رسالة الى السيدة العذراء

626

اخبار مريمية

الفتى جان في السادسة من العمر، بنطاله ممزق عند الركبتين، وشعره اشقر مجعّد، عيناه الزرقاوان الكبيرتان تحاول احياناً الابتسام، رغم كل ما ذرفتا من دموع! سترته القديمة اصبحت اسمالاً مهترئة.
كان مقروراً وجائعاً في ذلك المساء الشتوي، اذ لم يتناول اي طعام منذ ظهر الامس.
وخطر له ان يكتب رسالة .. الى السيدة العذراء الطيبة. واذ لم يكن قد تعلًم بعد القراءة والكتابة، قصد حانوت “محرر رسائل”. (في تلك الفترة انتشرت هذه المهنة فكان الأميون يتوجهون اليهم لتحرير رسائلهم) كان المحرر جندياً متقاعداً فقير الحال، حاد الطباع. وقد شاهده الفتى من خلال النافذة يدخن غليونه، فتجرأ ودخل، وقال له:
– هل تتكرّم يا سيدي، وتكتب لي رسالة؟
– انها تكلفك عشرة فلوس.
اجاب الفتى بأدب، وهو يفتح الباب ليخرج:
– اذن، اعذرني.
غير ان المحرر أُخذ بلطفه. فسأله:
– هل انت ابن جندي؟
– كلا، بل انا ابن امي.
– حسناً، وألا تملك عشرة فلوس؟ ولا امك تملكها، كما يتضح من هندامك، فهي حريصة على الفلوس لكي تُعدّ الحساء. تعال! ان كتابة عشرة اسطر على نصف ورقة لن تزيدني فقراً.
واخذ المحرر ورقة كان قد دوّن عليها:
باريس في 17 كانون الثاني 1857
الى السيد …
وسأل الصبي:
– ما اسم السيد الذي ستبعث له بالرسالة؟
– ليس سيداً.
– هل هو سيدة اذن؟
– نعم … لا … يعني …
– الا تعرف لمن ستكتب.
– بلا، اني اريد كتابة رسالة الى السيدة العذراء!
لم يضحك المحرر بل قال بقسوة:
– أفترض انك لا تسخر من جندي عجوز، هيا انصرف وابحث في الخارج.
استدار الفتى صامتاً كي يخرج، ولمح المحرر كاحليه العاريين، فرقّت نفسه لبؤسه، واستدعاه ثانية وسأله:
– ما اسمك؟
– اسمي جان.
– جان ماذا؟
– جان فقط.
– ماذا تريد ان تقول للسيدة العذراء.
– اريد ان اقول لها ان امي نائمة منذ الساعة الرابعة من مساء امس، ولم استطع ايقاظها، فهل لها ان تتكرّم وتوقظها؟
احس المحرر بانقباض في صدره، وخشي ان يكون ما استنتجه من كلام الصبي صحيحاً. فسأله ثانية:
– كنت قبل قليل تتكلم عن الحساء …
– ذلك اننا بحاجة الى حساء. فقد اعطتني امي اخر كسرة خبز لدينا، قبل ان تنام.
– وهي ماذا تناولت من طعام يا صديقي؟
– منذ يومين ما انفكت تقول لي انها ليست جائعة.
– وماذا فعلت كي توقظها؟
– قبّلتها، كما افعل دائماً
– ولم تلاحظ شيئاً؟
– كانت باردة جداً، فالبرد يسود بيتنا.
– وهل كانت ترتجف؟
– كلا ! كانت جميلة … جميلة … ويداها اللتان لا تتحركان مضمومتين فوق صدرها شديدتي البياض.
وجال في خاطر المحرر: “لطالما حسدت الاغنياء، مع اني آكل كفايتي. وها هي امرأة ماتت جوعاً … اجل جوعاً!”
ثم استدعى الفتى واجلسه على ركبتيه، وقال له برقة:
– يا صغيري، لقد كتبتُ رسالتك، وأُرسِلت، ووصلت المرسَلة اليها. والان اقتدني الى امك.
– بطيب خاطر. ولكن لم تبكي؟
واجابه الجندي العجوز، وهو يُقبّله بحرارة ويغرقه بدموعه:
– وهل يبكي الرجال؟
ثم نهض واضاف، كأنه يكلم شخصاً غير مرئي:
– اجل ايتها الأم. كوني سعيدة. فليسخر مني الرفاق ان شاؤوا. اني ارغب في الذهاب الى حيث انت موجودة. وسأتيكِ بصغيرك، الملاك المسكين الذي لن يبارحني بعد ابداً. فرسالته التي لم تُكتب قد اصابت هدفين: اعطته اباً … واعطتني قلباً.

المرأة المسكينة التي قتلها البؤس، لم يقيّض لها القيامة على هذه الارض.
من هي؟ لست ادري. لكني ادري ان ثمة شاباً في باريس، لا يملك دكان محرر رسائل. بل هو كاتب شهير يدبّج اقوالاً فصيحة رائعة، والجميع يعرفونه باسمه.
اما المحرر العجوز فهو شيخ سعيد، فاضل، لكنه الآن مسيحي حق، ويفخر بأمجاد “الصغير”، كما لا يزال يسمي الكاتب الشهير الذي تبنّاه.
لست ادري من هو ساعي البريد الذي يحمل مثل تلك الرسائل، التي تصل دائما الى عنوانها … الى السماء!!!

††† ﺍلمجد ليسوع ومريم †††

مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.