3- في إرادة الله استخدام مريم في تقديس النفوس

2٬880

في إرادة الله استخدام مريم في تقديس النفوس

إنَّ الخطةَ التي اتخذَها الله في أقانيمه الثلاثة في التجسد وفي مجيء يسوع المسيح، الأول، يحافظ عليها دائماً في الكنيسة بنوع غير منظور، وسيُحافظ عليها حتى منتهى الدهور عند مجيءِ يسوع الثاني.

جَمَعَ الله الآب كلَّ المياه وسمّاها بحراً، وجمع كلَّ نعمه ودعاها مريم. لهذا الإله العظيم كنزٌ أو مخزنٌ غنيٌ جداً، أودع فيه كلَّ ما له من جميل ساطعٍ ونادرٍ وثمينٍ، حتى ابنَهُ ذاتَه. وما هذا المستودعُ اللامحدود إلّا مريم، التي لقّبها القديسون، كنزَ الرب، والتي من امتلائها أثرى الناس.

شاركَ الله الابنُ أُمّهُ في كل ما اكتسبه في حياته ومماته من استحقاقات لا متناهية وفضائلَ عجيبة، وأقامها وكيلةً على ما أعطاه له أبوه إرثاً. فبواسطتها يوزّعُ استحقاقاتِه على أعضائه ويشركُهم في فضائله، ويقسّمُ عليهم نعمَه، فهي قناتُه السرية وجدولُه الذي يجري فيه كلَّ مراحمه بلطفٍ وغزارة.

حبا الله الروحُ القدس، مريمَ عروسَه الأمينة بمواهبه ونعمِه لمن تريدُ وقدر ما تريد وكيفما تريد، وحينما تريد. فلا يمنح للبشرية أيّةَ هبةٍ سماوية إلّا ويجعلها تمرُّ بين يديها البتوليتين. لأنَّ هذه هي إرادةُ الله الذي أرادَ أن يكونَ لنا كلَّ شيءٍ بواسطة مريم. إذ هكذا يجعلُها العليّ، غنيةً ومتساميةً ومكرمةً تلك التي جعلت ذاتَها وكلَ حياتها فقيرة متواضعة ومختفية، إلى حد الملاشاة. هذه هي شعائرُ الكنيسة والآباء القديسين.

لو كنتُ أُخاطب نفوسَ هذا العصر القوية، لكنت أُثبّتُ بالتفصيل كُلَّ ما أقوله ببساطة، مستنداً على الكتاب المقدس والآباء القديسين، ذاكراً النصوص الأصلية ومؤكّداً بالبراهين الدامغة العديدة، التي يمكن الإطلاعُ عليها لدى الأب بواريه الذي سردَها مُطولاً في كتابه [الإكليل الثلاثي للعذراء القديسة]، ولكن إذ أتكلم خاصة مع الفقراء والبسطاء ذوي الإرادة الصالحة، الذين لهم إيمان أقوى من العلماء ويؤمنون ببساطة وباستحقاق أكثر، أقتصرُ على إعلان الحقيقة لهم دونَ التوقف لسردِ النصوص الأصلية التي لا يفقهونها، ومع ذلك فإني أسردُ نُتَفاً منها دون تصنّع.

إنَّ النعمة تُكمِّلُ الطبيعة، كما أنَّ المجد يكمّل النعمة. وإنه لأكيدٌ بأنَّ ربَّنا في السماء لا يزال كما كان على الأرض، أي ابنَ مريم. وبالنتيجة، لا يَزالُ محافظاً على خضوع وطاعةِ أكملِ البنين نحو خيرِ الأُمّهات. بيد أنه يجب الاحتراسُ من اعتبار هذا الخضوع تنازلاً أو عدمَ كمالٍ، في يسوع المسيح. لأنَّ مريم بما أنها أدنى من ابنها يسوع بنوعٍ لا متناهي، لأنَّه إله، كما تأمُرُ الأمُ الأرضية ابنَها الذي هو أدنى منها. وبما أنَّ مريمَ قد تغيَّرت تماماً في الله بالنعمة والمجد، التي تغيّر جميعُ القديسين فيه، لِذا لا تسأل ولا تريدُ ولا تعمل أمراً مخالفاً لإرادة الله الأزلي اللَّامتغير. وعليه عندما نقرأ مثلاً لدى القديسين برنردس أو برناردينوس أو بونافنتورا والخ… بأنَّ كلَّ شيءٍ في السماء وعلى الأرض، وحتى الله ذاته، هو خاضعٌ للعذراء الكليةِ القداسة، يقصدون بذلك بأنَّ السلطةَ التي أراد الله منحَها لها، هي عظيمةٌ بكذا مقدار حتى أنها تبان كأنَّ لها سلطةَ الله ذاته، وأنَّ صلواتِها هي قديرةٌ للغاية عند الله، فتظهر مثلَ أوامر لدى جلالتِه، فلا يقاوم أبداً صلاةَ أُمّه العزيزة، لأنها متواضعةٌ دائماً ومطابقة لإرادته.

إذا كان لصلاة موسى قوةٌ حتى تزيلَ غضب الربِ العلي اللامتناهية رحمتُه عن بني إسرائيل، إنّه لم يقدر أن يقاومَه، وكان يطلبُ إليهِ أن يتركَه يغضَب ويعاقِبُ الشعب العاصي، فكم يجب التفكير بأولى حجة عن فعالية صلاةِ مريم المتواضعة أُمِ الله المباركة التي تفوقُ صلواتِ وتشفعاتِ كل الملائكة والقديسين في السماء وعلى الأرض؟

تأمرُ مريم في السماء الملائكةَ والطوباويين، وكمكافأةٍ لتواضعها العميق، منحَها الله القدرةَ بملءِ العروش الفارغة التي طُرِدَ منها الملائكة الجاحدون والساقطون بسبب كبريائهم. فشاء العلي الذي يرفع المتواضعين (لوقا 1: 52) أن يجعلَ السماء والأرض والجحيم تخضع لأوامر مريم المتواضعة، التي أقامَها ملكةً على السماء والأرض، وقائدةً لجيوشه وأمينةً على كنوزهِ، وموزعةً لنعمه، وصانعةً الأعاجيب العظيمة، وفادية للجنس البشري ووسيطتَه، ومبيدةً لأعدائه والمشاركة الأمينة لعظائمه وانتصاراته.

يريد الله الآب أن يجعلَ له أبناءً بواسطةِ مريم حتى نهايةِ العالم، قائلاً لها: «أُمكثي في يعقوب» (الجامعة 24:13) أي اجعَلي مسكنَك ومقامَك في أبنائي ومختاري الممثلين في يعقوب وليس في أبناء الشيطانِ المرذولين المرموز إليهم بعيسو.

وكما أنه يوجد في الولادة الطبيعية أَبٌ وأُمٌ، هكذا أيضاً في الولادة الروحية الفائقة الطبيعة، يوجد أَبٌ وهو الله، وأُمٌ وهي مريم. فكلُ أبناءِ الله الحقيقيين والمختارين لهم الله مثل أب ومريم كأم. ومن لا يتخذ له مريم أُمّاً، فليس له الله أَباً. ليس الله أباً للمرذولين والهراطقة والمنشقين الذين يُبغضون أو يرذلون أو لا يبالون بالعذراء مريم، ولا مريم هي أُمٌ لهم ، لأن لو كانت حقاً أُمَهم لأحبّوها واحترموها، كما يفعل كلُ ابنٍ حقيقيٍ باحترام ومحبة أُمّه التي أعطته الحياة.

هذه هي العلامةُ المعصومة عن الغلط والتي لا يُمكنُ الارتيابُ فيها، للتمييز بين هرطوقي او رجل ذي تعليمٍ فاسد ومرذول، وبين المختارِ، وهي أن الأولَ يحتقرُ ولا يبالي بالعذراء الكلية القداسة، مجتهداً بأقوالِه ومِثالِه أن ينقصَ، خفيةً أو علناً، وأحياناً بحجج لامعة، الإكرامَ لمريم ومحبتَها. للأسف، إنَّ الله لم يقلْ لمريم، أن تعملَ في مثل هؤلاء مسكنَها، لأنَّهم أمثالُ عيسو.

يريد الله الابنُ أن يصوغَ ذاتَه في أعضائه، وإذا ما جازَ القولُ، أن يتجسَّدَ كلَّ يوم فيهم، بواسطة أُمّه العزيزة، فيقول لها: «رثي في اسرائيل» (سيراخ 24: 13) كما لو أراد القول: إنَّ الله الآب أعطاني جميعَ شعوبِ الأرضِ ميراثاً، وكلَ البشر الصالحين والطالحين والمختارين والمرذولين، فسأقود بعضَهم بقضيبٍ من ذهب وغيرَهم بقضيب من حديد. سأكون أباً ومحامياً للبعض، ومنتقماً عادلاً للآخرين، وحاكماً للجميع. وأما أنت يا أمي، فلن يكونَ ميراثُكِ ومُلككِ إلا المختارين. وكالأُم الصالحة سوفَ تلدينهم، تغذينهم وتربينهم، ومثل ملكتهم ستقودينهم وترعينهم وتذودين عنهم.

«إنسان وإنسان وُلد فيها» (مز 86: 5) يقول الروح القدس. فحسب أوريجانوس والقديس بونافنتورا، إنَّ الإنسان الأول الذي وُلد من مريم هو الإنسان الإله، يسوع المسيح، والثاني هو إنسان محض، ابنُ الله ومريم، بالذخيرة. فإذا ولد يسوع المسيح، رأسُ البشرية منها، فالمختارون الذين هم أعضاءُ هذا الرأس، يجب أن يولدوا منها أيضاً كنتيجة ضرورية، لأنّ لا يمكن أن تنجبَ نفسُ الأم رأساً بلا أعضاء، ولا أعضاءً دون رأس، وإلا يكون مسخاً في الطبيعة. هكذا أيضاً في حقل النعمة، يولدُ الرأس والأعضاء من أُمٍ واحدة، فإذا وُلد عضوٌ لجسدِ يسوع السري، من أُمٍ أخرى، غير مريم التي أَنجبتِ الرأس، فلن يكونَ هذا لا عُضواً ليسوع ولا منتخباً منه، بل سيكون مسخاً في حقل النعمة.

ثم بما أنَّ يسوعَ المسيح هو الآن كما في الماضي، ثمرةُ مريم، كما تُرددُ ذلك السماء والأرض ألفَ وألفَ مرةٍ كل يوم «مباركة ثمرة بطنك يسوع»، فإنه لأكيد أيضاً بأنّ كل إنسانٍ، خصوصاً من يمتلكُ يسوع، يصبح هو أيضاً ثمرةَ مريم وعملَها، كما هو كلُّ العالم بالعموم. بنوع أنه إذا ما يمكن أن يقولَ بجرأةِ أحد المؤمنين بيسوع المسيح والمهذبي القلب، «الشكر الجزيل لمريم لأنَّ كلَ ما أملكه هو ثمرتُها ومن مفعولها وبدونها، لما كنتُ أحصل عليه»، لذا يمكن لمريم أن تقولَ بدورها أكثرَ مما كان يقوله القديس بولس: «الذين ألدُهُم ثانية، إلى أن يُصاغَ المسيح فيكم»(غلاطية 4: 19) أي ألدُ كلَ يومٍ أبناءَ الله، إلى أن يُصاغَ يسوع المسيح إبني فيهم في عمرٍ كامل.

يكتبُ القديسُ أوغسطينوس بهذا الخصوص، هذه الكلمات الذهبية: «لكي يصيرَ كلُ المنتخبين مطابقين لصورة ابنِ الله، فإنهم يختفون في هذا العالم في أحشاء العذراء الكليةِ القداسة حيثُ تحرسهم وتغذيهم وتربيهم وتنميهم هذه الأُمُ الصالحةُ إلى أن تَلِدَهم للمجد، بعدَ المماتِ. في ذلك اليومِ الذي يصبحُ حقاً يومَ ميلادِهم كما تُسمي الكنيسة موتَ الصديقين». فيا لَسرِ النعمة غيرِ المعروف من المرذولين والمعروفِ قليلاً من المنتخبين.

يريد الله الروحُ القدس أن يصوغَ المختارين في مريمَ وبواسطَتها، فيقول لها: «ألقي الجذورَ في مختاري: (سيراخ 24: 13)، أي أَلقي يا عروستي الحبيبة، جذورَ جميعِ فضائلكِ في مختاري، لكي يتقدموا من فضيلة إلى أخرى، ومن نعمة إلى نعمة. إني وجدت سروراً عظيماً فيك، عندما كنت على الأرض حيث مارستِ أسمى الفضائل، كم أشتاق الآن أيضاً أن أجدَكِ على الأرضِ دون أن تتركي السماء، فصوّري ذاتَكِ في مختاري لأرى فيهم بلطف، أُصولَ إيمانك الذي لا يُغلَب، وتواضعَكِ العميق، وأمانتَك التامةَ وصلاتَك السامية ومحبتَك المتقدة ورجاءكِ الوطيد بكلمة، كلَ فضائلك. إنك عروستي الأمينة دوماً، الطاهرة والخصبة، فليُعطِ لي إيمانُك، مؤمنين، وطهارتَك عذارى، وخصوبتَك، مختارين وهياكل.

عندما تُلقي مريم جذورَها في نفسٍ ما، فإنها تصدر فيها عجائبَ النعمة التي هي وحدَها تقدر أن تصدرَها، لأنها هي وحدَها العَذراء الخصيبة التي لم يصِرْ لها شبيهٌ في الطهر والخصوبة. ولن يصيرَ لها قط.

أعطت مريم مع الروح القدس، أعظمَ ما يمكن وجوده وهو الإله الإنسان يسوع المسيح. وستقدم بالنتيجة أعظمَ الأشياء التي يمكن ان تكونَ في الآونة الأخيرة. إنَّ تربيةَ وتهذيبَ القديسين العظام الذين سيوجدون في نهاية العالم، هي محفوظة لها، لأنْ لا يوجد إلَّا هذه العذراء الخارقة العادة والعجائبية التي تقدر باتحادها الروح القدس أن تعملَ أُموراً خارقةَ العادة وعجيبة.

ولما يجدها الروحُ القدس في نفسٍ ما، فإنه يطيرُ إليها، ويملأُها تماماً، مانحاً ذاتَه بفيضٍ لها، وعلى قدر ما تفسح المجالَ لمريم، إنَّ أحدَ الأسبابِ التي لأَجلها لا يعملُ الآن الروحُ القدس، عجائبَ ساطعةً في النفوس، هو لأنه لا يجدُ فيها اتحاداً مكيناً مع مريم.


كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
 ✞  السابق     ✞  البداية     ✞  التالي 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.