23- مريم وأليصابات تتحدثان عن أبنيهما | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
23- مريم وأليصابات تتحدثان عن أبنيهما
02 / 04 / 1944
يبدو أنّ الوقت صباح، وأرى مريم تخيط في الردهة. وأليصابات تروح وتجيء، تعتني بشؤون المنزل. كلّما دَخَلَت لا تتوانى أبداً في التوجّه إلى مريم لتمرّر يدها على رأسها الأشقر مُداعِبَة إيّاها، ويَبرز لونه الأشقر أكثر وهي قرب الجدران المظلّلة تحت شعاع جميل مِن الشمس التي تَدخُل مِن الباب المطلّ على الحديقة.
تنحني أليصابات لترى شُغل مريم -التطريز الذي بدَأَتهُ في الناصرة- والذي تعمل على إضفاء الجمال عليه.
تقول مريم: «عندي أيضاً كتّان أغزله.»
«لابنكِ؟»
«لا، لقد كان لديّ عندما لم أكن أفكّر بعد…» لم تُكمِل مريم ولكنّني أدركتُ «عندما لم أكن أفكّر بعد بأنّني سأكون أُمّ الله.»
«ولكن الآن يجب أن تستخدميه له. هل هو جميل؟ ناعم؟ فالأطفال كما تعلمين بحاجة إلى ثياب مُرهَفة جدّاً.»
«أعرف ذلك.»
«أنا كنتُ قد بدأتُ… متأخّرة، لأنّني أردتُ أن أتأكّد مِن أنّها ليست خديعة مِن الروح الشرّير. وعلى الرغم مِن… فقد اعتراني فرح عظيم لا يمكنه أن يتأتّى مِن الشيطان. ثمّ… تألّمتُ كثيراً. أنا عجوز حتّى أكون في مثل هذه الحال. لقد تألّمتُ كثيراً. وأنتِ، أفلا تتألّمين؟…»
«أنا، لا، لم أشعر يوماً مدى حياتي أنّني كنتُ أحسن حالاً مِن الآن.»
«أي نعم! أنتِ… لا عيب فيكِ، إذا كان الله قد اختاركِ لتكوني أُمّه. إذن فأنتِ لستِ خاضعة لآلام حوّاء. ثمّ إنّ الذي تحبلين به قدّوس هو.»
«يُخيّل إليَّ أنّ في قلبي أجنحة وليس ثِقلاً. يخيّل إليَّ أنّي أحمل في داخلي كلّ الزهور وكلّ العصافير التي تُغرّد في الربيع، وكذلك لذّة العسل وكلّ الشمس… آه! كم أنا سعيدة!»
«مباركة أنتِ! فأنا أيضاً منذ اللحظة التي رأيتُكِ فيها، لم أعد أشعر بثِقل ولا تعب ولا ألم. يبدو لي أنّني قد تجدَّدتُ وأصبحتُ شابّة ومُحرَّرة مِن شقاء الجسد كامرأة. فبعد أن قَفَزَ ابني مِن الفرح لدى سماعه صوتكِ، سَكَنَ مسروراً. يبدو لي أنّني أحمله في أحشائي كما في مهد حيّ، وأنّني أراه نائماً مُشبَعاً وسعيداً، يتنفّس كعصفور يستريح مطمئنّاً تحت جناح أُمّه… فالآن سأبدأ عملي، لم يعد يُتعِبني. إنّي لا أرى بوضوح، ولكن…»
«دعي عنكِ أليصابات! فأنا أفكّر أن أغزل وأن أنسج لكِ ولابنكِ. فأنا رشيقة وأرى بوضوح.»
«ولكن يجب أن تفكّري بابنكِ…»
«آه! لديّ متّسع مِن الوقت!… أفكّر أوّلاً بكِ وبابنكِ، وثمّ أفكّر بيسوعي.»
لقد كانت العبارة عذبة للغاية، وصوت مريم كان يتهلّل وهي تلفظ هذا الاسم، ثمّ تتلألأ عيناها بدموع فرح مُشرِقة بينما هي تنظر إلى السماء المضيئة واللازورديّة، هذا ما يفوق القُدرات البشريّة. يبدو أنّ النشوة قد استولت عليها ولم تعد تعي سِوى القول: «يسوع.»
فتقول أليصابات: «يا له مِن اسم جميل! اسم ابن الله، مخلّصنا!»
«آه! أليصابات!» وتتحوّل ملامح مريم لتبدو حزينة، حزينة، وتُمسِك يديّ نسيبتها التي تُصالِبهما على بطنها المنتفخ «قولي لي أنتِ يا مَن امتلأتِ مِن روح الربّ عند قدومي، وتنبّأتِ بما يجهله العالم. قولي لي: ماذا على ولدي أن يفعل ليخلّص العالم؟ الأنبياء… آه! مَن الأنبياء الذين يتكلّمون عن المخلّص! اسحق… هل تَذكُرين اسحق؟ “إنّه رجل الآلام، فبكدماته شُفينا نحن. لقد طُعِن وجُرِح بسبب ما اقترفنا مِن الآثام… أراد الربّ أنّ بالآلام… وبعد الحُكم رُفِع…” عن أيّ رَفع يتكلّم؟ إنّه يُدعَى حَمَلاً وأنا أفكّر… بحَمَل الفصح، حَمَل موسى، لذا فأنا أُقابِله بالحيّة التي رَفَعَها موسى على صليب. أليصابات!… أليصابات!… ماذا سيفعلون بابني؟ كيف عليه أن يتألّم ليخلّص العالم؟» وتبكي مريم.
تؤاسـيها أليصابات: «لا تبكي يا مـريم. إنّـه ابنـكِ صحيح، ولكنّـه أيضـاً ابن الله. والله سوف يفكّر بابنه وبكِ أنتِ أُمّه. وإذا ظَهَرَ كثيرون فيما بعد غليظي القلب تجاهه، فسيكون هناك كثيرون يحبّونه. كثيرون!… عَبْر قرون وقرون، سيتطلّع العالم نحو ابنكِ ويبارككِ معه، أنتِ: النبع الذي منه ينبع الفِداء. ومصير ابنكِ! إنّه مرتفع إلى درجة الـمَلِك على كلّ الخليقة. فكّري بهذا يا مريم. مَلِك: لأنّه سيفتدي كلّ ما كان قد خُلِق، ولهذا سيصبح الملك الكونيّ. وأيضاً سيكون محبوباً على الأرض عبر الأزمنة. ابني سيسبق ابنكِ ويحبّه. وهذا ما قاله الملاك لزكريّا وهو قد كَتَبَه لي… آه! يا له مِن ألم أن أراه صامتاً، زوجي زكريّا! ولكنّني أرجو، لدى ولادة ابني، أن يتحرّر الأب أيضاً مِن القَصاص الذي وَقَعَ عليه. صلّي معي أنتِ يا عرش قُدرة الله وسبب فرح العالم. ولكي أنال ذلك أُقدّم، بالقدر الذي أستطيعه، وليدي للربّ. إنّه له فعلاً وقد أعارَه لخادمته ليهبها الفرح بسماع مَن يدعوها “أُمّاً”. وتلك هي الشهادة لما فَعَلَهُ الله مِن أجلي. أريد تسميتَه “يوحنّا”. أليس ابني نعمة أم هو صدفة؟ أوليس الله هو الذي صَنَعَ بي ذلك؟»
«أنا واثقة تماماً بأنّ الله سيمنحكِ هذه النعمة. سأصلّي… معكِ.»
«أَحزَن كثيراً لرؤيتي إيّاه أَبكَم!…» وتبكي أليصابات. «وعندما يكتب لأنّه لا يستطيع الكلام، يخيّل إليَّ أنّ هناك جبالاً وبحوراً بيني وبين زكريّا. فبعد سنوات كثيرة مِن الكلام العَذب يبقى فمه الآن صامتاً. الآن بشكل خاصّ حيث لا شيء أجمل مِن الكلام عما سيحصل. أَمتَنِع حتّى عن الكلام لكي لا أراه يُجهِد نفسه بالحركات ليُجيبني. لقد بكيتُ كثيراً! لقد انتظرتكِ طويلاً! البلدة تَنظُر، تُثرثر وتنتقد. هكذا هو العالم! وعندما يكون هناك حزن أو فرح فالحاجة تكون ماسّة للتفهّم وليس للانتقاد. الآن يبدو لي أنّ الحياة ستكون أفضل بكاملها. أُحِسّ بالفرح يملأني منذ أن أصبَحتِ معي. أُحِسّ بأنّ اختباري سيمرّ وسأصبح قريباً سعيدة تماماً. سيكون هذا، أليس كذلك؟ إني مُذعِنة لكلّ شيء. ولكن ليت الله يصفح عن زوجي! للتمكّن مِن سماعه يصلّي كما في السابق!»
تُلاطِفها مريم وتواسيها، ثمّ، ولكي تسلّيها، تدعوها إلى نزهة في الحديقة الـمُشمِسة. وتذهبان معاً تحت عريشة منصوبة جيّداً، وتَصِلان إلى برج ريفيّ اتَّخَذَت طيور الحمام أعشاشاً في تجاويفه.
تَنثر مريم الحبوب وهي تضحك، وطيور الحمام تتهافت عليها مع الهديل وتطير حولها بشكل دائريّ. وتقف على رأسها وكتفيها وذراعيها مادَّة مناقيرها الورديّة لالتقاط الحبوب مِن تجاويف يديها، ناقرة بلطف شَفَتيّ العذراء الورديّتين وأسنانها التي تلمع في الشمس. تُخرِج مريم حبوباً شقراء مِن كيس معها وتضحك وسط هذه المنافسة العامرة على النَّهَم.
تقول أليصابات: «كم تحبّكِ! لم يمض على وجودكِ معنا بضعة أيّام وهي تحبّكِ أكثر منّي، أنا التي أعتني بها بشكل دائم.»
تستمرّ النزهة إلى أن تَصِلا إلى سياج مُغلَق في نهاية البستان حيث توجد عشرون عنزة مع جِدائها.
«هل أنتَ عائد مِن المرعى؟» تقول مريم وهي تُداعِب راعياً صغيراً.
«نعم، فأبي قال لي: “اذهب إلى البيت لأنّ المطر سينهمر قريباً، وهناك حيوانات ستضع صغارها، فاهتمّ بتأمين العشب اليابس لها واجعل مهد قشّ قريباً منها”. ها هو آت.» ويُشير إلى ما وراء غابة يأتي منها ثغاء مُرتَعِش.
تُداعِب مريم جَدياً أشقر كطفل يحتكّ بها، وتَشرَب مع أليصابات حليباً طازجاً حَلَبَه الراعي الصغير وقدّمه لهما.
يَصِل القطيع برفقة راعٍ ضخم مثل دبّ، إنّما يبدو أنّه رجل طيّب، فقد كان يحمل على كتفيه عنزة تئنّ، ويضعها على الأرض بلطف ويقول مُفسّراً: «سوف تَلِد ولم تعد تستطيع السير إلّا بصعوبة، فحَمَلتُها على كتفي ومشيتُ بسرعة لأصل بها في الوقت المناسب.» ثمّ يقود الولد العنزة التي تتعثّر متألّمة، إلى الحظيرة.
تَجلس مريم على صخرة تَلعَب مع الحِملان والجِّداء وهي تُقَرِّب زهر النفل مِن أفواهها الورديّة. ويَرفَع جَدي أبيض وأسود قائمتيه الأماميّتين ويضعهما على كتفيها ويشمّ شعرها فتقول له مريم وهي تضحك: «هذا ليس خبزاً، غداً سأجلب لكَ قطعة خبز. اهدأ الآن.»
وأَخَذَت أليصابات التي استعادت هدوءها تضحك.
أرى مريم تَغزل بسرعة، تحت العريشة حيث ينمو العنب. المفروض أنّ وقتاً قد مضى لأنّ ثمّار التفّاح بدَأَت تأخذ لونها الأحمر على الشجر، والنحل يطنّ قرب ثمر التين الذي نَضَج.
لقد أضحَت أليصابات ضخمة جدّاً وثقلت مشيتها. ومريم تنظر إليها بحنان. وحتّى مريم نفسها عندما تنهض لتلمّ الـمِغزَل الواقع بعيداً تبدو مكوَّرة مِن الجانبين وقد تبدَّلَت تعابير وجهها. لقد نضَجَت أكثر، فقد كانت شابّة صغيرة وهي الآن امرأة.
بدأ النهار يميل، وتَدخُل المرأتان إلى الداخل حيث أُشعِلت المصابيح. وفي انتظار العشاء مريم تنسج.
«ولكن ألا يتعبكِ حقّاً هذا؟» تسأل أليصابات وهي تشير بإصبعها إلى عمل النسيج.
«لا، اطمئني.»
«أمّا أنا فهذه الحرارة تتعبني. لم أكن أعاني، ولكن الحَمْل الآن أصبح ثقيـلاً على كُليَتَيّ العجوزتين.»
«تشجّعي، فقريباً ستلدين بالسلامة. وكم ستكونين سعيدة آنئذ! أمّا أنا فلستُ أرى ساعة أمومتي. ابني! يسوعي! كيف سيكون؟»
«جميلاً مثلكِ يا مريم.»
«آه! لا! بل أجمل! هو الله وأنا خادمته. ولكن قصدي مِن القول كان: “هل سيكون أشقراً أم أسمراً؟ هل ستكون عيناه كسماء ساكنة أم مثل أيائل الجبال؟ إنّي أتصوَّره أجمل مِن الشاروبيم، بشعر ذهبيّ وعينين بلون بحر الجليل عندما تبدأ النجوم ترتفع في أفق السماء، وفم صغير وأحمر مثل رمّانة انفَلَقَت على أُمّها، ووجنتين ورديّتين تماماً مثل هذه الوردة الشاحبة، ويدين كأنّهما في كُمّ زنبقة، وهما صغيرتان للغاية، وجميلتان للغاية، وقدمين صغيرتين تكادان تكونان على قدر ملء تجويف الكفّ وناعمتين لطيفتين ومخمليّتين، بل هما أكثر نعومة مِن تويج زهرة.
انظري، إنّني أُسقِط الفكرة التي أُكوّنها عنه على كلّ الجمالات التي توحيها لي الأرض. وأَسمَع صوته. عندما يبكي، صغيري، سيبكي قليلاً فقط مِن الجوع أو الوَهَن، وسوف يُسبّب ذلك ألماً كبيراً لأُمّه التي لن تستطيع… آه! لا، لن تستطيع رؤيته يبكي دون أن يُطعَن قلبها. سيكون صراخه مثل الثّغاء الذي يَصِلنا مِن هذا الحَمَل الصغير المولود حديثاً وهو يفتّش عن ضرع أُمّه، ولكي ينام يبحث عن دفء جزّتها. ضحكته تملأ قلبي المتعلّق بوليدي نشوة سماويّة.
سأُصبح عاشقة له، لأنّه إلهي، وحبّي له كعاشقة لن يتعارض مع تكريسي ذاتي للبتوليّة. ستكون ضحكته مثل هديل زغلول حمام صغير سعيد مُشبَع وراض في دفء عشّه. أفكّر في خطواته الأولى… عصفور يُنطنِط على حقل مُزهِر. والحقل سيكون قلب أُمّه الذي يحمي قدميه الورديّتين الصغيرتين بكلّ حبّه لكي لا يُواجِه أيّ شيء يمكنه أن يجعله يتألّم. كم أحبّ وَلَدي! ابني! ويوسف أيضاً سوف يحبّه!»
«ولكن يجب أن تخبري يوسف بذلك!»
تتجهّم مريم وتتنهّد. «كان ينبغي لي أن أخبره… كنتُ أرغب أن تُعلِمه السماء بذلك لأنّ الحديث في هذا صعب جدّاً.»
«هل تريدينني أن أكلّمه؟ أن أجعله يأتي مِن أجل خِتان يوحنّا؟…»
«لا، فلقد تركتُ لله مهمة إعلامه بمصيره السعيد كمربّي ابن الله. وهو سيتدبّر الأمر. قال لي الروح هذا المساء: “اصمتي، اتركي لي المهمة، سوف أبرّركِ”. وهو سيفعل، فالله لا يكذب أبداً، إنّه اختبار كبير، إنّما يمكن اجتيازه بمعونة الأزليّ. ولا يجوز لأحد سواكِ، أنتِ يا مَن باح لكِ الروح بذلك، أن يَعلَم مِن فمي بعطف الربّ حيال خادمته.»
«أنا قد التزمتُ الصمت دائماً حتّى حيال زكريّا الذي كان سيفرح كثيراً. إنّه الآن يعتقد أنّ أمومتكِ طبيعية.»
«أعلَم، ولقد أردتُ ذلك مِن قبيل الحيطة والحذر. فأسرار الله مقدّسة. ملاك الربّ لم يبح لزكريّا بأمومتي الإلهيّة. كان باستطاعته أن يفعل لو أراد الله ذلك، ذلك أنّ الله كان يَعلَم أنّ زمن تجسّد كلّمته في أحشائي وشيك. ولكنّ الله أخفى هذه الفرحة المشعّة عن زكريّا الذي رَفَضَ خصوبتكِ المتأخّرة باعتبارها مستحيلة. إنّني أَمتَثِل لإرادة الله. وكما رأيتِ، لقد عرفتِ أنتِ هذا السرّ الحيّ فيَّ… وهو لم يُلاحِظ شيئاً. وطالما لم يقع حجاب شكّه بما يخص قُدرة الله، فسيعيش بعيداً عن النور فائق الطبيعة.»
تتنهّد أليصابات وتلتزم الصمت.
يَدخُل زكريا، يُقدِّم لفائف لمريم، إنّها ساعة الصلاة قبل العشاء، ومريم هي التي تصلّي بصوت مرتفع بدل زكريّا. ثمّ يَجلسون إلى المائدة.
«عندما ترحلين مِن هنا، كم سنفتقد مَن يتلو لنا الصلوات!» تقول أليصابات وهي تَنظُر إلى زوجها الأبكم.
فتجيب مريم: «سوف تصلّي أنتَ آنذاك يا زكريّا.»
يهزّ رأسه ويكتب: «لن أستطيع الصلاة عن الآخرين، لقد أصبحتُ غير أهل لذلك منذ اللحظة التي شككتُ فيها بقُدرة الله.»
«زكريّا، سوف تصلّي، فالله غفور ويُسامح.»
يَمسَح العجوز دمعة ويتنهّد.
بعد العشاء، تعود مريم إلى أعمال النسيج، فتقول لها أليصابات: «هذا يكفي! إنّكِ تُجهِدين نفسكِ كثيراً.»
«إنّ زمن الولادة وشيك يا أليصابات، وأريد أن أصنع لابنكِ جِهازاً يليق بسابق الـمَلِك الذي مِن أصل داود.»
يَكتب زكريّا: «ممّن سيولَد؟ وأين؟»
تُجيب مريم: «حيث قال الأنبياء ومِن التي يختارها الله الأزليّ. كلّ ما يَصنعه ربّنا، تعالى، هو جيّد.»
يَكتب زكريا: «في بيت لحم إذن! قضاء يهوذا! سوف نذهب لتكريمه أيّتها المرأة. وأنتِ أيضاً ستأتين إلى بيت لحم مع يوسف.»
تخفض مريم رأسها فوق شغلها: «سوف آتي.»
وبهذا تنتهي الرؤيا.
تقول مريم:
«أُولى مظاهر حبّ القريب تُمارَس تجاه القريب. فلا يخيّل إليكِ أنّ ذلك تلاعب ألفاظ.
للمحبّة غاية مُضاعَفَة. الله والقريب. محبّة القريب تتضمّن تلك التي نمارسها تجاه أنفسنا. أمّا إذا أحببنا أنفسنا أكثر مِن الآخرين فلا نعود مُحبّين، بل نكون بهذا أنانيّين.
حتّى في الأمور الـمُباحَة، يجب أن يكون لنا فيها قَدر مِن القداسة يجعلنا نقدّم احتياجات القريب على احتياجاتنا. كونوا مطمئنّين يا أولادي: فالله يعوّض النفوس الكريمة بوسائل صلاحه الكلّية القُدرة. هذا اليقين جعَلَني آتي إلى الخليل لمساعدة نسيبتي في الحالة التي وُجِدَت فيها. ومع عزمي على العون البشريّ باندفاعي للعطاء إلى أبعد الحدود، أضاف الله على عادته عطية العَون فائق الطبيعة الذي لم يكن ليخطر لي على بال.
أَذهَب لتقديم العون المادّيّ، والله يُقدِّس استقامة مسعاي بتقديس ثمرة أحشاء أليصابات، ومع هذا التقديس الذي قَدَّس المعمدان مسبقاً، سَكَّنَ الآلام الجسديّة لابنة حوّاء المسنّة، والتي حمَلَت في سنّ غير عاديّة.
أليصابات، المرأة التي تملك الإيمان الجريء، والتي استسلَمَت بثقة لإرادة الله، استَحَقّت إدراك السرّ الكامن فيَّ. كَلَّمَها الروح بواسطة ارتكاض الجنين في أحشائها. لقد نَطَقَ المعمدان بحديثه الأوّل كمبشّر بالكلمة مِن خلال أشرعة الأوردة والجسد التي فَصَلَته عن أُمّه القدّيسة وبنفس الوقت وحَّدَته معها.
وأنا لم أرفض أن أقول لها، وهي الجديرة والتي تجلّى لها النور، عن مزيّتي كأُمّ الربّ. ذلك أنّ رفضي كان سيؤثّر في حَجب التسبيح الواجب لله، التسبيح الذي كنتُ أحمله في داخلي، وبما أنّني لم أكن أستطيع البوح به لأحد، فقد كنتُ أَسرُّ به للنباتات والزهور والنجوم، للشمس وغناء العصافير الشجيّ، للنِّعاج الوديعة والنور الذهبي الذي يَطبَع قبلاته عليَّ عندما يهبط مِن السماء، وكذلك لخرير الجداول. ولكنّ صلاة اثنين أَعذَب وأفضل مِن الصلاة منفَردِين. كنتُ أرغَب في أن يعرف العالم بأكمله مصيري، ليس مِن أجلي، إنّما لنتّحد معاً في تسبيح ربّي.
الحيطة والحذر مَنَعَاني مِن البوح بالحقيقة لزكريّا. فهذا كان سيُعتَبَر تجاوُزاً لعمل الله. فحتّى ولو كنتُ بالنسـبة لـه عروسـة وأُمّـاً، إلّا أنّني أبقى دائماً خادمته، ولا ينبغي بسبب حبّه الكبير أن أسمح لنفسي بأن أقوم مقامه وأن أتّخذ قراراً يجعلني في مرتبة أعلى منه. لقد تنبَّهَت أليصابات بقداستها للأمر وصَمَتَت، ذلك أنّ مَن يَكن قدّيساً يَكن دائماً خاضعاً ومتواضعاً.
يجب أن تجعلنا عطيّة الله دائماً أفضل. وكلّما تلقّينا منه العطايا كلّما وَجَبَ علينا العطاء، إذ كلّما تَلقّينا كلّما كان هو فينا ومعنا وكان ينبغي لنا أن نجتهد في الاقتراب مِن كماله. وهذا هو السبب الحقيقيّ الذي جَعَلَني أُرجِئ عملي الشخصيّ إلى مرحلة تالية وأَعمَل لأليصابات.
لم أدع مجالاً للخوف مِن عدم إيجاد الوقت أن يسيطر عليّ، فالله سيّد الزمن. وعندما نضع رجاءنا في الله نستفيد مِن عنايته نفسها في أمورنا الماديّة. الأنانيّة لا تَستَعجِل شيئاً، بل تؤخّر كلّ شيء، والمحبّة لا تؤخّر شيئاً، بل تَستَعجِل كلّ الإنجازات. احفَظوا ذلك جيّداً وعلى الدوام.
يا لهذا السلام في بيت أليصابات! فلو لم تراودني فكرة يوسف وفكرة ابني الذي عليه افتداء العالم، لكنتُ سعيدة. ولكن ها إنّ الصليب قد بدأ يُسقِط ظِلاله على حياتي، وكنتُ أَسمَع أصوات الأنبياء كالأجراس… كنتُ أُدعى: مريم. والمرارة كانت تمتزج دائماً بالعذوبة التي كان الله يَسكبها في قلبي. واستَمَرّت في تزايد مُطَّرِد حتّى موت ابني.
ولكن يا ماريا، عندما يدعونا الله إلى مصير أن نكون ضحايا مِن أجل جلاله، آه! ما أروع أن نُطحَن مثل الحبوب تحت حجر الرحى لنجعل مِن ألمنا الخبز الذي يقوّي الضعفاء ويجعلهم قادرين على كسب السماء.
يكفيكِ هذا الآن، فأنتِ متعبة وسعيدة. استريحي مع بركتي.»