17- البِشارة | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
17- البِشارة
08 / 03 / 1944
هذا ما أراه: مريم شابّة صغيرة، مظهرها يدلّ على أنّها لم تتجاوز الخامسة عشرة، في غرفة صغيرة مستطيلة، غرفة مناسبة بحقّ لصبيّة.
إلى جانب الجدار الأطول يوجد السرير: مَرقَد منخفض دون جوانب، مغطّى بحُصُر أو سجّاد، وكأنّها ممدودة على طاولة أو حصيرة قَصَب. إنّها بالحقيقة متصلّبة ولا تُشكّل انحناءات كما يحصل على أسِرّتنا. وعلى الجدار الآخر رفّ، عليه مصباح زيت ولفافات رقّ وأعمال خياطة مطويّة بعناية وكأنّها تطريز. وإلى الجانب، مِن جهة الباب المفتوح على الحديقة والمغطّى بستار يحرّكه هواء خفيف، تَجلس العذراء على كرسيّ صغير.
إنّها تَغزل كتّاناً ناصع البياض وناعماً كالحرير. ويداها الصغيرتان الأقلّ بياضاً قليلاً مِن الكتّان تُديران الـمِغزَل برشاقة. والوجه الصغير الفتي جميل جدّاً، بهيّ بانحناءته الخفيفة وابتسامته الرقيقة كما لو كانت تُداعِب أو تتبع فكرة عذبة.
صمت عميق في البيت الصغير والحديقة. سلام عميق على وجه مريم كما في محيطها. سلام وترتيب. كلّ شيء نظيف ومرتّب والجوّ العامّ متواضع في مَظهَره وفي الأثاث، تماماً كما في صومعة، مع شيء مِن التقشّف، ولكنّه بنفس الوقت ملوكيّ بسبب الصفاء والعناية التي بها رُتِّبت الأقمشة على السرير، واللفافات والمصباح وإناء النحاس الصغير قرب المصباح، والحاوي حُزمة مِن الأغصان الـمُزهِرة، أغصان درّاق أَمْ إجاص، لستُ أدري، ولكنّها بالتأكيد أغصان أشجار مثمّرة ذات أزهار تميل قليلاً إلى اللون الزهريّ.
مريم تُنشِد بصوت منخفض، ثمّ تَرفَع الصوت قليلاً. ليس ذاك الإنشاد العظيم، ولكنّه صوت يتردّد في الغرفة الصغيرة حيث يحسّ المرء وكأنّ نَفْسها ترتعش. لا أفهم الكلام، فهو بالتأكيد كلام عبريّ. ولكن بما أنّها تُردّد كثيراً «يهوه» أدركتُ أنّه ربما مِن التراتيل المقدّسة أو قد يكون مزموراً.
وقد تكون مريم تتذكّر تراتيل الهيكل، وقد تكون الذكرى عذبة، ذلك أنّها تضع يديها اللتين تحمل بهما الخيط والـمِغزَل على صدرها وترفع رأسها وتسنده مِن الخلف إلى الجدار؛ وجهها يشعّ بألوان حيّة، وعيناها تائهتان مع فكرة عذبة لستُ أدري ما هي، وقد أصبَحَتا أكثر إشعاعاً ببكاء مكبوت، لكنّه يجعلهما تبدوان أكبر. ومع ذلك، فعيناها تضحكان وتبتسمان لفكرة تتبعها فتعزلها عن محيطها. يَبرز وجه مريم مِن الثوب الأبيض البسيط جدّاً والمورّد، وقد خِيط بضفائر كأنّها التاج حول رأسها، حتّى لتحسبها زهرة جميلة.
تستَبدِل النشيد بصلاة: «أيّها الربّ السامي، لا تتأخّر في إرسال خادمكَ يحمل السلام إلى الأرض. أَوجِد الزمن المناسب والعذراء الطاهرة والمخصبة لمجيء مسيحكَ. أيّها الآب القدّوس، هَب خادمتكَ أن تَهِب حياتها لهذا الهدف. هبني ألّا أموت قبل أن أرى نوركَ وعدلكَ على الأرض، وأن أرى الفداء محقَّقاً. أيّها الآب القدّوس أَرسِل إلى الأرض مَن جَعَلَ الأنبياء يتأوّهون، أَرسِل إلى خادمتكَ الفادي. هَب لي ساعة انتهاء يومي أن يُفتَح لي مكان إقامتكَ، فإنّ أبوابه ستكون قد فُتِحَت بواسطة مسيحكَ لكلّ الذين يرجـونكَ. تعـال، تعـال يا روح الـربّ، تعـال إلى المـؤمنين الذين ينتظـرونكَ. تعـال يا أمـير السلام!…» وتبقى هكذا لا تعي لنفسها.
يتحرّك الستار بقوّة أكبر كما لو أنّ أحداً مِن الخارج يُحدِث تيّار هواء أو يهزّه ليُبعِده. ويَلِج نور أبيض وكأنّه مِن اللآلئ أو مِن الفضّة الصّرف يجعل الجدران المائلة إلى الاصفرار أكثر إشراقاً، ويجعل ألوان الأقمشة أكثر حيويّة، ويجعل وجه مريم المرتفع أكثر روحانيّة. في قلب هذا النور، ودون أن تَكشف السجّادة عن السرّ الذي يتمّ -حتّى إنّها لم تعد تهتزّ، بل تدلّت جامدة على الدعامات، وكأنّها جدار يَعزل الداخل عن الخارج- في قلب هذا النور يَظهَر رئيس الملائكة جاثياً.
بكلّ تأكيد، كان لا بدّ مِن أن يتَّخِذ مظهراً بشريّاً، ولكنّ مظهره هذا يفوق الشكل البشريّ. مِن أيّ نوع مِن الأجساد تشكَّلَ هذا الوجه البهيّ الساطع؟ ما جوهر المادّة التي صَنَعَهُ الله منها ليجعل أحاسيس العذراء تُدرِكه؟ وحده الله يمتلك جواهر المواد هذه ويستخدمها بشكل تامّ. إنّه وجه، جسم، عيون، فم، شعر، ويدان كالتي لنا، ولكنّه ليس مِن مادّتنا الكامدة غير النفوذة. إنّه نور أَخَذَ لون الجسد والعيون والشعر والشفاه، نور يتحرّك ويضحك ويَنظُر ويتكلّم.
«السلام لكِ يا مريم، يا ممتلئة نعمة، السلام لكِ!» صوت يتمتّع بانسجام عذب مثل اللآلئ التي تتساقط على معدن ثمّين.
ترتعش مريم وتَخفض عينيها، ترتعش أكثر عندما ترى هذا المخلوق النورانيّ جاثياً على بُعد متر منها تقريباً، ذراعاه متصالبتان على صدره ويَنظُر إليها باحترام لا متناه.
تنتَصِب مريم واقفة وتلتصق بالجدار. يشحب لونها، ثمّ يعلوها احمرار. وجهها يُعبِّر عن دهشة وذهول. تضمّ يديها بشكل لا شعوريّ إلى صدرها وتخبّئهما في كمّيها الطويلين. تنحني قليلاً لتُخفي ما أمكنها مِن جسدها. عادة حياء حلو.
«لا. لا تخافي فالربّ معكِ! أنتِ مباركة بين كلّ النساء.»
ويستمرّ خوف مريم. فَمِن أين أتى هذا غير العاديّ؟ هل هو مُرسَل مِن قِبَل الله أم مِن قِبَل الشيطان الـمُخادِع؟
«لا تخافي يا مريم!» يُكرّرها رئيس الملائكة. «أنا جبرائيل ملاك الله. وقد أرسَلَني الله لكِ. لا تخافي فقد نلتِ نعمة لدى الله، وها أنتِ تحبلين وتلدين ابناً وتسمّينه يسوع. هذا سيكون عظيماً وابن العلي يُدعى، سيكون كذلك بحقّ، وسيعطيه الربّ الإله عرش داود أبيه ويملك إلى الأبد على آل يعقوب، ولن يكون لِـمُلكه انقضاء. أَدرِكي أيّتها العذراء القدّيسة، محبوبة الربّ وابنته المباركة، والمدعوّة لتكوني أُمّ ابنه، أيّ ابن ستُنجِبين.»
«كيف سيكون هذا وأنا لا أَعرِف رجلاً؟ هل رَفَضَ الربّ الإله تقدمة خادمته، ولا يريدني أن أبقى عذراء مَحبَّة به؟»
«لا، لن يكون بفعل بَشَر أن تصبحي أُمّاً يا مريم. فأنتِ العذراء الأزليّة، قدّيسة الله. والروح القدس يحلّ عليكِ وقوّة العليّ تظلّلكِ. لذلك فالمولود منكِ يُدعى القدّوس، قدّوس هو وابن الله. وكلّ شيء مستطاع لدى الربّ إلهنا. وها إنّ أليصابات العاقر قد حَمَلَت في شيخوختها بابن سيكون النبيّ الذي يهيّئ الطريق لابنكِ. فالربّ قد مَسَحَ عنها العار، وذِكرها يدوم بين الأمم مرتبطاً باسمكِ مثل ارتباط اسم خليقته بقدّوسكِ، وحتّى نهاية الدهور تطوّبكما جميع الأمم بسبب حلول نعمة الربّ عليكما، وعليكِ أنتِ بشكل خاصّ، وقد حَلَّت على الأمم بواسطتكِ. أليصابات هي الآن في شهرها السادس، وحَملها يثير فرحها، وسيثيره أكثر عندما تَعلَم ببهجتكِ أنتِ.. لا شيء غير مستطاع لدى الله يا مريم الممتلئة نعمة. ماذا ينبغي لي أن أقول لربّي؟ لا تَضطَّرِبي لأيّة فكرة. الربّ يسهر على مصالحكِ إذا وثقتِ به. والعالَم والسماء والأزليّ ينتظرون كلمتكِ!»
تقول مريم، وهي الآن بدورها، ذراعاها متصالبتان على صدرها وقد انحنت انحناءة كبيرة: «ها أنا ذا أَمَة للربّ، وليكن لي بحسب قولكَ.»
يشعّ الملاك فَرَحاً. يَخشَع لأنّه بالتأكيد يرى روح الله نازلاً على العذراء المنحنية في قبولها. ثمّ يختفي دون تحريك السجّادة الستارة التي يتركها مُنسَدِلة على السرّ المقدّس.