55- يسوع يطرد الباعة من الهيكل | قصيدة الإنسان – الإله

1٬341
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}

55- يسوع يطرد الباعة من الهيكل

24 / 10 / 1944

أرى يسوع يَدخُل مع بطرس وأندراوس ويوحنّا ويعقوب وفليبس وبرتلماوس داخل سور الهيكل. هناك جموع كثيرة تدخل وتخرج. زائِرون يتوافدون بمجموعات مِن كلّ أرجاء المدينة.

مِن أعلى الهضبة التي بُنِيَ عليها الهيكل، تُرى شوارع المدينة ضيّقة ومتعرّجة وهي تعجّ بالمارة. يبدو أنّ بين لون البيوت الأبيض الزاهي يمتدّ شريط متحرِّك مِن ألف لون. نعم، فللمدينة مظهر لعبة غريبة مصنوعة مِن شرائط متعدّدة الألوان بين صفّين مِن البيوت البيضاء التي تتّجه كلّها صوب نقطة تتألّق فيها قباب بيت الربّ.

ثمّ في الداخل، هناك معرض حقيقيّ. فلا خُلوة ولا خشوع في المكان المقدّس. إنّما ركض، مناداة، وشراء حِملان، وصُراخ ولَعنات بسبب الأسعار الـمُبالَغ فيها، ودفع للحيوانات المسكينة التي تثغو في الزرائب. إنّها أماكن مغلقة بشكل بدائيّ، محدّدة بحبال وأوتاد عند المداخل حيث يَأخُذ البائع لنفسه مكاناً، أو ربّما صاحب الرزق الذي ينتظر المشترين. ضربات عصي، وثغاء، شتائم واحتجاجات، شتائم للخدّام الـمُبطِئِين في جمع وإحاطة الحيوانات، أو للمشترين الذين يُقَتِّرون في الثمن، أو يبتعدون، وشتائم أقوى للمتبصِّرين الذين جَلَبوا الحَمَل مِن عندهم.

حول مناضد الصرافة هناك ضوضاء أخرى. لستُ أدري ما إذا كان الأمر هكذا على الدوام أو كان بمناسبة الفصح فقط. ومِن الـمُلاحَظ أنّ الهيكل كان قد جُعِلَ مثل البورصة، أو السوق السوداء. فأسعار العملات لم تكن ثابتة. فبالرغم مِن وجود سعر قانونيّ محدّد، إلّا أنّ الصيارفة كانوا يفرضون سعراً آخر باقتطاع نسبة مئويّة تعسّفية مقابل التبديل. وأؤكد لكم أنّهم كانوا متّفقين على التضييق على الزبائن!… وكلّما كان الزبون فقيراً، وكلّما كان المكان الذي أتى منه بعيداً، كانوا يُغالون في سلخه. ولقد كان هناك شيوخ أكثر مِن الشباب، وكان القادمون مِن خارج فلسطين أكثر مِن الشيوخ.

كان هناك شيوخ مساكين يَنظُرون ويَتَطَلَّعون إلى مُدَّخراتهم الـمُوَفَّرة بكثير مِن العناء طوال العام، فيُخرِجونها مِن صدورهم ويعيدونها إليها مائة مرّة وهُم يَدورون حول الصيارفة وينتهون بالعودة إلى الأوّل الذي يَنتَقِم لابتعادهم الآنيّ برفع عمولة الصرف… وكانت القطع النقديّة الكبيرة تفارق أيدي أصحابها وسط التنهّدات لِتَعبُر إلى مخالب المرابي فيبدّلها بقطع أصغر. ثمّ تراجيديا حسابات وتنهُّدات جديدة أمام باعة الحِملان الذين يتآمرون على العجائز المساكين شبه العميان في انتقاء الحِملان الأكثر هزالاً لهم.

أرى عجوزين، رجل وزوجته، عائِدَين يَجُرّان حَمَلاً مسكيناً وَجَدَه مُقَدِّمو الذبائح معيباً. تشكّيات، ترجّيات، قلّة أدب وخشونة تتقابل كلّها دون أن يرفّ للبائع جفن.

«مُقابِل الذي تريدان دفعه أيّها الجليليّان، ما أَعطَيتُكماه جميل جدّاً. ارحلا! أو فادفعا خمسة دوانق أخرى لتحصلا على واحد أجمل!»

«نستحلفكَ بالله! إنّنا عجوزان فقيران! هل تريد مَنعَنا مِن تقديم الفصح الذي قد يكون الأخير؟ هل ما أَخَذتَه مِنّا لا يكفي ثمناً لحيوان صغير؟»

«افسحا المجال أيّها الشحيحان. ها هو يوسف الشيخ قادم إليَّ. إنّه يشرّفني بقدومه. الله معك! تعال واختر!»

يَدخُـل ضمن التحويطـة ويأخذ حَمَلاً رائعاً، ذلك المدعوّ يوسف الشيخ أو يوسف الرامي. يمرّ بثوبه الفاخر مختالاً دون أن يَميل بِنَظَره إلى الفقيرَين اللذين يَنوحان أمام الباب، وحتّى على مدخل الزريبة. بل يَدحَرهما وهو خارج مع حَمَله السمين الذي يثغو.

ولكن يسوع أيضاً قد أصبَحَ قريباً. وهو كذلك قد ابتاع مع بطرس، الذي يُفتَرَض أنّه دفع له، حَمَلاً مناسباً يجرّه وراءه. ويبغي بطرس المضيّ مباشرة إلى مكان تقديم الذبائح. ولكنّ يسوع يلتفت يمنة صوب العجوزين الـمَشدوهَين، الباكييَن، الحائريَن مِن الجَّمع الذي يَدحَرهُما والبائع الذي يشتمهما.

أمّا يسوع الكبير، بحيث يَصِل العجوزان إلى مستوى قلبه، فيضع يده على كتف المرأة ويسألها: «لماذا تبكين يا امرأة؟»

تلتَفِت المرأة العجوز وتُشاهِد هذا الرجل الكبير الـمُفعَم شباباً، الـمَهيب بثوبه الأبيض ومعطفه الثلجيّ اللون؛ الجديد والنظيف. مِن المفروض أن تكون قد اعتَبَرَته أحد الأحبار بسبب ثوبه ومظهره، ومع دهشتها، إذ إنّ الأحبار والكَهَنَة لا يُقيمون عادة وزناً لأيّ حال لدى الناس، ولا يَحمُون المساكين ضدّ جشع وضراوة الباعة، وتَقصّ أسباب حزنهما عليه.

يلتَفِت يسوع إلى بائع الحِملان: «بَدِّل هذا الحَمَل لهذين المؤمنين فهو لا يليق بالمذبَح، كما أنّه مِن غير اللائق أن تستغلّ عجوزين فقيرين لأنّهما ضعيفان وليس لهما مَن يُدافِع عنهما.»

«وأنتَ مَن تكون؟»

«عادِل، مستقيم.»

«لهجتكَ ومُرافقوكَ تُشير إلى أنّكَ جليليّ. وهل يمكن أن يَخرُج مِن الجليل رجل عادل ومستقيم؟»

«افعَل ما أقوله لكَ وكُن أنتَ عادلاً ومستقيماً.»

«اسمَعوا! اسمَعوا الجليليّ الـمُدافِع عن نَظيرَيه! هو يريد أن يعطينا درساً، نحن الذين في الهيكل!» ويَضحك الرجل مستهزئاً ومُقلّداً لهجة الجليليّ الأكثر تنغيماً والألطف مِن لهجة أهل يهوذا. على الأقلّ حسب ما يبدو لي.

يَتَجَمَّع الناس حلقات ويَأخُذ باعة آخرون وصيارفة يُدافِعون عن شريكهم في الجرم ضدّ يسـوع. وكان بين الحضور حاخامان أو ثلاثة يَسـخَرون. ويَسـأل أحدهم: «هل أنتَ مِن الأحبار؟» بلهجة تُفقِد أيّوب صبره.

«أنتَ قلتَ.»

«ماذا تُعَلِّم؟»

«هاكُم ما أُعَلِّمه: “إعادة بيت الله بيت صلاة وليس وكراً للمُرابين والباعة. هذا هو تعليمي”. وقد كان يسوع مَهولاً. بدا وكأنّه رئيس الملائكة على عتبة الفردوس المفقود. ليس في يديه سيف مُلتَهِب، ولكنّ عينيه تُشِعّان بالنّور وتَصعَقان الـمُستَهزِئين ومُدَنِّسي القدسيّات.

ليس في يده شيء. غضبـه المقدّس فقط. وبـه وحده يمشي مُسرِعاً ومَهيباً بين المناضِد ويُبَعثِر النقود المرتّبة بدقّة حسب قِيَمها، ويَقلب الطاولات، الصغيرة منها والكبيرة، فتقع وتتحطّم على الأرض مع ضجّة المعادن التي تقفز، والخشب الذي يتدحرج، ومع صرخات الغضب والذُّعر والاستحسان. ثمّ ينتَزِع مِن أيدي حرّاس الدَّواب الحِبال التي تُربَط بها الثيران والنعاج والحِملان، ويصنع منها سُوطاً قاسياً، حيث تُجمَع السّيور بِعُقَد تُثَبِّتها، ويرفعه ويجيله ثمّ يهوي به مِن دون رحمة. نعم أؤكّد لكم دون رحمة.

يَهوي هذا الوابل غير المتوقّع على الرؤوس والظهور. يتفاداه المؤمنون وهم يَنظُرون إلى المشهد بإعجاب. بينما الـمُذنِبون الـمُلاحَقون حتّى خارج السور يَنجون بأنفسهم مُطلِقين سيقانهم للريح، تاركين الدراهم على الأرض، والحيوانات بقاماتها المختلفة خلفهم في تمازُج كبير مِن القوائم والقرون والأجنحة. والذي يجري ينجو بنفسه. الخوار، الثغاء، هديل الحمام واليمام، كلّ ذلك بالتزامن مع ضحكات المؤمنين وصرخاتهم خلف الـمُرابين الفارّين، وقد تجاوَزَ حتّى جوقة الحيوانات المثيرة للشفقة والتي تُذبَح بالتأكيد في ساحة أخرى.

يَهرَع كَهَنَة ومعهم بعض الحاخامين والفرّيسيّين. ويسوع ما يزال في وسط الساحة عائداً مِن الـمُلاحَقة، والسوط ما يزال في يده.

«مَن أنتَ؟ كيف تسمح لنفسكَ بفعل هذا، مُعَكِّراً صفو الاحتفالات الـمُقَرَّرَة؟ مِن أيّة مدرسة أتيتَ؟ بالنسبة لنا، نحن لا نعرفكَ ولا نعرف مَن تكون.»

«أنا القادر. أستطيع فعل كلّ شيء. انقُضُوا هذا الهيكل الحقيقيّ وأنا أُقيمُه لتمجيد الله. فأنا لا أُعكّر صفو قداسة بيت الله ولا الاحتفالات. إنّما أنتم مَن تُعكّرونها بسماحكم للمُرابين والغشّاشين بالإقامة في بيته. مدرستي هي مدرسة الله، المدرسة ذاتها الكائنة لكلّ إسرائيل، بِفَم الأزليّ الذي كان يُكَلِّم موسى. ألا تعرفوني؟ سوف تَعلَمون مَن أكون. ألا تعرفون مِن أين أتيتُ؟ سوف تَعلَمون ذلك.»

وبينما يلتَفِت إلى الشعب دون اكتراث بالكَهَنَة مهيمناً على المحيط بقامته، مرتدياً الثوب الأبيض، والمعطف مفتوح، واسع مِن الخلف عند الكتفين، ويداه ممدودتان مثل خطيب في اللحظة الأكثر وجدانيّة في خطابه، ويقول:

«اسمَعوا يا أبناء إسرائيل! لقد جاء في سفر تثنية الاشتراع: “اجعَل لكَ قُضاة وحُكّاماً في جميع مدنكَ… يحكمون فيما بين الشعب حُكماً عادلاً. لا تَجوروا في الحُكم ولا تُحابوا الوجوه ولا تأخذوا رشوة لأنّ الرشوة تعمي أبصار الحكماء وتُحَرِّف أقوال الصدّيقين. واتّبع الحقّ لكي تحيا وتملك الأرض التي يعطيكَ الرب إلهكَ”.

اسمَعوا يا أبناء إسرائيل! وقد جاء في تثنية الاشتراع: “لا يكون للكَهَنَة واللاويّين ولجميع سبط لاوي نصيب ولا ميراث مع إسرائيل، فَهُم يأكلون مِن وَقَائِد الربّ وميراثه. وميراث فيما بين أخوته لا يكون له إنّما الربّ هو ميراثه”.

اسمَعوا يا أبناء إسرائيل! كذلك جاء في تثنية الاشتراع: “لا تُقرِض أخاك بربى في فضّة أو طعام أو شيء آخر ممّا يُقرَض بالربى، بل الأجنبيّ إيّاه تُقرِض بالربى. بل بالعكس تُقرِض أخاكَ كلّ حاجته دون ربى”.

هذا ما قاله الربّ.

والآن أنتم تَرَون أنّ حُكم القضاة تجاه الفقراء غير عادل في إسرائيل. فلا يكون الرَّجَحان لصاحب الحقّ، ولكن لِمَن هو أقوى. أن تكون فقيراً أو تكون مِن عامّة الناس فهذا يعني أن تتحمّل الظلم. كيف يستطيع الشعب القول: “إنّ حاكمنا عادل” إذا ما رأى أنّ الـمُقتَدِرين وحدهم هم المحترمون والمسموعة كلمتهم، بينما لا يَجِد الفقير مَن يبغي سماعه؟ كيف يستطيع الشعب احترام الربّ إذا ما رأى أنّ مَن يقع عليهم هذا الواجب أكثر مِن غيرهم لا يحترمونه؟ هل احترمتم الربّ في مخالفة وصيّته؟ ولماذا إذاً لهم في إسرائيل ممتلكات ويتقبّلون الرشاوى مِن العشّارين والخَطَأَة الذين يفعلون هذا ليحظوا باهتمام الكَهَنَة، وهؤلاء يَقبَلونهم مقابل صندوق مليء بالنقود؟

الله هو إرث كهنته. بالنسبة لهم، هو أبو إسرائيل، وهو أكثر أبوّة مِن أيّ أب آخر على الإطلاق، وهو يتدبّر أمر طعامهم كما يجب بالضبط، إنّما ليس أكثر مِن الكفاف. إنّه لم يَعِد خدّامه بثروات ولا أملاك. ستكون السماء لهم في الأبديّة مكافأة لعدلهم واستقامتهم كما هي لموسى وإيليا ويعقوب وإبراهيم؛ إنّما على هذه الأرض فيجب ألاّ يكون لهم سوى ثوب مِن كتّان وإكليل مِن ذهب غير قابل للفساد: الطهارة والمحبّة. ينبغي أن يكون الجسد في خدمة الروح الذي هو في خدمة الإله الحقّ. وليس على الجسد أن يسيطر على الروح ويتصدّى لله.

لقد سُئِلتُ بأيّة سُلطة أفعل هذا. وهُم بأيّة سُلطة يَنتَهِكون حُرمة وصيّة الله ويَسمَحون، في ظلّ الجدران المقدّسة، بالربى على حساب الأخوة مِن إسرائيل القادمين طاعة لوصيّة الله؟ لقد سُئِلتُ مِن أيّة مدرسة أتيتُ، وأَجَبتُ: “مِن مدرسة الله”. نعم يا إسرائيل لقد أتيتُ لأقودكَ إلى هذه المدرسة المقدّسة والثابتة.

مَن يَرغَب معرفة النور والحقّ والحياة، مَن يَرغَب سماع صوت الله يتحدّث إلى شعبه فليأت إليَّ. لقد تَبِعتُم موسى عبر الصحارى يا أبناء إسرائيل. اتبعوني فأقودكم عبر صحراء أكثر كآبة إلى الأرض الطوباويّة الحقيقيّة. عبر البحر الذي ينشق بأمر الله، إليها أنا أقودكم. وبرفع إشارتي أُبرِئكُم مِن كلّ شرّ.

لقد أتت ساعة النِّعمة. لقد انتَظَرَها الأحبار وماتوا وهُم في انتظارها. لقد تنبّأ عنها الأنبياء وماتوا على هذا الرجاء. لقد حلم بها المستقيمون وماتوا متعزّين بهذا الحلم. أمّا الآن فلقد قامت.

تعالوا. “سوف يدين الربّ شعبه ويترأّف بالذين يخدمونه”، كما وَعَدَ على لسان موسى.»

الناس الذين تَحَلَّقوا حول يسوع باتوا يَستَمِعون إليه بأفواه فاغِرة. ثمّ عَلَّقوا على كلمة الرابي الجديد مُستَفسِرين مِن مُرافِقِيه.

يتوجّه يسوع بعدئذ إلى ساحة أخرى منفصلة عن هذه عبر رواق. يتبعه أصدقاؤه.

وتتوقّف الرؤيا.


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
تعليقات
  1. SISTER MARY

    GREAT JOB MAY GOD BLESS ALL OF YOU

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.