36- الهروب إلى مصر | قصيدة الإنسان – الإله

1٬463
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

36- الهروب إلى مصر

09 / 06 / 1944

أرى بالروح المشهد التالي:

الوقت ليل. ويوسف يغفو على وسادته في غرفته الصغيرة نائماً نوماً هادئاً، نوم مَن يرتاح بعد عمل كثير أنجَزَهُ بشرف وعناية.

أراه في عتمة الغرفة التي يتخلّلها خيط نور قمريّ يَلِج مِن فتحة في النافذة غير المغلقة جيّداً، بل هي بالكاد مُنفَرِجة، كما لو كان يوسف يشعر بالدفء في هذا المكان الصغير، أو كما لو كان هو يريد هذا الخيط مِن النور ليستطيع ضبط نفسه مع الفجر فينهض سريعاً. إنّه ينام على جنب ويبتسم في نومه لستُ أدري لأيّة رؤيا أو أيّ حلم. إنّ الابتسامة ما لَبِثَت أن تحوَّلَت إلى جَزَع. يتنهّد عميقاً كما لو كان كابوساً، ثمّ يَهُبُّ مِن النوم قافِزاً.

يَجلس على السرير، يَفرك عينيه ويَنظر حوله. يَنظر إلى النافذة مِن حيث يَدخُل خيط النور. الظلمة دامسة، ولكنّه يتوصّل إلى الثوب الممدّد في أسفل السرير، ويرتديه فوق قميص أبيض بأكمام قصيرة كان يلبسه وهو ما يزال جالساً على السرير. يكشف الغطاء ويُنزِل قدميه إلى الأرض ويبحث عن صندله ويَلبسه ويَربط شريطه. يَنهض ويتوجّه صوب الباب المقابل لسريره، وليس الذي إلى جانبه ويؤدّي إلى الغرفة التي استَقبَلوا فيها المجوس. يقرع بهدوء، بالكاد تك – تك بأطراف أصابعه.

قد يكون أدرَكَ أنّه دُعِيَ إلى الدخول، ذلك أنّه يفتح الباب بحذر ويعيد إغلاقه دون جَلَبَة. وقبل أن يتوجّه إلى الباب يُشعِل مصباح زيت صغيراً بشعلة واحدة ليستنير به. يَدخُل إلى غرفة أكبر قليلاً مِن غرفته حيث يوجد مرقد منخفض وإلى جانبه مهد، وفيها قنديل مضاء، بحيث تبدو شعلته الصغيرة التي تتراقص في زاوية منها وكأنّها نجمة صغيرة، منيرة، ضعيفة ومُذَهَّبة، تسمح بالرؤية دون إزعاج نوم النائم.

ولكنّ مريم لا تنام. إنّها تجثو إلى جانب المهد بثوبها الناصع وتصلّي، تسهر على يسوع الذي ينام بهدوء. يسوع الذي ما يزال بالعمر الذي رأيتُه به في رؤيا المجوس. إنّه طفل في ما يقارب السنة، جميل ورديّ وأشقر ذو رأس صغير جميل وشعر مُقَصَّب، وهو غارق في الوسادة، ويده المغلقة على عنقه.

يسألها يوسف بصوت منخفض مندهشاً: «ألا تنامين؟ لماذا؟ أوليس يسوع في حالة جيّدة؟»

«آه! لا! إنّه جيّد. أنا أصلّي. ولكنّني سأنام بعد ذلك. لماذا أتيتَ يا يوسف؟» تتكلّم مريم وهي جاثية كما كانت.

يتكلّم يوسف بصوت منخفض جدّاً، لكي لا يُوقِظ الطفل، إنّما بحماس: «يجب أن نرحل مِن هنا، وفوراً. أعِدّي الصندوق والكيس، وضعي فيهما كلّ ما تستطيعين، وسأجهّز الباقي. سأحمل أكثر ما يمكنني حمله… وسنهرب مع الفجر، بل حتّى قبل ذلك. إنّما يجب أن أتحدّث إلى صاحبة المنزل…»

«ولكن لماذا هذا الهروب؟»

«سأشرح لكِ فيما بعد. إنّه مِن أجل يسوع. ملاك قال لي: “خُذ الصبيّ وأُمّه واهرب إلى مصر”. فلا تضيعي الوقت. سأجهّز كلّ ما أستطيع.»

لا حاجة للقول لمريم بأن لا تضيع الوقت. فما أن سَمِعَتهُ يتكلّم عن الملاك، عن يسوع وعن الفرار، حتّى أدرَكَت أنّ خطراً يحيق بابنها. فقَفَزَت واقفة ووجهها أكثر شحوباً كالشمع، واضعة يدها على صدرها بقلق. وبَدَأَت تسير بسرعة وخفة، وترتّب الثياب في الصندوق وفي كيس كبير مَدَّته على سريرها الذي لم يُمس. إنّها قلقة ولكنّها لم تفقد دقّة التفكير، إنّها تقوم بكلّ شيء بعَجَلَة إنّما بترتيب. ومِن وقت لآخر، بينما تمرّ قرب المهد تَنظُر إلى الطفل النائم غير عالم بشيء.

وبين الفينة والفينة يُدخِل يوسف رأسه مِن الباب المنفَرج قليلاً ليسألها: «هل أنتِ في حاجة إلى مساعدة؟»

وتجيبه مريم دائماً: «لا، شكراً.»

فقط عندما امتلأ الكيس وأصبَحَ ثقيلاً، نادت يوسف ليساعدها في إغلاقه ورفعه عن السرير. ولكنّ يوسف لا يريد أن يساعده أحد، ويتصرّف منفرداً بحمله الصرّة الطويلة وأخذها إلى غرفته.

تسأله مريم: «هل عليّ أخذ الأغطية الصوفيّة؟»

«خذي كلّ ما يمكن أخذه، لأنّ الباقي سنخسره. إنّما خذي كلّ ما تستطيعين. سوف ينفع لأنّ… لأنّنا سوف نضطرّ إلى البقاء بعيداً مدّة طويلة، يا مريم!…»

أثناء قوله هذا يبدو يوسف حزيناً جدّاً، أمّا مريم فيمكننا تصوُّر ما هي عليه. إنّها تطوي، وهي تتنهّد، أغطيتها وأغطية يوسف الذي يربطها بحبل.

«سوف نترك البُسط والحُصر»، قالها وهو يربط الأغطية. «حتّى ولو أخذتُ ثلاثة حمير، فلن أستطيع أن أُحَمِّلها كثيراً، لأنّنا سنقطع مسافات طويلة ومُنهِكة، قسماً منها عبر الجبال والقسم الآخر في الصحارى. غطّي يسوع جيّداً لأنّ الليالي ستكون باردة جدّاً في الجبال والصحارى. لقد أخذتُ معي هدايا المجوس، فستنفعنا هناك. سوف أدفع كلّ ما معي لأشتري الحمارين. لن نتمكّن مِن إرسال الثمن مِن هناك، لذا فسأدفع نقداً. سأذهب قبل الفجر. أَعلَم أين أجدهما. أمّا أنتِ فأنهي تجهيز كلّ شيء.» ويَخرُج.

تُلملِم مريم أشياء أخرى، وبعد أن تَنظُر إلى يسوع، تَخرُج وتعود وبيدها ثياب صغيرة تبدو أنّها ما تزال رطبة، قد تكون غَسَلَتها في الليل، تطويها وتلفّها ضمن قطعة قماش وتضعها مع الباقي. لا شيء بعد. تلتفت فترى في إحدى الزوايا لعبة صغيرة ليسوع: نعجة صغيرة منحوتة مِن الخشب. تلتقطها مريم وهي تبكي وتُقَبِّلها. فالخشب يحمل آثار أسنان يسوع الصغيرة، والأذنان عليهما آثار عض كثيرة، تُداعِب مريم هذه اللعبة المنحوتة مِن الخشب الأبيض والتي لا قيمة ماديّة لها، ولكن قيمتها بالنسبة لها كبيرة جدّاً، ذلك أنّها تروي قصّة عطف يوسف على يسوع وتحكي لها عن الطفل، فتضمّها إلى بقيّة الأغراض في الصندوق الـمُقفَل.

الآن حتماً لم يعد ينقص شيء. فقط يسوع في مهده. تفكّر مريم بأنّه ينبغي إعداد الطفل جيّداً. تذهب إلى المهد وتحرّكه قليلاً لإيقاظ الصغير. ولكنّه يئنّ للحظة ثمّ يدور ويتابع نومه، تُداعِب مريم بلطف خصلات شعره، يفتح يسوع فمه ليتثاءب. تنحني مريم وتقبّل خده. يستيقظ يسوع، يفتح عينيه. يرى أُمّه ويبتسم، ثمّ يمد يديه إلى صدرها.

«نعم يا حُبّ أُمّكَ. نعم الحليب. قبل الموعد المعتاد… ولكنّكَ جاهز دوماً لترضع مِن والدتكَ يا حَمَلي المقدّس الصغير!»

يبتسم يسوع ويلهو بتحريك قدميه الصغيرتين خارج الأغطية، وخافقاً بيديه بنوع مِن الفرح الطفوليّ الذي يَخلب النَّظَر. يَسند قدميه على بطن أُمّه ويتقوّس ليسند رأسه على صدرها. ثمّ يعود فيرمي بنفسه إلى الخلف ويضحك ممسكاً بالحبال التي تُقفِل ثوب مريم في محاولة لفتحها. إنّه يبدو جميلاً جدّاً بقميصه الكتّاني، ربيلاً ورديّاً مثل زهرة.

تنحني مريم، وبينما هي هكذا مِن وراء المهد لرعايته، تبكي وتضحك في الوقت ذاته، في حين يُناغي الطفل بكلمات ليست كالكلمات، كلمات كلّ الأطفال، حيث نُميّز بوضوح فقط كلمة “ماما”. ويَنظُر إليها مندهشاً لرؤيتها تبكي. يمدّ يده إلى الدموع المتلألئة، التي تجوب خدي مريم وتُبلّلهما، وهو يُداعِبها، ثمّ، وبسلوكه العذب هذا، يعود ليستند على صدر أُمّه مشدوداً إليه وهو يُداعِبه بيده الصغيرة.

تُقَبِّل مريم شعره، وتأخذه وتَجلس لِتُلبِسه. ها هو قد لبس الثوب الصوفيّ الصغير وصندلاً صغيراً في قدميه. تُقَدِّم لـه ثديها فيرضع يسوع حليب أُمّه بشهيّة، وعندما يبدو لـه أن اليمينيّ لم يعد يُدرّ إلّا القليل مِن الحليب، يَنتَقِل إلى اليساريّ ويبتسم، وبعد أن يفعل ذلك يَنظُر إلى والدته. ثمّ ينام ورأسه على صدر مريم، وخدّه الورديّ المدوّر على ثدي أُمّه.

تَنهَض مريم مِن جديد بهدوء وتضعه على مفرش سريرها. تغطّيه بمعطفها. تذهب إلى المهد وتطوي الأغطية الصغيرة، وتتساءل ما إذا كان ينبغي لها أن تأخذ الفِراش الصغير. إنّه صغير جدّاً! بإمكانها أخذه. وتضعه مع الوسادة قرب الأمتعة التي هي الآن على الصندوق. وتبكي فوق المهد الفارغ. مسكينة هي هذه الأُمّ المضطَهَدة بابنها!

يعود يوسف: «هل أنتِ جاهزة؟ ويسوع كذلك؟ هل أخذتِ أغطيته ومرقده الصغير؟ إنّنا لا نستطيع حمل المهد، إنّما فليكن له فراشه على الأقلّ، هذا الصغير المسكين الذي يَسعون إلى قتله.»

تَصرخ مريم: «يوسف!» بينما تتعلّق بذراعه.

«نعم يا مريم، إلى قتله! هيرودس يريد قتله… لأنّه خائف منه… مِن أجل سلطانه الـمَلَكيّ يخاف هذا الوحشُ الدّنِس مِن هذا البريء. لستُ أدري ماذا سيفعل عندما يَعلَم أنّه هَرَب. ولكن حينئذ سوف نكون بعيدين. لستُ أظنُّ أن انتقامه أثناء البحث سوف يمتدّ إلى الجليل. إنّه مِن الصعب جداً اكتشاف كوننا جليليّين، وأصعب مِن ذلك أنّنا مِن الناصرة، ومَن نحن بالتحديد. إلّا إذا ساعَدَه الشيطان ليشكره على كونه خادمه الأمين. إنّما… إذا ما حصل هذا… فسيساعدنا الله مِن جهته. لا تبكي يا مريم. أن أراكِ تبكين يُعذّبني أكثر مِن وجوب الرحيل إلى المنفى بكثير.»

«سـامحني يا يوسف! لستُ أبكي مِن أجلي ولا مِن أجل الممتلكات القليلة التي أفقدها. بل مِن أجلكَ… لقد اضطررتَ حتّى الآن أن تضحّي كثيراً! والآن ستجد نفسكَ دون عمل، دون بيت! كم أُسبّب لكَ مِن المتاعب يا يوسف!»

«كَم؟ لا يا مريم. أنتِ لا تُسبّبين لي شيئاً أبداً. بل إنّكِ تعزّينني دائماً. لا تفكّري بالغد. إنّنا نملك كنوز المجوس. سوف يساعدوننا في البداية. ثمّ سأجد عملاً. فالعامل الشريف والقدير يُدبّر شؤونه حالاً. رأيتِ هنا. لم أكن أجد الوقت الكافي لإنجاز الأعمال كلّها.»

«أَعرف، ولكن مَن يشفيكَ مِن حنينكَ إلى الوطن؟»

«وأنتِ مَن يشفيكِ مِن حنينكِ إلى منزلكِ الغالي جدّاً على قلبكِ؟»

«إنه يسوع. فبامتلاكه يكون لي ما كنتُ أملكه هناك.»

«وأنا كذلك، بامتلاكي يسوع، فإنّي أمتلك بلدتي التي كنتُ أتمنّى العودة إليها منذ أشهر. إنّني أمتلك إلهي. أترين، إنّني لم أفقد شيئاً ممّا هو غال على قلبي فوق كلّ شيء. وحتّى ولو اضطررنا إلى عدم رؤية هذه السماء وهذه الحقول، وتلك الأغلى، حقول الجليل، فسيكون لنا كلّ شيء، لأنّنا نمتلكه، هو. تعالي يا مريم، فالفجر بدأ يَبزغ، وقد حان الوقت للسلام على الـمُضيفة وتحميل أمتعتنا. سيسير كلّ شيء بشكل جيّد.»

تَنهَض مريم مُطيعة، وتتدثّر بمعطفها، بينما يُجهّز يوسف الصرّة الأخيرة ويَحملها وهو يَخرُج.

ترفع مريم الطفل بلطف. وتَلفّه بوشاح وتضمّه إلى قلبها. تَنظُر إلى الجدران التي آوتهم شهوراً وتتلمّسها بيدها. مغبوط المنزل الذي استحقَّ أن تحبّه مريم وتُباركه!

تَخرُج، تَعبُر الغرفة الصغيرة التي كانت ليوسف، وتَدخُل إلى الغرفة الأخرى. تُقَبِّلها صاحبة المنزل وتُسَلِّم عليها وقد انهَمَرَت دموعها. وتَرفَع طرف الوشاح وتُقَبِّل الطفل النائم بهدوء مِن جبهته. ويَهبطون السلّم الخارجي الصغير.

كانت الخيوط الأولى لنور الفجر تسمح فقط بتمييز الأشياء. وفي شِبه العتمة هذه تُرى المطايا الثلاث. على الأقوى منها تُحَمَّل الأمتعة، وعلى الأُخرَيَين سرجان. يهتم يوسف بترتيب الصندوق والصرر بشكل جيّد على بردعة الحمار الأول. أرى عدّة النجارة موضوعة ومربوطة على أعلى الكيس. ومِن جديد وداع ودموع، ثمّ تمتطي مريم الحمار بينما صاحبة المنزل تحمل يسوع قرب عنقها وتُقَبِّله للمرة الأخيرة قبل إعادته إلى أُمّه. ويمتطي يوسف كذلك صهوة حماره بعد أن يربطه بالذي يَحمِل الأمتعة ليتفرّغ للإمساك بلجام حمار مريم.

يبدأ الهروب بينما كانت بيت لحم ما تزال تحلم بمشهد المجوس الخارق، وتنام بسكينة غافلة عما ينتظرها.

هذه كانت نهاية الرؤيا.


يقول يسوع:

«وهكذا أيضاً هذه المجموعة مِن الرؤى. بكلّ سكينة مع الأحبار المتشدّدين، فقد سَبَقَ وأريناكِ مَشاهِد مما سَبَقَت وعاصَرَت وتَلَت مجيئي إلى هذا العالم، ذلك ليس لأجلها هي؛ فهي معروفة بما فيه الكفاية، إنّما بشكل خاصّ لأنّ معالِمها قد تبدَّلَت بما طَرَأَ عليها مِن إضافات عبر القرون، ودائماً بسبب هذا الأسلوب البشريّ في رؤية الأمور التي، لكي يتمّ تمجيد الله بشكل أفضل، تَجعَل غير حقيقيّ ما كان أجمل لو تُرِك على حقيقته -لأجل هذا كان ذاك مغفوراً- ذلك أنّ إنسانيّتي وإنسانيّة مريم لا تكون منقوصة، وكذلك ألوهتي وعَظَمَة الآب وحبّ الثالوث الأقدس، بهذه الطريقة في رؤية الأمور على حقيقتها، إنّما على العكس، فاستحقاقات والدتي وتَواضُعي الكامل تتألّق، وكذلك صلاح الربّ الأزليّ الكلّيّ القُدرة. وإنّما أريناكِ هذه المشاهد لإمكانيّة تطبيق المعنى الفائق الطبيعة الذي يَنبَعِث منها عليكِ وعلى الآخرين، ومَنحكِ هذا كقاعدة حياة.

الوصايا العشر هي الشريعة، وإنجيلي هو العقيدة التي تجعل تلك الشريعة أكثر وضوحاً وأكثر تحبُّباً لاتِّباعها. فهذه الشريعة وهذه العقيدة كافيتان لتجعلا مِن الناس قدّيسين.

إنّكم متورّطون جدّاً بإنسانيّتكم التي تُسيِطر عليكم بشكل مُبالَغ فيه، والتي تسيطر أيضاً على روحكم بحيث لا تستطيعون اتّباع طُرُقه التي يُعيّنها لكم، وتَقَعون، أو بالأحرى تتوقّفون مُثبَطة عزائمكم. تقولون لأنفسكم وللذين يريدونكم أن ترتقوا برواية أمثال الإنجيل: “ولكنّ يسوع، ولكن مريم، إنّما يوسف (وهكذا لكلّ القدّيسين) لم يكونوا مثلنا، لقد كانوا أقوياء. لقد تعزّوا مباشرة في آلامهم، وحتّى في هذا القليل مِن الألم الذي تَحمَّلونَه لم يكونوا يُحِسّون بالأهواء، لقد كانوا آنئذ كائنات غريبة عن الأرض”.

هذا القليل مِن الألم! في مأمن مِن الأهواء!

الألم، بالنسبة لنا، كان الصديق الوفيّ، ولقد اتَّخَذَ كلّ الأسماء وجميع الأشكال على اختلاف أنواعها. “الأهواء”، لا تَستَخدِموا كلمات غير مُلائِمة في تسمية الرذائل التي تُضلّلكم “بأهواء”. بل سَمّوها، وبصراحة، “رذائل”، وعلاوة على ذلك، رئيسيّة.

وهذه أيضاً، لا يمكن اعتبار أنّنا كنّا نجهلها. فلقد كانت لنا عيون وآذان لنرى ونَسمَع، وكان الشيطان يجعل هذه الرذائل تَلمَع أمامنا وحولنا بإظهارها بالفعل بكلّ قذارتها، كما كان أيضاً يجرّبنا بتلميحاته. ولكن بما أنّ الإرادة كانت تَنزَع في النيّة إلى أن نكون مَرضيّين لدى الله، فهذه القذارة وهذه التلميحات، بدلاً مِن أن تُحَقِّق هدفها الذي وَضَعَه الشيطان نصب عينيه، فقد أدّت إلى التأثير العكسيّ. وكلّما كان يَجدّ في مطاردتنا، كنّا نلتجئ إلى نور الله بالنفور مِن الظلمات الموحلة التي كان يُقدّمها لعيون جسدنا وروحنا.

أمّا الأهواء، بالمعنى الفلسفيّ لها، فلم نكن نجهلها فينا. لقد كُنّا نحبّ بل نهوى وطننا، بلدتنا الصغيرة الناصرة، أكثر مِن كلّ مدن فلسطين. لقد اجتاحَتنا مشاعر الحنين إلى منزلنا وأهلنا وأصدقائنا. فلماذا لم يكن ينبغي لنا أن نَختَبرها؟ إلاّ أنّنا لم نجعل مِن أنفسنا عبيداً لها، ذلك أنّ لا شيء يمكنه أن يكون معلّماً لنا غير الله. ولكنّنا جَعَلْنا منها رفاقاً صالحين.

أُمّي صَرَخَت عندما عادت إلى الناصرة، بعد حوالي أربع سنوات، صرخة فرح وهي تَدخُل إلى بيتها، وأَخَذَت تُقَبِّل الجدران حيث “النَّعَم” التي قالتها كانت قد فَتَحَت أحشاءها لتستَقبِل بذرة الله فيها. ويوسف صافَحَ بفرح أهله وأولاد إخوته المتزايدين عدداً وحجماً؛ ولقد استمتَعَ بملاحظته مواطنيه وقد تذكّروه وقَصَدوه مباشرة لكفاءته. وأنا كنتُ حسّاساً للصداقات، فتألّمتُ مِن خيانة يهوذا وكأنّها صَلبٌ وجدانيّ. وأكثر مِن ذلك، فلا أُمّي ولا يوسف جَعَلا حبّ البيت يتقدّم على إرادة الله.

وأنا لم أُمسِك الكلمات، عندما كان يتوجّب عليَّ قولها، الكلمات القابلة لأن تَجلب لي حقد اليهود أو عداوة يهوذا. لقد كنتُ أعلَم أنّ الفضّة كانت كافية لربطه فيَّ؛ ليس فيَّ كَفَادي، إنّما كغنيّ. وأنا الذي كَثَّرَ الخبزات، قد كان بإمكاني جعل الفضّة تفيض لو أردتُ -وقد كنتُ فعلاً قادراً على ذلك- إلّا أنّني لم أكن قد جئتُ لأحقّق إشباعات بشريّة لأحد، وخاصّة للذين كنتُ قد دَعَوتُهم. كنتُ أُبَشِّر بالتضحية، بالتجرّد، بحياة العفّة وبالتواضع الأصيل. فأيّ معلّم كنتُ سأكونه، وأي عادل بارّ، لو كنتُ أعطيتُ أحداً فضّة لأتملّق طَمَعه وأحاسيسه باعتبارها الطريقة الوحيدة للتمسّك به؟

في مملكتي يُصبِح المرء “عظيماً” حينما يَجعَل نفسه “صغيراً”، والذي يريد أن يُصبِح “عظيماً” في عيون العالم، فهو غير قادر على التملّك في مملكتي؛ إنّه قشّ لفراش الشياطين. ذلك أنّ العَظَمَة الدنيويّة تُناقِض شريعة الله.

يدعو العالم “عُظماء” أولئك الذين يعرفون أن يَستَحوِذوا لأنفسهم على مراكز جيّدة بوسائل هي غالباً غير مشروعة. ولكي يَصِلوا إلى هذه المراكز يَستَخدِمون القريب سلّماً يدوسونه بأرجلهم ليرتقوا هم. يُسمّي العالم “عُظماء” أولئك الذين يَعرفون أن يَقتُلوا لكي يَملكوا، أن يَقتُلوا معنويّاً أو جسديّاً: الذين يَغتَصِبون الـمَراكِز أو يجتاحون البلاد ويَغتَنون هم أنفسهم بتجريد الآخرين مِن ثرواتهم الخاصّة أو الجماعيّة. وغالباً ما يَمنَح العالم لقب “عُظماء” لمجرمين. لا. “فالعَظَمَة” لا تنسجم مع الإجرام. إنّها تُقيم في الصَّلاح والبرّ، في الشرف وفي الحبّ والاستقامة. انظروا إلى عُظمائكم، أيّة فاكهة مسمومة يُقدِّمون لكم، إنّهم يقطفونها بالفساد الشيطانيّ مِن حديقتهم الداخليّة!

الرؤيا الأخيرة -بما أنّني أريد التحدّث عنها دون التوقّف عن الكلام في أمور أخرى لن يُجدي نفعاً عرضها على عالم لا يريد سماع الحقيقة التي تخصّه- هذه الرؤيا الأخيرة تُوَضِّح نقطة خاصّة وَرَدَت مرّتين في إنجيل متّى، جملة تكرَّرَت مرّتين: “قُم، خُذ الصبيّ وأُمّه وارحل إلى مصر” (2 / 13) “قُم، خُذ الصبيّ وأُمّه وارجع إلى أرض إسرائيل” (2 / 20) ورأيتِ أن مريم كانت وحدها في غرفتها مع الطفل.

لقد هاجَمَها كثيراً أولئك الذين، لكونهم وحلاً ونتانة، لا يتقبّلون أن يستطيع مخلوق بشريّ مثلهم أن يكون كَنَفاً ونوراً، بتوليّة مريم بعد الولادة وعفّة يوسف. لقد انحَطّوا بنفسهم الـمُفسَدَة للغاية، بنفسهم المذلولة للجسد لدرجة أنّهم أصبَحوا عاجزين عن التفكير بأنّ إنساناً يستطيع احترام امرأة بأن يرى فيها الروح لا الجسد، وأن يرتقي لدرجة الحياة في جوّ فائق الطبيعة، راغباً ليس في ما هو جسديّ، بل في ما هو إلهيّ.

إذاً، لهؤلاء المتنكِّرين للجمال الفائق، لهذه الديدان العاجزة عن أن تُصبِح فراشات، لهذه الزواحف المتمرِّغة في لعاب الشهوات، العاجزة عن إدراك جمال الزنبقة، أنا أقول إنّ مريم كانت واستمرَّت عذراء، وإنّ النَّفْس وحدها هي التي اقتَرَنَت بيوسف، كما أنّ روحها فقط هي التي اتَّحَدَت بروح الله، وبِفِعله حَبَلَت بالوحيد الذي حَمَلَت به: أنا، يسوع المسيح، الابن الوحيد لله ولمريم.

هذا ليس تقليداً أزهَرَاً فيما بعد بسبب احترام الطوباويّة التي هي أُمّي إلى حدّ العشق. إنّها حقيقة وقد عُرِفَت منذ الأزمنة الأولى.

لم يُولَد متّى في القرون التالية. بل لقد كان مُعاصِراً لمريم. ومتّى لم يكن جاهلاً مسكيناً، أو مُستَوحِشاً ساذَجاً وقابلاً لتصديق أيّة قصّة. لقد كان مُحَصِّلاً للضرائب (جابياً) كما تُسمّونه الآن، عشّاراً كما كنّا نُسمّيه آنذاك. وكان يَعرِف أن يَنظُر ويَسمَع ويُدرِك ويميّز الحقيقة مِن الباطل. فمتّى لم يَعلَم بالأمور عن طريق قيل عن قال، وإنّما عن طريق أشخاص شَمَلَتهم الأحداث. لقد استقى معلوماته مِن فم مريم حيث حُبّه للمعلّم وللحقيقة دَفَعَه ليطلب المعلومات منها شخصيّاً.

لا أظنّ هؤلاء الناكرين لحصانة مريم يُفكِّرون بأنّها استطاعت الكذب. فأهلي أنفسهم كانوا يستطيعون تكذيبها لو كان لها أبناء آخرون. فيعقوب ويهوذا وسمعان ويوسف كانوا هم أيضاً مُعاصِرين لمتّى. لقد كان مِن السهل على هذا الأخير أن يُقابِل الروايات، لو كانت وُجِدَت عدة روايات. ذلك أنّ متّى لم يقل أبداً: “قُم خُذ امرأتكَ”. بل قال: “خُذ الصبيّ وأُمّه”. وكان قَبلَها قد قال: “عذراء مخطوبة ليوسف” و “يوسف عروسها”.

فلا يأتينّني هؤلاء الناكرون ليقولوا لي إنّها كانت طريقة كلام اليهود كما لو أنّ عِبارة “امرأة” كانت تخلّ بالشرف. لا، أيّها الـمُتنكِّرون للطهارة. مِن العبارات الأولى للكتاب المقدس نقرأ مرّات كثيرة، وفي فصول مختلفة: “…وعَرَفَ امرأته”. ذلك أنّ قبل إتمام الزواج بالدخول تُسمّى “مخطوبة” (Compagne) وفيما بعد “زوجة (امرأة)” (Femme). وقد كان هكذا بالنسبة لزوجات أبناء آدم. كذلك لسارة المسمّاة “زوجة ابراهيم”، “سارة زوجتكَ” و “خُذ زوجتكَ وابنتيكَ” قيل ذلك للوط. وفي سفر راعوت كُتِب: “المؤابيّة زوجة محلون”، وفي سفر الملوك الأول: “كان لألقانة امرأتان”. وأيضاً “وعَرف ألقانة حنّة زوجته”. وأيضاً: “فيبارك العالي ألقانة وزوجته”. وكذلك في سفر الملوك قيل: “بتشابع زوجة أوريّا الحتّي أصبَحَت زوجة داود وأنجَبَت له وَلَداً”. وماذا نقرأ في سفر طوبيا، سفر اللازورد الذي ترتّله الكنيسة في أعراسكم لتنصحكم بأن تتقدّسوا في الزواج؟ نقرأ: “إذ حين وَصَلَ طوبيّا برفقة زوجته وابنه”. وأيضاً: “نجح طوبيا في الهرب مع زوجته وابنه”.

وفي الأناجيل، أي في زمن المسيح حيث بالنتيجة كان يُكتَب باللغة المعاصِرة، المعاصِرة لذاك الوقت، وحيث بالنتيجة لم يكن هناك مجال لاحتمال إمكانيّة الخطأ في الكتابة، فلقد قيل بالتحديد في الفصل الثاني والعشرين مِن إنجيل متّى: “…وتزوَّج الأول ومات ولم يكن له نسل فتركَ امرأته لأخيه”. وفي مرقس، الفصل العاشر: “مَن طَلَّق امرأته”. ولوقا يدعو أليصابات “امرأة زكريّا” أربع مرّات متتالية، وفي الفصل الثامن: “حنّة امرأة قوزى”.

كما تَرَون، فهذه التسمية لم تكن لفظاً محظوراً على الذين يتّبعون طرق الربّ، أو لفظاً نَجِساً يجب عدم نطقه، وأكثر من ذلك عدم كتابته حيث يكون الموضوع يخصّ الله وأعماله البديعة. والملاك بقوله: “الطفل وأُمّه”، يُبيّن لكم أنّ مريم كانت الأُمّ الحقيقيّة ليسوع دون أن تكون امرأة يوسف. وستبقى أبداً عروسة يوسف العذراء.

هذه هي العِبرة الأخيرة مِن هذه الرؤى. إنها هالة نور تتألّق على رأس مريم ويوسف، العذراء التي لم تُمسّ والرجل العفيف البارّ، الزنبَقَتين اللتين تَرَعرَعتُ بينهما وأنا لا أَسمَع غير الكلام العَطِر والطاهر.

لكِ، يا يوحنّاي الصغير، أستطيع أن أتكلّم عن الألم الذي مَزَّق مريم الـمُنتَزَعة مِن بيتها ووطنها، ولكنّ ذلك لا يحتاج إلى كلام، تعرفين ماذا يعني ذلك. أعطيني ألمكِ، فأنا لا أريد سوى ذلك. إنّه أعظم مِن أيّ شيء تُعطينيه. اليوم يوم الجمعة، ماريا: فكّري بآلامي وآلام مريم في الجلجلة لتستطيعي حمل صليبكِ. السلام وحبّنا يَبقَيان معكِ.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.