39- مريم معلّمة يسوع ويهوذا ويعقوب | قصيدة الإنسان – الإله

1٬193
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

39- مريم معلّمة يسوع ويهوذا ويعقوب

*ملاحظة: يهوذا المذكور هنا هو يهوذا تدّاوس أبن عم يسوع وليس الأسخريوطي

29 / 10 / 1944

يقول يسوع:

«تعالي يا محبوبتي الصغيرة وانظري. ويدكِ في يدي، عودي إلى الوراء، إلى سنيّ طفولتي. وكلّ ما سترينه ينبغي أن يكون مُدرَجاً ضمن إنجيل طفولتي، حيث أودُّ أن تُدرَج كذلك رؤيا إقامة العائلة في مصر. سوف تُورِدينها حسب الترتيب التالي: العائلة في مصر، ثمّ الدرس الأوّل في عمل يسوع الطفل، ثمّ المشهد الذي سَتَصِفينه الآن، بعد ذلك مشهد سنّ الرشد (موعده اليوم 25 / 11) وفي النهاية مشهد يسوع بين أحبار الهيكل في عيد الفصح الثاني عشر بالنسبة لـه.

ولستُ أريكِ مشهد اليوم هكذا بدون سبب. بل على العكس، فإنّكِ ستُلقين الأضواء على تفاصيل تخصّ سنيّ حياتي الأولى، وكذلك على العلاقات مع أهلي والأقارب. إنّها هديّتي لكِ في عيد امتلاكي إيّاكِ، أنتِ التي تُحِسّين سـلام بيت الناصرة يعـبر إلى أعماقكِ عندما ترينه. اكتبي.»

أرى الغرفة التي يتناولون فيها الطعام عادة، وحيث تقوم مريم بأعمال النسيج أو الخياطة. هذه الغرفة هي المجاورة لـمَشغَل يوسف الذي يُسمَع فيه صوت عمله النشيط والـمُجِدّ. أمّا هنا فعلى العكس يسود هدوء وسكون. تخيط مريم شرائط قماش صوفيّ. وهي التي نَسَجَتها بنفسها بالتأكيد. إنّ عرض القطعة منها حوالي النصف متر، وطولها ضِعف ذلك. ومِن المفروض أنّها مُعَدَّة مِن أجل معطف ليوسف.

مِن الباب المفتوح على الحديقة، تُرَى الأسيجة التي ينتَشِر عليها الأقحوان بلون اللازورد البنفسجيّ الذي يُسمّى عموماً “ماري” أو “سماء ذات نجوم” لستُ أعرف العبارة الخاصّة بها في علم النبات. إنّها مُزهِرة، فينبغي إذن أن يكون الخريف. ومع ذلك فالأوراق ما زالت تحتفظ باخضرارها الجميل الكثيف، والنَّحلات التي أُسنِدَت خليّتاها إلى الجدار المشمس، تطير وهي تطنّ وترقص في ضوء الشمس، مِن الكرمة إلى التينة ثمّ إلى شجرة رمّان مليئة بالثمّار الـمُكَوَّرة وقد انشقت بسبب زيادة النضج مُظهِرَة كما عقوداً مِن الياقوت السكّري المصفوف بداخل علبة مصاغ حمراء وخضراء وفي جزء منها صفراء.

يَلعَب يسوع تحت الأشجار مع طفلين في مثل سنّه تقريباً: شعرهما مجعّد وليسا أشقرين. أحدهما أسمر بحقّ: رأس حَمَل أسود يزيد إظهار بياض بشرة الوجه الـمُدوَّر حيث فُتِحَت عينان بلون اللازورد الضارب إلى البنفسجيّ، جميلتان جدّاً. والثاني شعره أقلّ تجعُّداً، كستنائيّ داكن، عيناه كستناويّتان. لون بشرته أكثر سُمرة ولكنّه يميل إلى الورديّ عند الخدّين.

ويبدو يسوع برأسه الأشقر بين الشعرين الداكنين وكأنّ له آنئذ هالة مُضيئة. إنّهم يَلعَبون معاً مَرِحِين بعربات صغيرة توجد عليها… بضائع متنوّعة: أوراق، حصى، شرائط وقطع خشبيّة. يَلعَبون لعبة الباعة. ويسوع هو الزبون الذي يشتري احتياجات والدته، يحمل لها آناً حاجة وآناً أخرى. ومريم تتقبَّل مشترياته بابتسامة.

بعد ذلك يَقتَرح أحد الولدين تغيير اللعبة: «لنقم بالهجرة عبر مصر. يسوع سيكون موسى، أنا هارون، وأنتَ… مريم.»

«ولكنّني صبيّ!»

«لا يهم! ومع ذلك فلتكن أنتَ مريم، ولتَرقُص أمام العِجل الذهبيّ الذي سيكون هذا القفير.»

«أنا لا أرقص. أنا رجل ولا أريد أن أكون امرأة. ثمّ أنا مؤمن ولا أريد الرقص أمام الصَّنم.»

هنا يتدخل يسوع: «لا نلعبنّ هذا المشهد. ولنختر غيره: لحظة اختيار يشوع كخليفة لموسى. وهكذا لا يعود لمشكلة خطيئة عبادة الأصنام الشنيعة وجود، وسَيُسرّ يهوذا لكونه رجلاً وخليفتي، ألستَ مسروراً لذلك؟»

«نعم، يسوع، إنّما ينبغي لكَ حينئذ أن تموت، لأن موسى يموت بعدها، ولا أريدكَ أن تموت، أنتَ يا مَن تحبني كثيراً.»

«ينبغي لجميعنا أن نموت… إنّما أنا، قبل أن أموت، سأبارك إسرائيل. وإن لم يكن أمامي غيركما، فحين أبارككما أبارك إسرائيل كلّها.»

الاقتراح مقبول، ولكن هناك مسألة تَطرَح نفسها: بعد أن يكون شعب إسرائيل قد مشى طويلاً جدّاً، هل يكون ما يزال يمتلك العربـات التي خَرَجَ بها مِن مصـر؟ هنا تختلف الآراء، فيَهرَع الجميع إلى مريم: «أُمّي، أنا أقول بأنّ الإسرائيليّين كانوا لا يزالون يمتلكون العربات، يعقوب يقول لا، أمّا يهوذا فلا يعرف مَن منّا يقول الحقّ. فهل تعرفين أنتِ ذلك؟»

«نعم يا بنيّ، فقد كانت العربات ما تزال مع الشعب الـمُهاجِر. وكان كلّما توقَّفَ يُجري الإصلاحات عليها. وقد كان الأكثر ضُعفاً يركبون العربات، وعليها تُحمّل المواد الغذائيّة، وكلّ الأشياء الضروريّة لشعب كثير العدد. إلاّ تابوت العهد فهو الوحيد الذي كان يحمله بشر. وكلّ ما عداه على العربات.»

يُحَلّ الخلاف، ويمضي الأطفال إلى آخر الحديقة، ومِن هناك يتوجّهون صوب البيت وهم يُرتِّلون المزامير. يسوع في المقدمة وهو يُرَتِّل المزامير بصوته الفضّيّ. وخلفه يسير يهوذا ويعقوب حامِلَين عربة نقل صغيرة مغطّاة تُمثّل تابوت العهد. ولكن بما أنّهم كانوا مضطرّين إلى لعب دور الشعب إلى جانب دَورَيّ يشوع وهارون، فقد نَزَعا حزاميهما ورَبَطا العربات الصغيرة بساقيهما، وساروا هكذا جادّين كممثلين حقيقيّين.

يمشون تحت العريشة كلّها، ويمرّون إلى جانب باب الغرفة حيث تُوجَد مريم، ويقول يسوع: «ماما، حيّي تابوت العهد الذي يمرّ.» تقف مريم مبتسمة وتنحني باتّجاه ابنها الذي يمرّ متلألئاً في هالة مِن الشمس.

ثمّ يجتاز يسوع المنحَدَر الذي هو بمثابة الحدود للبيت، أو بالأحرى للحديقة. وهناك، فوق المغارة يَقِف ويُخاطِب… إسرائيل. يَنطق بأوامر ووعود الله، ويُقَدِّم يشوع كقائد ويدعوه إليه، فيَصعَد يهوذا بِدَوره إلى الـمُنحَدَر فيشجّعه ويباركه. ثمّ يَأخذ لوحاً (ورقة تين كبيرة) ويَكتب النشيد ويَتلوه، ليس كلّه، إنّما جزءاً لا بأس به، ويبدو وكأنّه يتلوه مِن الورقة.

بعدئذ يودِّع يشوع الذي يعانقه وهو يبكي، ويَصعَد إلى الأعلى، بالتحديد إلى قمة المنحدر. هناك يبارك إسرائيل كلّها، أي الولدَين الساجدَين إلى الأرض، ثمّ يتمدّد على العشب القصير، يُغمض عينيه و… يموت. كانت مريم قد ظلّت عند العتبة مبتسمة، إلّا أنّها عندما تُشاهِده مُمدّداً بلا حَراك، تصيح: «يسوع، يسوع، انهض! لا تبق هكذا! فأُمّكَ لا تريد أن تراكَ ميتاً!»

يَنهَض يسوع مبتسماً، يركض نحو مريم ويُقبّلها، ويَصِل يعقوب ويهوذا وينالا نصيبيهما أيضاً مِن ملاطفة مريم.

يسأل يعقوب: «كيف بإمكان يسوع أن يتذكّر كلّ هذا النشيد الطويل جدّاً والصعب جدّاً، وكلّ هذه التبريكات؟»

تبتسم مريم وتُجيب ببساطة: «إنّ لديه ذاكرة ممتازة، وهو شديد الانتباه والتركيز عندما أقرأ.»

«وأنا أيضاً أنتبه جيّداً في المدرسة، إلّا أنّني لا ألبث أن أنام، مع كلّ هذه المناحات… إذاً، ألن أتعلّم أبداً؟»

«سوف تتعلّم، كُن مطمئناً.»

يُقرَع الباب، فيجتاز يوسف الحديقة والغرفة بسرعة ويَفتَح، «السلام لكما، حلفا ومريم!»

«ولكَ السلام والبركة.»

إنّه أخو يوسف مع زوجته. وفي الشارع تقف عربة ريفيّة رُبِطَ إليها حمار قويّ.

«هل كان سفركما مريحاً؟»

«رائعاً. والأولاد؟»

«إنّهم في الحديقة مع مريم.»

ولكنّ الوَلَدين يَركضان آنئذ ليُسَلِّما على والدتهما، وكذلك تَصِل مريم ممسكة يسوع بيدها. وتتعانق القريبتان.

«هل كانا لطيفَين؟»

«عاقِلَين جدّاً ولطيفين. هل كلّ الأهل بخير؟»

«الجميع بخير، ويُرسِلون لكم مِن قانا كلّ هذه الهدايا. عنباً وتفّاحاً وجبناً وعسلاً و… يوسف؟ لقد وجَدتُ تماماً ما كنتَ تريده ليسوع. إنّه على العربة في هذه السلّة الضخمة الـمُكوَّرة.» وأَخَذَت زوجة حلفا تضحك، وتنحني على يسوع الذي يَنظُر إليها وهو يُحَملِق. تُقَبِّله مِن عينيه اللازورديّتين وتقول له: «هل تعرف ماذا عندي لكَ؟ احزر.»

يُفكّر يسوع ولا يَجِد إجابة. أشكّ في أنّه فَعَلَها متعمّداً ليَمنح يوسف فرحة جعلها تبدو مفاجأة لـه. بالفعل، يعود يوسف حاملاً سلّة مُكوَّرة. يضعها على الأرض أمام يسوع، يَقطَع الحبل الذي يُثبّت الغطاء. يزيحه… ونعجة صغيرة بيضاء، ندفة رغوة حقيقيّة تَظهَر نائمة على مُفتَرَش مِن القشّ النظيف.

وما كان مِن يسوع إلّا «آه!» بدهشة وافتتان. وكاد يتهافت على الحيوان الصغير عندما التَفَتَ إلى يوسف المنحني إلى الأرض، فَهَرَعَ إليه يعانقه ويقبّله ويشكره.

يَنظُر أبناء العم إلى الدابّة الصغيرة بإعجاب. تستيقظ، وبينما هي تَرفَع فمها الصغير الورديّ تثغو باحثة عن أُمّها. تَخرُج مِن السلة وتُقَدَّم لها قبضة نفل، تقضمها وهي تجيل حولها عينيها العذبتين.

فطَفَقَ يسوع يقول: «لي أنا! لي أنا! شكراً يا أبي!»

«أهي تعجبكَ كثيراً؟»

«آه! كثيراً! بيضاء نظيفة… رخلة (أنثى الحَمَل)… آه!» ويضع ذراعيه حول عنق النّعجة. ويَضَع رأسه الأشقر على رأس الدابة الصغيرة ويَبقَى هكذا سعيداً.

يقول حلفا لولديه: «ولكما أيضاً جَلَبتُ اثنتين، إنما سوداوين. فأنتما لستما مرتَّبَين مثل يسوع، ولو كانتا بيضاوين فلن تعرفا أن تحافظا عليهما نظيفتين. سوف تكونان قطيعكما، تُحافِظان عليهما معاً، وهكذا لن تبقيا تتسكّعان في الشوارع كالشقيّين وترشقان الحجارة.»

ويركض الولدان إلى العربة ليريا النّعجتين السوداوين لا البيضاوين.

يبقى يسوع مع نعجته، يحملها إلى الحديقة، ويُقدّم لها ماء لتشرب، وتتبعه كما لو كانت تعرفه منذ زمن. ويَشرع يسوع يناديها بعد أن أطلَقَ عليها اسم “ثلج” والنعجة تجيبه وهي تثغو فَرِحَة.

يَجلس الضيوف إلى الطاولة، وتُقدِّم مريم لهم الخبز والزيتون والجبن، وتجلب كذلك إبريق شراب التفّاح أو نبيذ العسل، لستُ أعلم: أرى السائل زاهياً، زاهياً تماماً. يتحادثون فيما بينهم بينما يلعب الأولاد بالنّعجات الثلاث التي أراد يسوع ضَمَّها ليُقدّم إلى الأخريين الماء ويُطلِق عليهما الأسماء: نعجتكَ يهوذا سوف نسمّيها “نجمة” لأنّ لها إشارة على جبهتها. ونعجتكَ “شعلة” لأنّ لها لون أنواع مِن شعلات الخلنجات المائتة…»

«مفهوم.»

يَدخُل الكبار في نقاش، وها هو حلفا يتكلّم: «آمُل أن أكون بذلك قد حللتُ مشكلة مشاجرات الأولاد. إنّكَ أنتَ يا يوسف مَن أوحى لي بالفكرة. قلتُ لنفسي: “أخي يريد نعجة ليسوع ليلهيه قليلاً. سآخذ اثنتين لهذين الولدين فأضبطهما قليلاً وأختصر الأخذ والرد مع بقيّة الأهالي فيما يخصّ الرؤوس والرُّكَب المسحوجة. فقليلاً في المدرسة وقليلاً مع النعجتين وأكون قد نجحتُ في ضبطهما”. إنّما عليكَ أنتَ أيضاً إرسال يسوع هذه السنة إلى المدرسة. فلقد بَلَغَ السن.»

فتقاطعه مريم قائلة: «لن أُرسِل يسوع أبداً إلى المدرسة» فيندهش الجميع لرؤيتها تتكلّم هكذا، وتتكلّم قبل يوسف.

«لماذا؟ على الصبي أن يدرس ليكون أهلاً، عندما يحين الوقت، أن يخضَـع لامتحـان سـنّ الرشد…»

«سوف يتعلّم الصبيّ، ولكنّه لن يذهب إلى المدرسة. هذا قرار.»

«ستكونين الوحيدة في إسرائيل التي تتصرف هكذا.»

«سأكون الوحيدة، ومع ذلك سأتصرّف هكذا. أليس كذلك يا يوسف؟»

«في الحقيقة، إنّ يسوع ليس في حاجة إلى أن يذهب إلى المدرسة. لقد تَرَعرَعَت مريم في الهيكل، وهي الآن كحَبر حقيقيّ في معرفة الشريعة. سوف تكون معلّمته. إنّها إرادتي كذلك.»

«إنكما تُفسِدان هذا الصبيّ.»

«لا يمكنكَ قول ذلك. إنّه أفضل طفل في الناصرة. هل سَمِعتَه يوماً يبكي أو يتصرّف بنزوة أو يرفض إطاعة أمر أو يُقلّل مِن احترام أحد؟»

«مِن هذه الناحية، لا. ولكن هذا سوف يَحصَل إذا ما استمرّ إفساده.»

«لسنا نُفسِد الأطفال هكذا، بل إنّما نحفظهم إلى جانبنا. إنّنا نحبّهم بذكاء وبقلب طيّب. وهكذا نحن نحبّ يسوعنا، وبما أنّ مريم مُثقَّفة أكثر مِن معلّم المدرسة، فهي التي ستكون معلّمة يسوع.»

«وعندما يَبلغ سنّ الرجولة، سيكون امرأة صغيرة تخيفه ذبابة.»

«لا. لن يكون كذلك. فمريم امرأة قويّة وهي تعرف أن تربّيه تربية رجوليّة. وأنا أيضاً لستُ ضعيفاً، وأستطيع أن أعطيه أمثلة في الرجولة. فيسوع لا عيب فيه جسديّاً أو فكريّاً. سوف ينمو إذن مستقيماً وقويّاً بجسده وروحه. كُن مطمئناً يا حلفا، فلن يسيء إلى شرف العائلة. على كلّ حال هذا قرار، وكفى.»

«مريم قَرَّرَت، وأنتَ…»

«وإن يكن ذلك صحيحاً؟ أليس جميلاً أن يكون لشخصين يتحابّان نفس التفكير، والإرادة ذاتها، وبالتبادُل يتبنّى الأوّل وجهة نظر فيتقبّلها الآخر؟ إذا ما أرادت مريم أموراً مُخالِفة للصواب فسأقول: “لا”. إنّما الأمور التي تطلبها مليئة حكمة، لذا فأنا أؤكّدها وأتقبّلها بل أتبنّاها. نحن متحابّان مثل أوّل يوم لنا، وسنظلّ هكذا ما حيينا. أليس كذلك يا مريم؟»

«نعم يا يوسف؛ وإذا ما مات أحدنا دون الآخر، وأرجو ألّا يَحدُث ذلك، فلنحبّ بعضنا كذلك.»

يُداعِب يوسف رأس مريم كما لو أنّها ما زالت طفلة وهي تنظر إليه بعين وادِعة وعطوفة.

تتدخّل زوجة الأخ: «إنّكما على صواب. آه! لو كنتُ قادِرة على التعليم! في المدرسة يتعلّم أولادنا ما هو خيّر وما هو شريّر، بينما في البيت يتعلّمون ما هو خيّر فقط. ولكنّني لا أعرف… إذا كانت مريم…»

«ماذا تريدين يا عزيزتي؟ لا تنزعجي مِن قَولها. تعرفين أنّني أحبّكِ وأُسعَد حين أستطيع إرضاءكِ.»

«كنتُ أقول… يعقوب ويهوذا يكبران يسوع قليلاً. وهما يذهبان الآن إلى المدرسة… إنّما فيما يتعلّق بمعرفتهما!… فعلى العكس، إنّ يسوع قد أَصبَحَ يعرف الشريعة جيّداً!… كنتُ أرغَب… أو بالأحرى هل ترغبين أن يحضرا أيضاً مع يسوع عندما تُدَرِّسينه؟ أظنّهما سيُصبِحان أفضل وأكثر ثقافة. إنهّم أبناء عم في الأصل، ويحبّون بعضهم كإخوة… وسأكون أنا سعيدة جدّاً!…»

«إذا شاء يوسف ذلك، وكذلك زوجكِ، فأنا على استعداد، إذ إنّ الكلام لواحد أو لثلاثة سواء. وإعادة كلّ الكتاب شيء مُفرِح. فليأتيا.»

الأولاد الثلاثة الذين كانوا قد دَخَلوا بهدوء، سَمِعوا وباتوا ينتظرون القرار.

يقول حلفا: «سوف يجعلانكِ تملّين يا مريم.»

«لا! فمعي هما طيّبان على الدوام. ألن تكونا لطيفين إذا ما علّمتُكما؟»

يَركض الاثنان إلى جانبها، أحدهما إلى يمينها والآخر إلى يسارها، ويَضَعان ذراعيهما حول عنقها، ورأسيهما على كتفيها ويَعِدانها أجمل الوعود.

«دعهما يُجرّبان، يا حلفا، ودعني كذلك أُحاوِل. أعتقد أنّكَ لن تندم. سوف يأتيان يومياً في الساعة السادسة. هذا يكفي، ثق تماماً. أنا أعرف فنّ التعليم دون تعب، فالأولاد نَستَميلهم ونلهيهم في الوقت ذاته. علينا أن نَفهَمهُم، وأن نحبّهم، وأن نكون محبوبين منهم، فنحصل منهم على كلّ شيء. وسوف تحبّانني، أليس كذلك؟»

فتأتي الإجابة قُبلتين كبيرتين.

«أترى؟»

«أرى. ولم يبق ما أقوله سوى “شكراً”. أمّا يسوع فماذا سيقول حين يرى أُمّه تهتمّ بالآخرين؟ ماذا تقول يا يسوع؟»

«أقول ما قيل بالنسبة للحكمة: “مغبوطون الذين يجلسون بقربها ويسمَعونها والذين يبنون سُكناهم قرب سُكناها”. ومغبوط هو مَن يكون صديق أُمّي، وأكون سعيداً إذا كان مَن أُحبّهم أصدقاءها.»

تلك نهاية الرؤيا.


يقول يسوع:

«وأصبَحَت مريم معلّمتي ومعلّمة يعقوب ويهوذا. لهذا كنّا نحبّ بعضنا كإخوة أكثر مِن القرابة، متّحِدين بالعِلم والتربية مثل أغصان ثلاثة لجذع واحد. أُمّي ليس هناك حَبر مثيلاً لها في إسرائيل. أُمّي، هذه العَذبة، كرسيّ الحكمة والعِلم الحقيقيّ، كانت تُلقّننا دروساً في حياة الدنيا وفي حياة السماء.

أقول “تُلقّننا” لأنّني كنتُ تلميذها، لا أختلف عن ابنيّ عمّي. وقد قُلِبَ الدلو على سرّ الله في وجه فضول الشيطان، كي يُصان هكذا تحت مَظاهر حياة مشتركة.

هل تمتّعتِ بهذا المشهد اللذيذ؟ ابقي الآن بسلام. يسوع معكِ.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.