50- يوحنا ويعقوب يُحَدِّثان بطرس عن المسيح | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}
50- يوحنا ويعقوب يُحَدِّثان بطرس عن المسيح
12 / 10 / 1944
فَجر ساكن تماماً على بحر الجليل. السماء والماء لهما انعكاسات ورديّة تختلف قليلاً عن تلك التي تُنير بنعومتها جدران الحدائق الصغيرة في قرية بحيريّة صغيرة، حيث ترتفع وتنفصل مُنحنية على أزقّة الشَّعر المشعّث والضبابيّ للأشجار الـمُثمِرة.
البلدة الصغيرة على وشك أن تستيقظ مع خطوات امرأة متّجهة إلى النبع أو إلى مغسل، وصيّادي سمك امتَلَأَت سلالهم وهم يتناقشون بصوت مُرتَفع مع باعة أتوا مِن مكان آخر، أو يحملون سلال السمك إلى بيوتهم. قلتُ بلدة صغيرة، إنّما ليست صغيرة جدّاً، بل هي بالأحرى مُتواضِعة، على الأقلّ مِن الجهة التي أراها منها، ولكنّها واسعة، يمتدّ الجزء الأكبر منها على طول البحيرة.
يَخرُج يوحنّا مِن أحد الأزقّة ويُسرِع باتّجاه البحيرة. يتبعه يعقوب إنّما بخطى أكثر هدوءاً. يَنظر يوحنّا إلى الزوارق الراسية، إلّا أنّه لا يجد الذي يبحث عنه. ثمّ يَلمَحه على بُعد بضعة مئات مِن الأمتار عن الشاطئ، أثناء محاولات الإرساء. يَصرخ عالياً مُلوّحاً بيديه «او! هي!» في نداء طويل وكأنّه المناداة المعتادة. ثمّ حين يرى أنّهم سَمِعوه، يشير بيديه بحركات كبيرة تعني: «تعالوا، تعالوا.»
لستُ أدري ماذا تَصَوَّر رجال المركب حتّى اندَفَعوا بتجذيف قويّ. ويتقدّم المركب بسرعة أكبر ممّا لو استُعمِل الشراع فقط. فربما يَستَخدِمون المجاذيف للإسراع أكثر. وعندما وَصَلوا إلى مسافة عن الشاطئ تقدّر بحوالي عشرة أمتار، لم يعد يوحنّا ينتظر. يَخلع معطفه وثوبه الطويل ويَرمي بهما على رمال الشاطئ، ثمّ يَخلع حذاءه ويرفع ثوبه التحتيّ بيده إلى مستوى الفخذين ويَنزل إلى الماء للقاء القادِمِين.
يَسأل أندراوس: «لماذا لم تأتيا أنتما الإثنان؟» أمّا بطرس فمستاء ولم يَقُل شيئاً.
يُجيب يوحنّا على أندراوس: «وأنتَ لماذا لم تأت معنا، أنا ويعقوب؟»
«أنا ذهبتُ إلى الصيد، فلا وقت لديّ أُضيّعه. أمّا أنتَ فقد اختفيتَ مع ذاك الرجل…»
«لقد أشرتُ إليكَ بأن تأتي. إنّه هو. لو كنتَ تَسمَع كلامه!… ولقد بقينا معه طوال اليوم وحتّى وقت متأخّر مِن الليل. والآن أتينا لنقول لكما: “أن تأتيا”.»
«إنّه هو؟ هل أنتَ متأكّد؟ إنّنا لم نكد نراه عندما أشار إليه المعمدان.»
«إنّه هو. وهو لم يُنكِر ذلك.»
يُهَمهِم بطرس وهو غير راض: «كل إنسان يقول ما يلائمه ليَفرض نفسه على الناس الساذَجِين. هذه ليست أوّل مرّة…»
«آه! سمعان! لا تتكلّم هكذا! إنّه ماسيا! وهو يعرف كلّ شيء! ويسمعكَ!» يوحنّا حزين وواجِم لكلام سمعان بطرس.
«هيّا! ماسيا! ولكَ أنتَ بالذات يُظهِر نفسه وليعقوب وأندراوس! ثلاثة جَهَلَة مساكين! سيأتي ماسيا بشكل آخر! سيسمعني! إنّما هيّا أيّها المسكين! لقد أُصِبتَ بضربة شمس مِن الأشعّة الربيعيّة الأولى. هيّا تعال إلى العمل، فهو أفضل، ودَع عنكَ كلّ هذه الخزعبلات.»
«إنّه ماسيا، أقول لكَ. لقد كان يوحنّا يقول أشياء مقدَّسة، إنّما هذا يتحدّث عن الله. فلو لم يكن المسيح لما استطاع قول كلام كهذا.»
يقول يعقوب بهدوء ولكن بتأثُّر: «يا سمعان، أنا لستُ طفلاً. أصبحتُ في هذه السنّ وأنا هادئ وأُفكّر. وأنتَ تعرف ذلك. لقد تكلّمتُ قليلاً، ولكنّني سمعتُ كثيراً خلال الساعات التي قضيناها مع حَمَل الله. وأقول لكَ بحقّ إنّه لا يمكن أن يكون إلّا ماسيا. لماذا عدم الإيمان؟ لماذا رَفْض الإيمان؟ هذا جائز لكَ لأنّكَ لم تسمعه، إنّما أنا فأؤمن.
هل نحن مساكين وجَهَلَة؟ هو قال تماماً إنّه أتى ببشرى ملكوت الله، ملكوت السلام، للمساكين والمتواضِعِين، للصغار قبل الكبار. قال: “لقد نال الكبار مسرّاتهم، وهي غير مَرغوب بها إذا ما قورِنَت بالتي جِئتُ أحمِلها. لدى الكبار إمكانيّة التوصّل إلى الإدراك عن طريق مَنابِع الثقافة. إنّما أنا فقد أتيتُ إلى الصغار في إسرائيل، وفي العالم، إلى الذين يبكون ويَرجون، إلى الذين يبحثون عن النور وهم جياع إلى الـمَنّ الحقيقيّ.
لَم يأتهم مِن العلماء لا نور ولا غذاء، إنّما فقط أعباء وظَلام وسَلاسل وسخرية. إنّي أدعو ’الصغار‘ وقد أتيتُ لِأَقلب العالم. ذلك أنّني سوف أُنزِل الـمُرتَفِعِين وأرفَع الـمُحتَقَرين في هذا الزمن. فليأتِ إليَّ مَن يريد الحقّ والسلام ومَن يرغب بالحياة الأبديّة. ومَن يحبّ النّور فليأتِ، أنا نور العالم”. ألم يَقل مثل هذا يا يوحنّا؟»
«بلى، ولقد قال: “لن يحبّني العالم، عالم الكبار، لأنّ الرذائل والعلاقات الوثنيّة قد أفسَدَته. سيكرهني العالم لأنّ ابن الظلام لا يحبّ النّور. ولكنّ الأرض لا تتألّف فقط مِن الأعيان، فهناك مَن يَختَلِطون مع العالم وهم ليسوا مِن هذا العالم. وهناك مَن هُم مِن العالم لأنّهم سجناء كالسمك في الشّبكة”. هذا بالضبط ما قاله لأنّه كان يتكلّم على ضفاف البحيرة ويُشير إلى شِباك مَسحوبة إلى الضفّة مع أسماكها.
لقد قال كذلك: “ما مِن سمكة مِن هذه الأسماك تريد الوقوع في الشّبكة. الناس كذلك لم يكونوا ليريدوا عن عَمد أن يكونوا فريسة الشيطان، حتّى الأكثر سوءاً، فإنّ هؤلاء، وبسبب الكبرياء التي تعميهم، لا يعتقدون بأنّه لا يحقّ لهم فِعل ما فَعَلوه. خطيئتهم الحقيقيّة هي الكبرياء، ومنها تَنبَثِق باقي الخطايا. إنّما بعدئذ، فالذين ليسوا سيّئين تماماً تكون رغبتهم بالانتماء إلى الشيطان أقلّ كذلك.
إلّا أنّهم يَقَعون بفعل الخفّة بواسطة ثِقل يجرّهم إلى العمق هو خطيئة آدم. لقد أتيتُ لأزيل هذه الخطيئة وأَمنَح مَن يؤمن بي قوّة قادرة على تحريرهم مِن الشِّراك التي تحتجزهم، بانتظار ساعة الفداء، وأُعيدُ لهم حريّة أن يتبعوني، أنا نور العالم”.»
«ولكن، إذا كان هو قد تكلم هكذا بالضبط، فيجب المضيّ إليه في الحال.» بطرس، باندفاعه الصريح الذي يَروق لي كثيراً، قد اتَّخَذَ قراراً مُفاجِئاً. وهو الآن يُنَفِّذه بإسراعه في إنهاء عمليّة الإرساء، إذ في هذه الأثناء كان المركب قد وَصَل إلى الضفّة وجَنَح به الأولاد بينما هُم يُفرِغون الشّباك والحِبال والأشرعة. «وأنتَ أيّها الغبيّ أندراوس لماذا لم تذهب معهما؟»
«ولكن… سمعان! لقد لُمتَني لأنّني لم أحملهما على المجيء معي… كنتَ تُهَمهِم طوال الليل، والآن أنتَ تلومني لأنّني لم أذهب معهما؟!…»
«الحق معكَ… إنّما أنا لم أكن قد رأيتُه… أمّا أنتَ فقد رأيتَه… والمفروض أن تكون قد رأيتَ أنّه ليس مثلنا… سوف يكون لديه ما هو أبهى!…»
يقول يوحنّا: «آه! نعم. لـه وجه! وعينان! أليس صحيحاً يا يعقوب؟ ونظرة، أيّة نظرة! وصوت!… آه! يا له مِن صوت! عندما يتكلّم نحسب أنفسنا نحلم بالفردوس.»
«هيا بسرعة، بسرعة، فلنمضِ لملاقاته. وأنتم (والكلام هنا للعمّال) احملوا كلّ شيء إلى زبدى وقولوا له أن يتدبّر أمره. سوف نعود هذا المساء للصيد.»
يلبس الجميع ثيابهم ويمضون. إنّما بَعدَ بضعة أمتار، يتوقّف بطرس ويأخذ يوحنّا مِن ذراعه ويسأله: «لقد قلتَ إنّه يعرف كلّ شيء ويُدرك كلّ شيء…»
«نعم. تصوَّر أنّنا عندما شاهدنا القمر في كبد السماء في الأفق قلنا: “مَن يَعلَم ماذا يفعل سمعان؟” قال هو: “إنّه يرمي الشبكة وقد عيل صبره لاضطراره أن يفعل ذلك بمفرده لأنّكما لم تَخرُجا مع المركب المماثل في ليلة يكون الصيد فيها ممتازاً… وهو لا يَعلَم أنّه بعد قليل لن يصطاد إلاّ بِشِباك مِن نوع آخر ليحصل على صيد مِن نوع آخر”.»
«يا رحمة الله! هو كذلك بالضبط! إذاً سَيُدرِك كذلك… كذلك أنّني كُدتُ أعتَبِره كاذباً… لا أستطيع الذهاب إليه.»
«آه! إنّه طيب جدّاً. وهو يَعلَم بالتأكيد أنّ هذه الفكرة قد خَطَرَت على بالكَ. كان يَعلَم ذلك. بالفعل، عندما تركناه قائلَين إنّنا ذاهبان لملاقاتكَ قال: “اذهبا، إنّما لا تَستَسلِما لكلمات السخرية الأولى. مَن يرغب في أن يتبعني عليه معرفة الصمود في وجه سخرية العالم وممانعات الأهل. إذ سوف أكون أرفَع مِن الدم ومِن المجتمع، وسأنتصر. ومَن يكن معي ينتصر للأبد”. وقد قال أيضاً: “اعرفا أن تتكلّما دون خوف. وبسماعكما سوف يأتي، فهو رجل ذو إرادة طيّبة”.»
«أهكذا قال؟ إذاً سآتي. تحدّث عنه، تكلّم بينما نحن نسير. أين هو؟»
«في منزل فقير. يُفتَرَض أن يكون بيت أصدقاء.»
«ولكن هل هو فقير؟»
«إنّه عامل مِن الناصرة كما قال لنا.»
«وكيف يتدبّر معيشته الآن إن لم يكن يَعمَل؟»
«لم نسأله، قد يكون الأهل يساعدونه.»
«كان يَجدر بنا أن نحمل معنا سمكاً وخبزاً وفاكهة… بعض الأشياء. نحن ذاهبون لمحادثة رابي، فهو تماماً مثل رابي، ومع ذلك نمضي إليه بأيد فارغة!… ليس هذا ما ينتظره منّا حاخاماتنا…»
«لكنّه لا يشاطرهم الرأي. لم يكن لدينا، أنا ويعقوب، سوى عشرين دانقاً. قَدَّمناها له على حسب عادة الحاخامِين، ولكنّه رَفَضَها. وعندما ألححنا قال: “الله يعيدها لكما مع بَرَكات المساكين. تعاليا معي”. وعلى الفور وَزَّعَها على أناس فقراء يَعرف بيوتهم. وسألناه: “يا معلّم، ألا تُبقي شيئاً لكَ؟” فأجاب: “المسرّة تَكمن في إتمام مشيئة الله وصنع مجده”.
فأضفنا أيضاً: “تدعونا، أيها المعلّم. ولكنّنا فقراء تماماً. ما تُراه يجب أن نجلبه معنا؟”. فأجابنا بابتسـامة جَعَلَتنـا بالفعـل نتذوّق الفـردوس: “إنّ مـا أطلُبـه منكمـا هـو كنز كبير”. فقلنا: “ولكن إن لم يكن لدينا شيء؟” قال: “هو كنز له سبعة أسماء، يمتلكه حتّى الأكثر تَواضُـعاً، بينما الـمَلِك الأكثر ثراء قد لا يمتلكه، وأنتما تمتلكانه وأنا أريده. اسَمعوا أسماءه: المحبّة، الإيمان، الإرادة الصالحة، النيّة المستقيمة، العِفّة، الإخلاص وروح التضحية. هذا ما أريده مِن الذي يتبعني، فقط هذا، وأنتما تمتلكانه في ذاتكما. هو يَرقُد مثل البِذار في الأخدود شتاءاً، ولكنّ شمس رَبيعي ستُنبِت فيه السنابل السبع”. هكذا تَكَلَّمَ.»
«آه! هذا يجعلني متأكّداً مِن أنه الرابي الحقيقيّ، المسيح الموعود، فهو ليس قاسياً على الفقراء ولا يَطلب مالاً… هذا يكفي حتّى يُقال عنه بأنّه قدّوس الله. فلنمضِ إليه بكلّ ثقة.»
وينتهي كل شيء.