مقدمة كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
القدّيس لويس ماري غرينيون دي مونفورت
الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
عَرَّبهُ عَن الفَرنسيّة
المطران كوركيس كرمو
رَئيس أساقفة الموصل على الكلدان
مقدمة
إنَّ مؤلف هذا الكتاب هو لويس ماري غرينيون المولود في مدينة مونفورت الفرنسية، في 31 كانون الثاني سنة 1673. أظهر لويس منذُ نعومة اظفاره، غراماً بنويّاً بالعذراء مريم، فأضاف اسم مريم إلى اسمه. درس عند الآباء اليسوعيين في مدينة رين. ثم واصل دراسته العالية في جامعة السوربون الباريسية الشهيرة، وفي كلية سان سولبيس حيث تشرّب بمبادئ معلمي هذه الكلية اللاهوتية المعروفة، وطالع كلَّ كتاب وقع بين يديه يتكلم عن مريم العذراء، وكان مولعاً بالحجّ إلى مزاراتها، رُسم كاهناً في 5 حزيران من عام 1700 في باريس.
بعد سنتين من رسامته، أسس رهبنة نسائية أسماها [بنات الحكمة] وأخرى للكهنة المرسَلين لنشر التكريم المريمي دعاها [جمعية مريم]. عيّنه البابا كليمنس الحادي عشر عند زيارته لروما، مرسلاً رسولياً. وضع في 23400 بيتَ شِعر، العقائد الدينية المسيحية. ألّف كذلك أناشيد روحية كثيرة، وكتب قوانين رهبنيَّته: النسائية والرجالية. وضع عن تكريم مريم أربعة كتب تقوية بليغة. أسمى الأول [الحكمة الأزلية]، والثاني [سرّ الوردية]، والثالث [سرَ مريم]، والرابع هو كتابنا هذا الشهير، التي فُقدت مخطوطتُه مدة 140 سنة، حتى عُثر عليها عام 1842، وعنوانها [التكريمُ الحقيقيُ للعذراءِ مريم].
يُظهر المؤلف في كتابه هذا، كل ما أوتي من الحب البنوي لملكته السماوية، بطريقة مبسطة، تأخذ بمجامع القلب. غايته الحقيقية هي جلب الناس إلى يسوع عن طريق مريم، أي بتكريس الذات لهذه الأم القديسة. ويدعو إلى هذا التكريس بلا تحفظ، وإلى تقديم كل ما لنا، لمريم مُعلنين ذاتنا عبيداً لها، ويُسمي هذه الممارسة [عبودية الحب المقدسة].
تُوفي لويس غرينيون في 28 نيسان سنة 1716، وأعلنته الكنيسة طوباويّاً عام 1888، ثم في تموز 1947 رفعه البابا بيوس الثاني عشر إلى مصافِّ القديسين.
كان الأب ادوار سلزاني اليسوعي قد لخّص هذا الكتيب بالعربية، ونشرته المطبعة الكاثوليكية في بيروت عام 1908. مع الأسف الشديد، حتى هذا الموجز قد نفذ من المكاتب منذ عشرات السنين. نظراً لقيمة الروحية الثمينة، قُمت منذ سنوات بترجمة كاملةٍ له، ولم يُسعدني الحظ بنشره حتى الآن. والآن أقدمه بكل غبطةٍ واعتزاز لإخوتي واخواتي أبناء مريم، ليُروي عطشهم ومقدماً غذاء روحياً دسماً.
المطران كوركيس كرمو
رئيس اساقفة الموصل على الكلدان
مقدمة المؤلف
القديس لويس ماري غرينيون دي مونفورت
جاء يسوع المسيح إلى العالم، بواسطة مريم العذراء، وسيملِكُ على العالم بوساطَتِها أيضا. كانت مريمُ في حياتها محتجبةً كثيراً، لذا دعَتْها الكنيسةُ بوحيٍ من الروح [الأُمُ المرضعة]، أَي الأم المحتجبَةُ الخَفيةُ. وكان تواضُعُها كذا عميقاً، حتى إِنَّها لم تكن لها رغبة أَقوى ومتواصلة، من بقائها على الأرض محتجبةً عن ذاتها وعن كلِ خليقة، لا يَعرفُ بها أحدٌ إِلَّا الله وحده.
وقد حَسُنَ لله أَنْ يستجيبَ طلباتِها، ليجعلَها محتجبَةً فقيرةً ومتواضعةً، في الحَبَل بها وولادتِها وحياتِها وأسرارِها، من قيامتِها وانتقالها، أمامَ كلِ خليقة بشرية. حتى إنَّ أهلَها ذاتهم لم يعرفوها، ويتساءَل الملائكةُ ما بينهم مراراً قائلين: «مَنْ هي هذه…» لأَن العليَ أَخفاها عنهم، ولم يكشفْ لهم عنها إلاّ النزرَ القليل.
سمح الله الآب أَلا تجترحَ مريم في حياتها أية أعجوبةٍ تُبهر العيون، رغمَ منحِه لها القدرةَ على ذلك. كما رضي الله الابنُ بألَّا تتكلمَ مريم تقريباً قط، رغمَ إشراكِها في حكمته، وأنَّها العروس الأمينةُ للروح القدس، فقد شاء أن يحجمَ الرسلُ والإنجيليون عن التحدث عنها، إلَّا قليلاً على قدر ما كان ضرورياً لمعرفةِ يسوع.
إِذَّخَرَ العليُ لذاته معرفةَ مريم وامتلاكَها، لأَنَّها عملُه الأَسمى. فهي الأُمُ العجيبة للابنِ الذي طاب له أن يَتْركَها متواضعةً ويخفيها في حياتها ليوازر تواضعَها، فسمّاها [امرأة] (يوحنا 2 : 4 ، 19 : 26) كأنها غريبة، بينما كان يُجلُّها ويحبُها أَكثر من جميع الملائكة والبشر. مريم هي [المُعين المختوم] (نشيد 4 :12)، وعروسُ الروح القدس الأمينة لا يدخل اليها آخر سواه. هي هيكلُ الثالوثِ الأقدس، ومقرُ راحتِه، والمكانُ الأَسمى قُدْسيةً الذي يحتَلُّه الله في الكون، دون استثناء استوائه على الكاروبين والسرافين، فهي المقامُ الذي لا يسمح لأَية خليقة مهما كانت نقية، دون امتياز عظيم، أَنْ تدخلَ إِليه.
أَقولُ مع القديسين، إنَّ مريم هي الفردوسُ الأرضي لآدمَ الجديد، حيث تجسدَ من الروح القدس ليعملَ فيها عجائبَ لا تُدرَك، إنها عالمُ الله العظيم الإلهي، حيث المحاسن والكنوز التي لا توصف، فهي جودةُ العليّ، حيث أخفى ابنَه الوحيد في أحشائها، الذي هو أكثرُ سمواً وثمناً. يا لَلأُمور العجيبة الخفية التي أَتمَّها الله القدير في هذه الخليقة العجيبة، حتى التزمَتْ هي ذاتُها أن تعترفَ رغم تواضعِها العميقِ أَن تهتفَ: «صَنَعَ بي عظائمَ القوي…» (لوقا 1 : 9). إِن العلمَ لا يعرفها، لأنه غيرُ قادرٍ وغيرُ أَهلٍ لها.
فاهَ القديسون بأمورٍ عجيبة عن [مدينة الله المقدسة] هذه. ولم يكونوا أكثرَ بلاغة وسعادة، كما أقرّوا هم ذاتُهم، إِلَّا عندما كانوا يتكلمون عنها. فيقولون بأنهم لم يروا أَسمى من استحقاقاتها التي رفعتها الى عرشِ الأُلوهية. فلا يُقاس عرضُ محبتِها الذي بَسَطَها أكثرَ من الأرض، ولا تُفهمُ عظمةُ القُدرةِ التي لها حتى على الله نفسه، ولا يُكشفُ عمقُ لجةِ تواضعِها وفضائِلِها وسائرِ نعمِها. فيا للسمو الذي لا يُفهمُ ويا لَلسعة التي لا تُحصر، ويا للعظمة التي لا تُقاس، ويا للقمة التي لا يُمكن بلوغها.
كلَّ يومٍ، يُكرز ويُنشر، من أقصى الأرض الى اقصاها، ومن أعلى السماواتِ الى أدنى الدركات عن مريم العجيبة. تضطرُ طغماتُ الملائكة التسع وكلُ البشر من أَي جنسٍ وسنٍ وحالةٍ صالحين كانوا أم طالحين، وحتى الشياطين أنفسِهم، شاءوا أم أَبَوا، أَن يُعطوا عن حق الطوبى لمريم. وعلى حد قولِ القديس بونافنتورا، إِنَّ كلَ الملائكة في السماوات يصرخون بلا انقطاع قائلين: «قديسة، قديسة، قديسة هي العذراء مريم أُم الله». ويصلون يومياً ملايين ملايين المرات [السلام الملائكي]، منحنين أَمامها، وملتمسين شرفَ أَمرِها. والقديس ميخائيل نفسه، حسبَ قول القديس أوغسطينوس، رغمَ كونِه أَميرَ البلاط السماوي العام، هو أكثرُ غيرةً من الجميع في التقديم لها كلَّ نوعٍ من الإِكرام، وهو مستعدٌ دوماً، لإيماءةٍ منها أنْ يتشرفَ بخدمةِ أحدِ عبيدِها.
الأرضُ بأسرِها مملوءة من مجدِ مريم، لا سيما لدى المسيحيين، حيث تتخذُها دولٌ كثيرة ومقاطعاتٌ وأبرشيات ومدُنٌ، شفيعةً ومحاميةً لها. هناك كاتدرائياتٌ عديدةٌ مكرَّسة لله على اسمها، ولا توجدُ كنيسةُ إلا وفيها مذبحٌ على شرفها، ولا يخلو صَقْعٌ أو قطر من إحدى صورها العجائبية، حيث تَشفي أنواعَ العاهات، وينالون كلَّ الخيرات. فكم من أخوياتٍ وجمعيات على شرَفِها، وكم مِن رهبنات باسمها وتحت رعايتِها، وكم من الأخوة والأخوات والرهبان والرهبنات ينشرون مديحَها ويذيعون مراحمَها، لا يوجد طفلٌ إلا ويتلعثَم بالسلام لها، ويمدحها، ولا خاطئ رغم تصلبه، ليس له ومضةُ ثقةٍ بها، لا بل حتى الشيطان في الجحيم، رغم خوفِه منها، إلا ويحترمها
حقاً بعد هذا يجبُ القولُ مع القديسين، بأننا مهما تحدثنا عن مريم، فذلك ليس بكافٍ أبداً، لأنها لم تُمْدَحْ بعدُ كثيراً، ولا عُظَّمَ شأنُها جداً، ولا أُكرمت وأُحبت وخُدمت كفاية. لا زالت تستحق أكثر مدحاً واحتراماً وحُباً وخدمة.
بعد هذا نقولُ مع الروح القدس، إنَّ «كلَّ مجدِ ابنةِ الملك هو من الداخل» (مز 44: 14)، فإنَّ كلَ المجدِ الخارجي الذي تُقدمه لها السماءُ والأرضُ ليس بشيء بالمقارنة مع المجد الذي تقبلُه باطنياً من الخالق ذلك المجدِ غير المعروف من خلائقه الصغيرة العاجزةِ عن اختراق أي سر من اسرار الملك.
ثم لنصرخ مع الرسول: «لا العينُ رأَتْ ولا الأُذنُ سمعتْ، ولم يخطرْ على بالٍ بَشَر» (1كور 2: 9) جمالُ مريم وعظمتُها وسموُها. يقول يوحنا الدمشقي عنها: «إنَّها أُعجوبةُ أعاجيب الطبيعة والنعمة والمجد» وإذا ما تريدُ فهم الأم، يقول القديس أيوخير، إفهمِ الأبنَ، إنها أمُ الله المغبوطة. فليصمتْ كلُ لسان.
بلذةٍ خاصةٍ أملى عليَّ قلبي الكتابةَ عن مريم لتَبيان أَنها غيرُ معروفةٍ حتى الآن كما يجب وهذا هو أحدُ الأسبابِ الذي من أجلها ليس معروفاً يسوع كما يجب، فإنْ أرَدْنا أن نُعرّفَ العالمَ بمملكةِ المسيح، يجبُ أيضاً التعريف بمملكة مريم، تلك التي وضعَتْه أولاً في العالم، ستجعلُه أيضاً أنْ يشرقَ فيه ثانية.