19- إعلام يوسف بخبر حَبَل أليصابات | قصيدة الإنسان – الإله

1٬345
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

19- إعلام يوسف بخبر حَبَل أليصابات

25 / 03 / 1944

يَظهَر بيت الناصرة، حيث كانت مريم. مريم شابّة كما كانت يوم ظَهَرَ لها ملاك الله. لا شيء مثل رؤيتها يملأ نفسي مِن عطر البتوليّة في هذا المقام، مِن العطر الملائكيّ الذي ما زال يضجّ في الغرفة التي رَفرَفَ فيها بجناحيه الذهبيّتين، مِن العِطر الإلهيّ الذي تركّز كلّه على مريم ليجعل منها أُمّاً، الذي بات الآن يفوح منهاِ.

الوقت مساء، ذلك أنّ الظِّلال بدأت تجتاح الغرفة التي كان نور عظيم قد هبط عليها مِن السماء قبل حين.

مريم جاثية قُرب سريرها تصلّي، ذراعاها متصالبتان على صدرها، رأسها منحن إلى الأرض. إنّها ما تزال ترتدي الثياب التي كانت ترتديها أثناء البِشارة. وكلّ شيء على حاله: الغصن الـمُزهِر في مزهريّتها، الأثاث بنفس الترتيب. فقط الغزّالة والـمِغزَل كانا موضوعين في إحدى الزوايا مع ريشة مشاقة للواحدة والخيط اللامع الذي كَرَّ مِن الآخَر.

تُنهي مريم صلاتها، وتنهَض بوجه مشعّ وثغر باسم، ولكنّ دمعة تتلألأ في عينها اللازورديّة. تأخذ مصباح الزيت وتُشعِله بحجر صوّان. وتُبدي اهتماماً ليكون كلّ شيء في الغرفة مرتّباً. تُرتّب غطاء الفراش الذي كان في غير وضعه الصحيح. تُضيف الماء للمزهريّة حيث الغصن الـمُزهِر، وتَحملها إلى الخارج، إلى رطوبة الليل. ثمّ تعود. تأخذ غطاء الخزانة المطرّز والمصباح الـمُنار وتَخرج مُغلِقة الباب. تمشي بضعة خطوات في الحديقة الصغيرة على مدى المنزل، وتَدخُل إلى الغرفة حيث رأيتُ وداع يسوع ومريم. أعرفها رغم غياب بعض الأغراض التي كانت موجودة آنذاك.

تَغيب مريم في غرفة مجاورة صغيرة حاملة معها المصباح، وأبقى أنا هنا برفقة شغلها فقط الموضوع على زاوية الطاولة. أَسمَع الوقع الخفيف لخطى مريم التي تذهب وتجيء، أَسمَعها تحرّك الماء في غسيل شيء ما، ثمّ تقطع حطباً إلى أجزاء صغيرة، عرفتُ أنّه حطب مِن خلال الصوت الذي تُصدِره. وأُلاحظ أنّها تُشعِل النار.

ثمّ تعود لتَخرُج إلى الحديقة وتَدخُل ثانية حاملة تفّاحاً وخضاراً. تضع التفّاحات على الطاولة في صينيّة معدنيّة منقوشة يدويّاً: تبدو لي مِن النحاس المحفور، تعود إلى المطبخ (فهذه الغرفة هي حتماً المطبخ) يرتسم الآن لهب الموقد بفرح مِن خلال الباب المفتوح ويُراقِص الظِّلال على الجدار.

وبعد مضي وقت قصير تعود مريم حاملة قطعة خبز أسمر وفنجان حليب حارّ. تجلس وتغمس قطع الخبز في الحليب. تأكلها على مهل. ثمّ تترك نصف فنجانها وتَدخُل مِن جديد إلى المطبخ لتعود حاملة خضاراً تَسكب عليها الزيت لتأكلها مع الخبز. بعد شرب الحليب تأخذ تفّاحة وتأكلها؛ إنّها وجبة فتاة صغيرة. تأكل مريم ثمّ تفكّر وتبتسم لخاطرة داخليّة. تنهض وتُدير عينيها صوب الجدران التي تبدو وكأنّها تبثّها سرّاً. وكانت مِن وقت لآخر تبدو بمظهر جادّ، تكاد تكون حزينة، ثمّ تعود الابتسامة.

يُسمَع طرق على الباب، تنهض مريم وتفتح. يَدخُل يوسف. يتبادلان التحيّة، ثمّ يجلس يوسف على كرسيّ صغير مقابل مريم على الجهة الأخرى للطاولة.

يوسف رجل وسيم بكلّ عنفوان الشباب. كان ابن خمس وثلاثين سنة على الأغلب، بشعره الكستنائيّ الغامق، ولحيته باللون ذاته تحيط بوجه متناسق ذي العينين الوديعتين باللون الكستنائيّ المائل إلى السواد. الجبهة عريضة وملساء، الأنف صغير محدّب قليلاً، الخدّان مكوَّران باللون الأسمر إنّما ليس الزيتونيّ، والوجنتان فيهما ورديّتان. هو ليس ضخماً جدّاً ولكنّ صحّته جيّدة وهو قويّ.

قبل أن يَجلس يَخلع معطفه (وهو الأوّل الذي أراه بهذا الشكل) كان شكله مدوّراً مُقفَلاً عند العنق بمشبك أو شيء من هذا القبيل، مع قَبّة. وهو بنّي فاتح ومِن قماش غير نفوذ مِن الحرير الـمُصوَّف، يُشبه عباءة ابن الجبل المخصّصة للحماية مِن عوامل الطقس الرديئة. قبل أن يجلس يعطي مريم بيضتين وعنقود عنب، ليس طازجاً تماماً، ولكنّه محفوظ جيّداً.

يبتسم قائلاً: «لقد جلبوه لي مِن قانا، أمّا البيضتان فقد أعطانيهما قائد المائة مقابل إصلاح عربته. كانت عَجَلَة منها معطّلة وعامِلهُم مريض. إنّهما طازجتان، جَلَبَهما مِن قن الدجاج الذي في بيته. اشربيهما فسينفعانكِ.»

«غداً يا يوسف، فقد أكلتُ الآن.»

«أمّا العنب فيمكنكِ أكله، إنّه طيّب، لذيذ كالعسل، لقد حملتهُ بعناية كي لا أُتلِفه كلّية، فهناك غيره، سأجلب لكِ غداً سلّة صغيرة. لم أستطع هذا المساء لأنّني أتيتُ مِن بيت قائد المائة مباشرة.»

«آه! فأنتَ إذن لم تتعشَّ بعد.»

«لا، إنّما لا يهمّ.»

تَنهَض مريم مباشرة وتذهب إلى المطبخ لتعود حاملة الحليب مع زيتون وجبن. ثمّ تقول: «ليس لديّ شيء آخر، خذ بيضة.»

يرفض يوسف، فالبيضتان لمريم. يأكل بشهيّة، خبزاً مع الجبن، ويشرب الحليب الذي ما يزال فاتراً. ثمّ يأخذ تفّاحة مِن يدها. وينتهي العشاء.

تأخذ مريم تطريزها بعد أن ترفع الصحون عن المائدة. يساعدها يوسف الذي يبقى في المطبخ بينما تعود هي. أسمعه يتحرّك أثناء إعادة كلّ شيء إلى مكانه، ثمّ يزكي النار لأنّ الأمسية باردة.

حينما يعود تشكره مريم، ويتحدّثان. يروي يوسف كيف أمضى يومه. يتكلّم عن أولاد أخيه. يبدي اهتمامه بشغل مريم وأزهارها. ويعدها بجلب أزهار جميلة جدّاً وَعَدَه بها قائد المائة: «زهور غير موجودة عندنا. لقد جلبَها مِن روما. وقد وَعَدَني بشتلات منها. والآن، بما أنّ القمر ملائم فسوف أزرعها لكِ. إنّ ألوانها جميلة ورائحتها عَطِرة جدّاً. لقد رأيتُها الصيف الماضي، فهي تُزهِر في الصيف. سوف تعطّر لكِ كلّ المنزل. سأتمكّن مِن زراعتها وتطعيمها، فالقمر ملائم. إنّه الوقت المناسب.»

تبتسم مريم وتشكره. يخيّم صمت. ينظر يوسف إلى رأس مريم الأشقر، المنكبّ على التطريز نظرة حبّ ملائكيّ. بكلّ تأكيد، لو نَظَرَ ملاك إلى امرأة بحبّ الزوج لما كان نَظَرَ إليها غير هكذا.

مريم، كما لو أنّها اتَّخَذَت قراراً، تضع التطريز على صدرها وتقول: «يوسف، لديّ شيء آخر أقوله لكَ. كما تعلم ليس لديّ شيء أقوله بما أنّني أعيش في خلوة، ولكنّني اليوم أحمل بُشرى. لقد عَلِمتُ أن نسيبتنا أليصابات زوجة زكريّا تنتظر مولوداً…»

يُحملِق يوسف ويقول: «أفي هذا العُمر؟»

تجيب مريم مبتسمة: «في هذا العُمر. الربّ قادر على كلّ شيء، وقد شاء أن يمنح هذه الفرحة لنسيبتنا.»

«كيف عرفتِ هذا؟ ثمّ هل النبأ أكيد؟»

«لقد جاء مرسال ممن لا يعرفون الكذب. إنّي أرغب في الذهاب إلى أليصابات لأخدمها وأخبرها بأنّني أشاركها سرورها. لو سمحتَ لي بذلك…»

«مريم، إنّكِ عروستي، وأنا خادمكِ. كلّ ما تعملينه جيّد. متى تودّين الذهاب؟»

«في أقرب وقت. ولكنّني سأقيم هناك أشهراً بأكملها.»

«وأنا سوف أعدّ الأيّام في انتظاركِ. اذهبي مطمئنّة، وسأهتمّ ببيتكِ والحديقة. سوف تجدين زهوركِ جميلة كما لو كنتِ تهتمّين بها بنفسكِ. إنّما… انتظري، عليَّ أن أذهب قبل عيد الفصح إلى أورشليم لأشتري بعض الحاجيّات الضروريّة لعملي. إذا انتظرتِ بضعة أيّام، فسأصحبكِ إلى هناك، ليس أبعد، إذ يجب أن أعود بسرعة. ولكنّنا نستطيع أن نترافق حتّى هذا الحدّ. سأكون أكثر اطمئناناً إذا عَلِمتُ بأنّكِ لستِ وحيدة على الطرقات. وعند العودة ستُعلمينني لآتي لملاقاتكِ.»

«إنّكَ طيّب جدّاً يا يوسف. فليكافئكَ الربّ ببركاته، وليُبعِد عنكَ الألم. إنّي أصلّي إليه دائماً مِن أجل ذلك.»

ويبتسم العروسان العفيفان بطريقة ملائكيّة. ويخيّم الصمت برهة ثمّ ينهض يوسف ويرتدي معطفه ويضع قبّعته على رأسه. ثمّ يحيّي مريم التي نهضت بدورها وينصرف.

تنظر إليه مريم وهو يَخرُج، وتُطلِق زفرة كأنّ بها غمّاً، ثمّ ترفع عينيها إلى السماء وتصلّي بالتأكيد.

تُغلِق الباب، تَطوي الشغل، وتَذهب إلى المطبخ. تُطفئ النار أو تغطّيها. وتَنظر لترى إذا ما كان كلّ شيء مرتّباً في مكانه. تَأخذ المصباح وتَخرُج مُغلِقة الباب. تحمي بيدها الشعلة المتراقصة في رياح الليل الباردة. وتَدخُل إلى غرفتها وتصلّي أيضاً.

هكذا تنتهي الرؤيا.


تقول مريم:

«أيّتها الابنة الحبيبة، عندما انتهت النشوة التي ملأتني بفرح لا يمكن التعبير عنه، عادت أحاسيسي لتتفتّح على الأشياء الأرضيّة. أولى الأفكار الواخزة كَشَوك زهرة، التي وَخَزَت قلبي المغمور بزهور الحبّ الإلهيّ الذي أصبَحَ عروسي منذ زمن، كانت فِكرة يوسف.

لقد وهبتُ حبّي بالفعل لحارسي القدّيس المتيّقظ. منذ اللحظة التي أرادتني فيها المشيئة الإلهيّة، مِن خلال كلمة الكاهن، عروسة ليوسف، تمكّنتُ مِن التعرّف إليه وتثمين قداسة هذا البارّ. فباتّحادي به، أحسستُ بزوال وحدتي كيتيمة، ولم أعد أتحسّر على الهيكل، الملجأ الذي أضعتُ. كان تعويضاً لي عن عذوبة أبي الغائب. بقربه كنتُ أحسّ بالأمان كما بجانب الكاهن.

لقد هوى كلّ تردّد، ليس هوى وحسب بل نُسِيَ، لقد ابتَعَدَ كلّياً عن قلبي، قلب عذراء. كنتُ قد أدركتُ أنّ أيّ تردّد وأيّ تخوُّف لم يكن ليجد لـه طريقاً حيال يوسف الذي عهدتُ إليه ببتوليّتي، فكنتُ أكثر اطمئناناً عليها مِن طفل في أحضان أُمّه.

كيف سأخبره الآن أنّني سأصبح أُمّاً؟ كنتُ أبحث عن الكلمات لأنقل لـه الخبر. إنّ هذا البحث صعب. لم أكن أريد أن أتبجّح بنعمة الله، كما لم أكن أستطيع أن أبرّر أمومتي بأيّة طريقة غير القول: “الربّ أحبَّني مِن بين سائر النساء وجَعَلَ منّي، أنا خادمته، عروسة له”. أو أن أغشّه بإخفاء حالتي، وهذا ما لم أكن أريده أيضاً.

ولكنّني، بينما كنتُ أصلّي، قال لي الروح القدس الذي ملأني: “اصمتي أنتِ، واتركي لي الاهتمام بتسوية وضعكِ مع عروسكِ.” متى؟ كيف؟ لم أسأله. كنتُ دائمة الاتّكال على الله، كما تترك الوردة نفسها للماء الذي يحملها. لم يتركني الأزليّ أبداً دون عون منه. لقد سانَدَتني يده وحَمَتَني وقادَتني إلى هنا. وسوف يفعل ذلك الآن.

يا ابنتي، كم هو جميل ومؤاس الإيمان بالأزليّ، الله الصالح! يتقبّلنا بين ذراعيه مثل مهد. يحملنا مثل مركب إلى شاطئ الخير المضيء، يدفئ قلوبنا، يعزّينا ويغذّينا، يمنحنا الراحة والمسرّة ويهبنا النور ويهدينا. فالثقة بالله هي كلّ شيء لمن يثق به: يعطيه ذاته.

هذا المساء حَمَلتُ ثقتي كخليقة إلى كلّيّ الكمال. الآن أستطيع فعل ذلك لأنّ الله فيَّ. في البدء كنتُ أثق ثقة الخليقة المسكينة التي كُنتُها: دائماً لا شيء، حتّى ولو كنتُ المحبوبة كثيراً لكوني المنزّهة عن كلّ عيب. إلاّ أنّني الآن أملك ثقة إلهيّة لأنّ الله فيّ: عروسي، ابني! يا لها مِن فرحة! أن أتّحد بالله. ليس لمجدي ولكن لمحبّته في وحدة تامّة ولتمكُّني مِن القول له: “أنتَ، أنتَ وحدكَ الذي فيَّ، كن أنتَ الفاعل بكمالكَ الإلهيّ كلّ ما أفعله أنا.”

لو لم يقل لي هو نفسه: “اصمتي” لكنتُ تجرّأتُ أن أبوح ليوسف بوجه منخفض للأرض: “لقد حلَّ الروح فيَّ وأنا أحمل الآن بذرة الله.” وكان هو سيصدّقني، لأنّه كان يُقدِّرُني، ولأنّه، ككلّ الذين لا يكذبون أبداً، لا يمكنه الاعتقاد أنّ الآخرين يكذبون. نعم، لكي أُجنّبه الألم الـمُقبِل، كنتُ قد تجاوزت اشمئزازي مِن أن أنسب لنفسي فخراً كهذا. ولكنّني أطعتُ الأمر الإلهيّ. وخلال أشهر، ابتداء مِن هذه اللحظة، أُحِسُّ بأوّل جرح يدمي قلبي.

أولى آلامي، لكوني المختارة للمشاركة في الفداء، قد قدّمتُها لله وتحمّلتُها، لأعطيكم قاعدة للسلوك في أوقات الألم المماثلة، عندما يتوجّب عليكم الصمت في ظرف حادث يضعكم في جوّ غير ملائم أمام مَن يحبّكم.

دعوا لله مهمّة الحفاظ على سمعتكم والمشاعر التي تملأ قلوبكم. استحِقّوا، بحياة مقدّسة، حماية الله، ثمّ اذهبوا بسلام مطمئنّين حتّى ولو كان العالم كلّه ضدّكم، فسيُدافع هو عنكم لدى مِن يحبّكم، وسيُظهِر الحقيقة.

استريحي الآن يا ابنتي، وكوني ابنتي باستمرار.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.