ القدّيسين وأنّ دورَها في سرّ الفداء يسمو على دور كلّ إنسان آخر.

في إنجيل البشارة يدعوها الملاك بالملآنة نعمةً. هذه الصفة نجِدُها على لسان الرسول يوحنّا في مقدّمة إنجيله: «والكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ والحَقّ» (يو 1: 14). وهذا نوعٌ من المساواة بالكرامة بين يسوع ابن الإنسان وأمّه مريم.

في كلام أليصابات نجدُ أيضًا نوعًا من المساواة:

«فَهَتَفَت بِأَعلى صَوتِها: (( مُبارَكَةٌ أَنتِ في النِّساء ! وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ! مِن أَينَ لي أَن تَأتِيَني أُمُّ رَبِّي»؟  (لو 1: 42-43). لسنا نقرأُ خطأً: هي المباركةُ وهو المبارك.

أمّا النصّ الأكثرُ نطقًا فهو جوابُ الملاكِ على تساؤل مريم حول إمكانيّة حبلها بيسوع:

«فَقالَت مَريَمُ لِلمَلاك: ((كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً ؟)) فأَجابَها الـمَلاك: ((إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى» (لو 1: 34-35).

قليلٌ من التأمّل في هذه الآية يجعَلُنا نَفطَنُ سرّ مريَم وعظمةَ ما صنعُه الله بواسطتِها ولأجلِها وإلى أيّ كرامةٍ يَرفَعُها.

قبلَ أن ندخُلَ في التفاصيل هل من داعٍ للتذكيرِ بأنّ نِعَمَ الله الأبديِّ هي نِعَمٌ أبديّة عابرةٌ للزَمن، وأنّ الله لا يتراجعُ عن نعمةٍ منَحها؟ إنّ خسرانَ نعمةٍ ما هو ثمَنُ تجاهلِ الإنسانِ للنعمة وإهمالِها.

مَريَم كانت جديرةً بِنِعَمِ اللهِ، فصانَتها بالكمال والنقاوة والقداسة، لذلك رسخت فيها نِعَمُ الله رُسوخًا أبديًّا، بل صارت نعمُ الله جزءًا لا يتجزّأُ من مريم.

في التفاصيل:

إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ: ينزلُ الروحُ القُدُس على مريمَ زارعًا في أحشائها كلمةََ الله. وهذا الروح لن يغادِرَ مَريَم بعدَ إتمامِ مهمّته، فهو عروسُها الأبديّ الّذي يتّحدُ بها إلى الأبد، وكونَها حفظت الأمانة فاتّحادُها بِه كانَ كاملًا.

وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ: ما قُلناهُ عن الروح القدُس ينطبِقُ على الآب. فظلُّ الآبِ لن يغيبَ عن مَريَم إلى الأبد، لأنّه بمشيئته الحرّة اختارَها أن تكونَ أمًّا لابنه. والكتاب يقول: «إنّ كنّا غير أمناء فهو سيظلّ أمينًا». أتراهُ سيتنكّرُ لهذه الأمانةِ معَ مريمَ الّتي آمنتْ بما قيلَ لَها من عند الربّ؟

لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى: إبنُ مريَمَ هو قدّوسٌ أيّ هو الإلهُ المتجسّد.

هل يمكنُنا للحظةٍ واحدة أن نتّهم يسوع بالوصوليّة والغائيّة والاستغلاليّة؟

هل يُمكنُنا للحظة واحدة أن نفكّرَ أنّ ابن الله قد استعمل مَريَم كأداةٍ لتَجَسّدِه، ثمّ تخلّى عنها عندَما حقّق مُبتغاهُ؟ ألن تبقى مريمُ أمَّهُ المحبوبَةََ رأسَ أحبّائهِ، هو الّذي «تَرَعَرعَ تحتَ ذيلِ عنايَتِها واشتَدَّ مُمْتَلِئاً حِكمَة، وكانت نِعمةُ اللهِ علَيه» (لو 2: 40)؟ هل سينسى كيفَ كان «طائِعاً لَها، يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس» (لو 2: 51-52).

وإذا كانَ مات وقامَ وصعدَ إلى السماء، هل سيتخلّى عن هذه الأمِّ الكاملةِ، وهل سيصُمُّ أذنيه عن سَماع شَفاعَتِها، بعدَما استوى هو عن يمين أبيه وهيَ رُفِعَت، بعدَ نِياحَتِها، سلطانةً على السمواتِ والأرض؟

إذا كنّا نؤمنُ بكلامِ الإنجيل ونؤمنُ بما قالَهُ الملاك، فلا نستطيعُ أن ننكِرَ أنّ مريَمَ العذراءَ هي مسكنُ الثالوثِ الأقدس. وهيَ بكلّ جدارةٍ واستحقاقٍ تَعيشُ في قلبِ الثالوثِ والثالوثُ يعيشُ في قلبِها.

هذه هي مريَم الّذي يدّعي البعضُ أنّ المؤمنين يضعونَها موضِعَ الله.

لا هيَ ليست بحاجة ٍلأنّ يضَعَها أحدٌ في قلبِ الله، فاللهُ نفسُه سبقَ وجعَلَها شريكَتَهُ في تجسُّدِ المسيحِ وشريكَتَهُ في فداءِ الجِنسِ البَشَرِيّ وشريكَتَهُ في المَجْدِ الإلَهِيّ.

هذه هي أمُّنا مريَمُ الّتي علّمَتنا الكنيسةُ أن نصلّيَ إليها بثقة تامّة قائلين: «يا قدّيسة مريم، يا والدة الله، صلّي لأجلنا، نحن الخطأة، الآنَ وفي ساعة موتنا».

هذا ما علّمتناهُ الكنيسة وهذا ما سنفعلُهُ كلّ يومٍ حتّى ساعة موتِنا.

مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.