6- كلها جميلة ولا عيب فيها | قصيدة الإنسان – الإله

2٬251

كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

6- كلها جميلة ولا عيب فيها

27 / 08 / 1944

يقول يسوع:

«انهضي بسرعة يا صديقتي الصغيرة. فإنّ بي رغبة متأجّجة لأحملكِ معي إلى سماء تأمّل بتوليّة مريم الفردوسيّة. سوف تخرجين منها بنفس نديّة كما لو كُنتِ خُلِقتِ من الآب للتو، حوّاء صغيرة ما زالت تجهل أمر الجسد.

ستخرجين منها بنفس مشرقة لأنّكِ ستتعمّقين في رائعة الله. ستخرجين منها بكيان يفيض حبّاً لأنّكِ ستدركين كم يعرف الله أن يحبّ. الكلام عن الحَبَل بمريم المنزّهة عن كلّ عيب، هذا يعني الغوص في اللازورد، في النور، وفي الحبّ. تعالي واقرأي أمجادها في كتاب الأجداد.

“الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ البدء قبل الخليقة. لقد صنعَني في أصل الكائنات قبل أن تُخلق الأرض. عندما لم تكن اللجج بعد قد صاغني. عندما لم تكن الينابيع الحيّة قد تدفّقت، والجبال لم تكن قد شمخَت بكتلتها الضخمة ولم تكن التلال قد تعرّضت للشمس، وُلِدتُ. عندما لم يكن الله قد صنع الأرض والأنهار ومحور العالم، كنتُ أنا. لقد كنتُ حاضرة بينما كان يهيّئ السماء! عندما حَصَرَ اللجج تحت قبّة السماء بفعل قانون ثابت، وأكّد ثبات القبّة السماويّة في الأعالي، وصَنَعَ ينابيع المياه الحيّة، عندما كان يثبِّت حدود البحار ويقرّر قوانين كُتَل مياهها، وعندما أَمَر المياه ألّا تتجاوز حدودها؛ وعندمـا كان يرمي أسـاسـات الأرض كنتُ أنا معه لتنظيم كلّ الأمور، كنتُ ألعب وسط الكون بفرح لا متناه…”.

لقد عزوتم هذا الكلام إلى الحكمة، بينما كان يعنيها هي: الأم كلّية البهاء، كلّية القداسة. العذراء أمّ الحكمة التي هي أنا بالذات، أنا الذي أكلّمكِ. رَغِبتُ أن تكتبي أوّل بيت من هذا النشيد في رأس الكتاب الذي يتكلّم عنها ليعرف الجميع ويعلموا أنّها سلوى الله وفرحه،

هي سبب مسرّة الله الواحد والثالوث الثابتة والكاملة والحميميّة، الله الذي يسوسكم ويحبّكم في الوقت الذي كان الإنسان سبب حزنه. لقد كانت سبب تخليد الجنس البشري الذي استحقّ السحق عند أوّل تجربة. إنّها سبب حصولكم على الغفران.

امتلاك مريم للحصول منها على الحبّ. آه! إنّه لأمر يستحقّ عناء خلق الإنسان وجعله يَحيَى وتقرير مسامحته، كلّ هذا من أجل الحصول على العذراء الجميلة، العذراء القدّيسة، العذراء المنزّهة عن كلّ عيب، العذراء المقتناة بالحبّ، الابنة المحبوبة جدّاً، الأمّ كلّية الطهارة، العروسة المحبوبة!

لقد وَهَبَكم الله عطاياه، وهو على استعداد لأن يهبكم باستمرار ليمتلك الخليقة التي تصنع لـه بهجته، شمس شمسه، زهرة بستانه، ويستمرّ عطاؤه لكم عن طريقها، بناء على طلبها، لمسرّتها، ذلك أنّ مسرّتها ستذوب في مسرة الله وتعظّمها بالومضات المتلألئة بالنور، نور الجنّة العظيم، وكلّ ومضة هي هبة للكون، للجنس البشريّ، للمغبوطين أنفسهم الذين يستجيبون بنداء متلألئ بالهلليلويا لكلّ معجزة من قبل الله يجترحها بسبب رغبة الله الثالوث رؤية ابتسامة مسرّة العذراء الـمُشرِقة.

لقد أراد الله أن يقيم مَلِكَاً على العالم الذي خلقَه من العدم. ملكاً يكون بطبيعته المادّية الأوّل بين كلّ المخلوقات المنبثقة من المادّة وهي نفسها ماديّة. ملكاً يكون أقلّ من الإله قليلاً بطبيعته الروحيّة، متّحداً بالنعمة كما كانت براءته في يومه الأوّل.

ولكن الفطنة الفائقة، التي تَعلَم كلّ الأحداث الأكثر بُعداً في أعماق الدهور، والتي تكتشف دائماً كلّ ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون – وبينما هي تتأمّل الماضي وتلاحظ الحاضر،

تراها تتعمّق بنظرها في المستقبل البعيد جدّاً دون أن تغفل أو تجهل كيف ستكون ميتة الإنسان الأخير، كلّ ذلك دون اختلاط أو توقّف – لم تجهل أبداً أنّ الملك الذي توقّعَتهُ، الذي خُلِقَ ليكون شِبه إلهيّ إلى جانب الله في السماء، وارث الآب، الذي يصبح بالغاً في مملكته بعد أن يَحيَى في بيت والدته – الأرض التي تَشَكَّل منها – لم تجهل أنّه طوال فترة طفولته كابن الأزليّ، أثناء إقامته الأرضيّة، كان سيرتكب ضدّ ذاته جريمة قتل النعمة في نفسه وسرقة التواري عن السماء.

لماذا إذن خَلَقَها؟ تساءل الكثيرون بكلّ تأكيد. هل كنتم تفضّلون عدم وجودها؟ ألم تكن تستحقّ لذاتها بالرغم من فقرها وعريها وشظف عيشها الذي سبّبه شرّكم، لأن تَحيَى هذا اليوم الأرضيّ للتعرّف والإعجاب بالجمال اللامتناهي الذي نَشَرَته يد الله في الكون؟

لمن صَـنَعَ هذه النجوم والكواكب السيارة التي تنتقل كالأسهم مُخَطِّطة قُبَّة السماء أو تتقدّم ببطء جليّ، ولكنّه مهيب في جري النيازك واهبة إيّاكم أنواراً وفصولاً، وهي تهبكم بأزليّتها وثباتها، بالرغم من تغيّر شكلها المستمرّ، صفحة للقراءة عن اللازورد كلّ مساء وكلّ شهر وكلّ سنة؟ وكأنّها تريد أن تقول لكم: انسوا السجن، دعوا جانباً إعلاناتكم المليئة بأشياء قاتمة، عفنة، وسخة، سامة، كاذبة، مجدّفة، ومفسدة، واسْموا، أقلّه بالنظر، صوب حريّة تتجاوز حدود السماوات،

اجعلوا أرواحكم سماويّة بالتطلّع إلى الكثير من السكينة، اخزنوا لكم مؤونة من النور لتحملوها إلى سجنكم المظلم، اقرأوا الكلمة التي نكتبها بينما نرتّل الترتيلة الفلكيّة، أكثر تناغماً من تلك التي ترافقها أراغن الكاتدرائيّة، الكلمة التي يكتبها تألّقنا، التي يكتبها حبّنا لأنّه حاضر دائماً بالنسبة لنا ذلك الذي منحنا مسرّة الوجود، ونحن نحبّه لأنّه منحنا هذا الوجود، هذا التألّق، هذه الحركة، هذه الحريّة وهذا السناء وسط هذه السماء المليئة بالعذوبة التي نرى أبعد منها سماء أكثر رفعة وسناء: الجنّة.

إنّه كياننا الذي يجعلنا نتمّم الجزء الثاني من وصيّة الحبّ، بحبّكم أنتم باعتباركم كوننا المستقبليّ، بحبّكم بالموهبة التي نعطيكموها بأن نؤمّن لكم التوجيه والنور، الحرارة والسناء. اقرأوا الكلمة التي نوجّهها إليكم، فهي التي تُلهِم نشيدنا وتألّقنا ومسرّتنا: “الله”.

لمن تراه صَنَعَ هذا اللازورد السائل، مرآة السماء، الطريق إلى الأرض، بسمة المياه، صوت الأمواج، وأيضاً الكلمة التي، بشنشنة الحرير وضحكات الأطفال الوادعة، بتنهيدات المسنّين الذين يتذكّرون ويبكون، بصفعات العنف ونطحات القرون، بالخوارق والزمجرات، لا تتوقّف عن الكلام وتقول دائماً: “الله”؟

البحر بالنسبة لكم كالسماوات والكواكب ومعه البحيرات والأنهار والجداول والغدران والينابيع المشرقة، كلّ ما يصلح لنقلكم وتغذيتكم، ليشفي غليلكم ويطهّركم، والتي تخدمكم بينما هي تخدم الخالق، دون الخروج من مجاريها لتغمركم كما تستحقّون.

لمن تراه صَنَعَ هذا العدد الذي لا يحصى من أنواع الحيوانات التي هي زهور تطير وتغني، وهي بمثابة الخدّام تركض وتعمل لأجلكم، وتغذّيكم وتبهجكم أنتم ملوك الخليقة؟

لمن تراه صَنَعَ هذا العدد الذي لا يحصى من أنواع المزروعات والزهور التي تشبه الفراشات والجواهر، عصافير ثابتة، ثمّاراً تبدو كعقود أو مصاغاً من اللآلئ، سجادات لأرجلكم وراحة لرؤوسكم، استراحات ومنافع، مسرّة للروح والأعضاء والحواسّ: النظر والشمّ؟

لمن تراه صَنَعَ المعادن في أعماق الأرض، والأملاح المنحلّة في الينابيع التي تغلي منها أو الجامدة: الكبريت، اليود، البروم… إنْ لم يكن ليتمتّع بها أحد غير الله، هو ابن لله، وهو كائن فريد: الإنسان؟

لا يمكن لشيء أن يكون ضروريّاً لا غنى عنه لمسرّة الله وحاجته، إنّه مكتفٍ بذاته. وتأمّله هو غبطته وغذاؤه وحياته وراحته. الخليقة قاطبة لم تستطع أن تضيف ذرّة واحدة إلى مسرّته اللامنتهية، لبهائه وحياته وقدرته. كلّ هذا قد صَنَعَهُ لخليقته، لذاك الذي أراد جعله مَلِك كلّ الأشياء المخلوقة، للإنسان.

لكي تروا هذا الكم من الأعمال الإلهيّة وتشكروه على القدرة التي منحكموها، فذلك يستحقّ أن تحيوا. ويجب أن تعترفوا بجميل مَنْحِكم الحياة. هذا ما يجب أن يكون حتّى ولو لم تكونوا قد افتُديتم إلّا في آخر الأزمان.

بالفعل، على الرغم من أنّكم، يا من كنتم من الأوائل، وكنتم كلّ بمفرده مخلّاً بالأمانة، متكبّراً، فاجراً وقاتلاً، على الرغم من كلّ هذا، فقد مَنَحَكُم الله أن تستمتعوا بجمال الكون، وعامَلَكُم كما لو كنتم صالحين، أبناء بَرَرَة يُمنحون ويُلقَّنون كلّ شيء لتصبح حياتهم ألطف وأسلم.

كلّ ما تعلمونه قد عرفتموه بواسطة نور الله. وكلّ ما تكتشفونه فبموجب إيعاز من الله، في الخير. وكلّ المعارف الأخرى التي تحمل شارة الشرّ فإنّها متأتّية من الشر الأعظم: إبليس.

الذكاء العظيم الذي لا يجهل شيئاً وكان يعرف قبل وجود الإنسان أنّه سيكون بمحض إرادته سارقاً وقاتلاً. وبما أنّ الصلاح الأبديّ لا حدود لصلاحه، فقد فَكَّرتُ بوسيلة لتدمير الخطيئة قبل أن توجد الخطيئة.

والوسيلة هذه هي: أنا، الكلمة. أمّا الأداة التي جعلَت من الوسيلة أداة فاعلة فهي: مريم. والعذراء قد خُلِقَت في فكر الله السامي. وكلّ الأشياء خُلِقَت من أجلي وبواسطتي، أنا ابن الآب الحبيب.

أنا كملك، كان من المفروض أن تُفرَش تحت قدميّ، قدمي الملك الإلهيّ، سجّادات وجواهر لم تُفرَش ولم توجد في أيّ قصر ملكيّ بعد، وأن تصدح أناشيد وأصوات، وأن يحيط بي، بوجودي، خدّام لم يكونوا لأيّ ملك غيري، ومن الزهور والأحجار الكريمة كلّ ما هو الأكثر عظمة والأكثر روعة، كلّ ما هو لطيف وممتع، كلّ ما يمكن أن يُجنَى من فكر الله.

إنّما كان يجب أن أكون بالجسد وليس روحاً فقط… أن أكون بالجسد لأخلّص الجسد ولأسمو به برفعه إلى السماء قبل الأوان بقرون، ذلك أنّ الجسد الذي تسكنه الروح هو رائعة الله، ولأجله خُلِقَت السماوات. ولكي ألبس جسداً كان لا بدّ لي من أُمّ. ولأكون الله كان لا بد لي من أب يكون هو الله.

هذا هو السبب الذي جعل الله يخلق عروسه ويقول لها: “تعالي معي، إلى جانبي، وانظري كلّ ما أفعله لابننا. انظري وافرحي، أيّتها العذراء الأبديّة، الطفل الأبديّ، أمّا ابتسامتكِ فلتملأ السماء ولتعطي الملائكة النغمة الأصليّة ولتُعَلِّم الجنّة التناغم السماويّ. أنظر إليكِ وأراكِ كما ستكونين، أيّتها المرأة المنزّهة عن كلّ عيب، وأنتِ لستِ الآن سوى روح: الروح الذي أُسَرُّ به. أنظُر إليكِ وأمنح لازورد نظرتكِ للبحر وقبّة السماء، ولون شعركِ للبذرة المقدّسة، وبياضكِ للزنابق، واحمراركِ للوردة الشبيهة ببشرتكِ الحريريّة، واللآلئ هي أسنانكِ الصغيرة. أصنع توت الأرض (الفريز) اللذيذ حينما أنظر إلى فمكِ، وأضع في حنجرة البلابل أنغام نشيدكِ وفي اليمامة أنينكِ. بقراءة أفكاركِ المستقبليّة وسماع ضربات قلبكِ أحصل على شكل ودليل الخليقة. تعالي يا فرحي، لأجلكِ ستكون العوالم كالتسالي إلى أن تصبحي في فكري النور المتراقص، ها هي العوالم من أجل ابتسامتكِ، لأجلكِ هي أكاليل النجوم وأطواق الكواكب، القمر تحت قدميكِ العذبتين، فاصنعي لنفسكِ من نجوم درب التبّانة وشاحاً. النجوم والكواكب السيّارة لكِ. تعالي وتمتّعي برؤية الأزهار التي ستسلّي ولدكِ وتكون بمثابة الوسادة لابن أحشائكِ. تعالي وتأمّلي خلق القطعان والنعاج، خلق النسور والحمام. كوني بقربي عندما أصنع أحواض البحار والأنهار، عندما أنصُب الجبال وأغطّيها بالثلج والغابات، عندما أبدُر القمح وأزرع الأشجار والكروم والزيتون لكِ يا سلامي. الكرمة لكِ يا غصني الذي سيحمل العنقود القربانيّ. اركضي، طيري، وابتهجي يا جميلتي، وهيئي الكون الذي يُخلَق من ساعة لساعة ليحبّني، أيّتها المحبّة، وليصبح اجمل بابتسامتكِ يا أمّ ابني وملكة جنّتي، يا حبّ إلهكِ”.

وأيضاً برؤية الخطأ، والإعجاب بالمنزهة عن الخطأ: “تعالي إليّ أنتِ يا من تغيّبين مرارة المعصية البشريّة والفسق البشريّ مع إبليس والجحود الآدمي. معكِ سوف أنتقم من الشيطان”.

الله، الأب الخالق، خَلَق الرجل والمرأة بشريعة حبّ كاملة لدرجة لا يمكنكم معها بأيّ شكل إدراك مدى كمالها. وسيضلّ بكم التفكير إذا ما حاولتم معرفة وضع الجنس البشريّ لو لم يخضع الإنسان لتوجيهات الشيطان.

تأمّلي النباتات بثمّارها وبذورها. هل تقوم بالزراعة والحصول على الثمّار نتيجة فسق أو بفعل تلقيح من مائة جماع؟ أبداً. بل يَخرُج غبار الطلع من الزهرة الذكر، وبتوجيه من مجموعة قوانين نيزكية ومغناطيسية يتّجه صوب مبيض الزهرة الأنثى التي تتفتح، تستقبله وتُنتِج.

إنّها لا تقبل النجاسة لترفضها فيما بعد كما تفعلون أنتم لتعودوا فتختبرون الإحساس ذاته في اليوم التالي، فهي إذ تُنتِج لا تعود تُزهِر حتّى الموسم التالي، وإن أزهرت فذلك بغرض التوالد.

تأمّلي الحيوانات، كلّ الحيوانات. هل رأيت قَطّ ذكراً وأنثى يتّجه الواحد صوب الآخر بهدف عناق عقيم وعلاقة نجسة؟ أبداً. لا من قريب ولا من بعيد، بالطيران كان أو بالزحف، بالقفز أو بالجري؛ بل إنّها تُنجِز طقوس الإلقاح دون تملّص منها بالوقوف عند حدود اللذّة، ولكنّها تنجزها حتّى النهاية الجادّة والمقدّسة لاستمرار الجنس، وهو الهدف الوحيد منها.

أمّا الإنسان، شبه الإله بطبيعته الإلهيّة بالنعمة التي وَهَبتُها لـه كاملة، فقد كان من المفروض أن يَقبَل فقط لنفس الهدف الفعل الحيوانيّ الذي يفرض نفسه منذ هبطتم درجة في التصنيف الحيوانيّ.

إنّكم لا تتصرّفون مثل النباتات والحيوانات، لقد اتّخذتُم إبليس كمعلّم، وأردتموه معلّماً، وما زلتم تريدونه كذلك. والأفعال التي تقومون بها تليق بذاك المعلّم الذي أردتموه. بينما لو كنتم مُخلِصين لله، لكنتم نلتم مسرّة الحصول على الأطفال بشكل قدسيّ بدون ألم، دون أن تستسلموا لعلاقات فاحشة ومخزية، علاقات تجهلها الحيوانات ذاتها، الحيوانات التي لا تتمتع بنفس عاقلة وروحانيّة.

أراد الله أن يقابل الرجل والمرأة اللذين أفسدهما الشيطان، بالإنسان المولود من امرأة رَفَعَها الله بشكل فائق، لدرجة الحَبَل والولادة دون أن تعرف رَجُلاً، زهرة تلد زهرة دونما حاجة إلى تلقيح ماديّ، ولكنّها تصبح أُمّاً بفعل قبلة وحيدة من الشمس على كأس الزنبقة مريم الذي لم يُمَسّ.

انتقام الله!

انفث حقدكَ أيّها الشيطان بينما هي تُولَد. لقد غَلَبَتكَ هذه الطفلة الصغيرة! قبل أن تجعل من نفسكَ مُتمرّداً ومُراوغاً ومُفسِداً، كنتَ المقهور وهي المنتصرة. ألف جيش منظم في الحرب لا يستطيعون شيئاً في مواجهة قدرتكَ. فالأسلحة تسقط من أيدي الرجال عندما تُقابِل تروسكَ، أيّها الـمُفسِد الدائم، وليس هناك ريح قويّة كفاية لتبدّد نتانة نَفَسك.

ومع ذلك فكعب قدم هذه الطفلة، الورديّ مثل قلب زهرة الكاميليا الورديّة الناعمة والطريّة، لدرجة أنّ الحرير يبدو خشناً إذا ما قورن بها، الصغير جدّاً لدرجة أنّه يستطيع الدخول في كأس خزامى Tulipe وأن يجعل من هذا السندس النباتيّ حذاء، ها هو يسحقكَ دون خوف ويحبسكَ في كهفكَ. ها إنّ مجرّد صراخها وهي وليدة يجعلكَ تهرب أنتَ الذي لا يهاب الجيوش، وها إنّ نَفَسها يطهّر رائحة نتانتكَ.

فأنتَ مقهور. واسمها ونظرتها وطهارتها هُم: الرمح والحجر والصاعقة التي تخترقكَ وتسمّركَ في الأرض وتحبسكَ في جحركَ الجهنّميّ، أيّها الملعون الذي انتَزَعَ من الله فرحة كونه أباً لكلّ البشر المخلوقين.

باطلة هي محاولاتكَ إفساد الذين خُلِقوا في حالة البراءة، بحملهم على القران والحبل من خلال حيل فاسقة، مانعاً الله من أن يمنح خليقته المحبوبة أولاداً حسب قواعد، لو تمّ احترامها، لصانت في الأرض توازناً بين الجنس والنسل قادراً أن يمنع الحروب بين الأمم والشقاء في العائلات.

في الطاعة يعرفون الحبّ بالطبع، ويحصلون عليه، في الامتلاك الكامل والهادئ لهذا الانبثاق من الله الذي نزل من فائق الطبيعة ليَختَبِر به الجسد أيضاً فرحاً مقدساً، وهو المتحد بالروح، وقد خَلَقَهُ من خَلَقَ الروح ذاته.

والآن، أيّها البشر، ما طبيعة حبّكم، بل ما طبيعة مجموع أنواع الحبّ عندكم؟ إنّه، مهما كان النوع الذي ينتمي إليه، إمّا فسق يأخذ شكل حبّ وإمّا خوف غير قابل للشفاء من فقدان حبّ القرين بسبب فسقه والآخرين.

لم تعودوا متأكّدين من امتلاك قلب الزوج أو الزوجة أبداً، منذ أن اجتاح الفسق العالم. وترتجفون وتبكون وتصبحون مجانين بسبب الغيرة، بل قَتَلَة أحياناً بالانتقام، بسبب خيانة، وفي حالات أخرى يائسين ومصابين بفقدان الإرادة والخبل.

هذا ما فعلتَهُ أيّها الشيطان بأبناء الله. أولئك الذين خَدَعتَهم وكانوا سيعرفون فرح الحصول على أبناء بدون ألم، والذين كانوا سيختبرون فرح أنهم وُلِدوا دون الخوف من الموت. أمّا الآن فقد هزمتكَ امرأة، بل المرأة التي سيعود منذ الساعة كلّ من يحبها ليصبح من الله، وينتصر على التجارب ليستطيع المحافظة على طهارته دون عيب.

أمّا النساء فسيحصلن على تشجيعها، وستصبح هي منذ الآن فصاعداً للأزواج دليلاً وللأموات أُمّاً. وبفضلها سيصبح لذيذاً الموت على هذا الصدر الذي يحميهم منكَ أيّها الملعون، ويدافع عنهم عند صدور أحكام الله.

ماريا فالتورتا، يا صوت الله الهامس، لقد رأيتِ ولادة ابن العذراء وولادة أمّه في السماء. لقد عاينتِ إذاً أنّ لا وجود لآلام الولادة والموت خارج الخطيئة. ولكن إذا كان كمال المواهب الإلهيّة قد صان الفائقة البراءة أمّ الله، فقد كان سيمنح كلّ المتحدّرين من الأبوين الأوّلين، لو كانا بقيا بريئين وابني الله، نعمة التوالد دون ألم – كما كان مفترضاً لمعرفتهم التزاوج والحبل بلا فسق – والموت دون قلق.

ثأر الله السامي من انتقام إبليس كان في حَمل كمال الخليقة المحبوبة إلى الكمال الفائق الذي، أقلّه في خليقة واحدة، قد أبطَلَ كلّ ذكرى للبشريّة قابلة لأن تعطي دفعاً لسمّ إبليس. وهكذا كان، أن جاء الابن إلى العالم، ليس على أثر علاقة بشريّة عفيفة، بل بعناق إلهيّ غيَّر وجه الروح في نشوة النار.

بتولية العذراء!

تعالي تأملي أعماق هذه البتولية، التي تجعل التأمل فيها يُحدِث دوار الهوة التي لا قرار لها! ماذا تكون بتولية امرأة أُرغِمَت عليها لأنّ رجلاً لم يتزوجها؟ أقلّ من لا شيء. ماذا تكون بتوليّة من أرادت أن تكون عذراء لتكون لله ولكنّها لا تعرف أن تكون كذلك إلّا بالجسد وليس بالروح، حيث إنّها تترك مجالاً لأفكار كثيرة غريبة تتسرّب إليها، كما تداعب وتتقبّل مداعبة الأفكار البشريّة؟ إنّها بداية كونها يرقة بتوليّة، ولكنّ ذلك ما يزال قليلاً جدّاً. وماذا تكون بتوليّة حبيسة، ناسكة لا تحيى إلا من الله؟ الكثير… ولكنّها لم تصل أبداً إلى البتوليّة الكاملة إذا ما قورنت ببتوليّة أمّي.

تواطؤ لا شعوريّ موجود دائماً حتّى لدى أكثر الناس قداسة: إنّه متأصّل في الروح مع الخطيئة، وهو الذي تعمل المعموديّة على التحرير منه، إنّها تحرّرنا منه، ولكن لدى العذراء، لا أثر للتواطؤ مع الخطيئة. وتبدو نفسها جميلة ونقيّة كما كانت في فكر الله، جامعة في ذاتها كلّ النِّعَم.

هذه هي العذراء الوحيدة، الكاملة، المكتملة: فكما وردَت في فكر الله وكما حُبِل بها، كذلك ستبقى أبداً. هكذا كُلِّلت وستبقى مُكلَّلة للأبد. إنّها العذراء، عمق عدم المساس والطهارة والنعمة، التي تتلاشى في هذا العمق الذي انبثقَت منه في الله، عدم مساس وطهارة ونعمة مطلقة.

هذا هو انتقام الله الثالوث والواحد. بخلاف كلّ المخلوقات الممتهَنة، أقام نجمة الكمال هذه في مقابل الفضول الفاسد، هذه الرزينة التي لا يشفي غليلها سوى حبّ الله، في مقابل علوم الشرّ. وكما أنّ الأرملة المنفصلة عن زوجها بموته لا تكون في بتوليّة كاملة، كذلك المعموديّة لا تُعيد للبشر البتوليّة الكاملة التي كانت للأبوين الأوّلين قبل الخطيئة.

ندبة دائمة مؤلمة لا تُنسى، وهي دوماً في وضع قابل لإعادة الجرح، مثلها في ذلك مثل أمراض كثيرة في ظروف معيّنة تعود الفيروسات فيها فاعلة نشيطة؛ هذه الجاهلة السامية، فهي لا تجهل الحبّ المنحطّ فقط، ولا الحبّ الذي وهبه الله للزوجين الآدميّين فقط، بل أكثر أيضاً.

إنّها تجهل الحرارة المؤذية، إرث الخطيئة. ليس لديها سوى الحكمة المجمّدة والمتوهّجة معاً للحبّ الإلهيّ. النار التي تجمّد الجسد لتجعل منه مرآة كاملة للهيكل الذي يتزوّج فيه الله عذراء ولا يتنازل أبداً، لأنّ كماله يُغلِّف التي هي، كما يليق بعروسة أقلّ بدرجة فقط من العروس، خاضعة لـه كامرأة، ولكنّها شبيهة به بدون عيب.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
تعليقات
  1. اناني

    انا زش قادره اصدق جمال الكلام المكتوب .. الف الف شكر يا يسوع انك اعطتنا هذه الرؤيه يا ام النور صلي من اجلنا

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.