21- من أورشليم إلى بيت زكريا | قصيدة الإنسان – الإله
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي
الجزء الأول
{الحياة الخفية}
21- من أورشليم إلى بيت زكريا
28 / 03 / 1944
نحن في أورشليم. وقد تعرَّفتُ عليها بشوارعها وأبوابها.
يتوجّه العروسان أوّلاً إلى الهيكل، وقد تعرَّفتُ على الإسطبل الذي تَرَكَ يوسف فيه الحمار يوم التعارف في الهيكل. والآن أيضاً، هو يترك المطيّتين بعد العناية بهما، ويمضي بصحبة مريم لتقديم فروض عبادتهما لله.
ثمّ يَخرُجان، وتذهب مريم مع يوسف إلى منزل أصحاب لهما كما يبدو، حيث يستعيدا نشاطهما، وترتاح مريم ريثما يعود يوسف مع عجوز قصير القامة: «هذا الرجل يسافر على طريقكِ ذاتها. وستبقى مسافة قصيرة جدّاً تقطعينها بمفردكِ لتَصِلي إلى نسيبتكِ. ثقي به، فأنا أعرفه.»
يَأخُذان مطيّتيهما ويُرافِق يوسف مريم حتّى باب المدينة (هو باب آخَر غير ذاك الذي دَخَلا منه). يتصافحان وتمضي مريم وحدها مع العجوز الذي يتكلّم بقدر ما كان يوسف صموتاً، ويُبدي اهتماماً بألف شيء. ومريم تُجيب بصبر.
لقد أصبَحَ الصندوق الذي كان محمولاً على مطيّة يوسف محمولاً الآن على مقدّمة سرج مطيّة مريم، كذلك المعطف لم يَعُد معها، وحتّى شالها، فقد طَوَته ووَضَعَته فوق الصندوق. إنّها جميلة جدّاً بثوبها الأزرق السماويّ الداكن ووشاحها الأبيض الذي يحميها مِن الشمس. كم هي جميلة!
كان سَمَع العجوز ثقيلاً، على ما يبدو، لأنّ مريم كانت تضطر لرفع صوتها كثيراً كي يَسمَعها، وهي التي كانت لا تتكلّم إلا بصوت خافت. أمّا الآن فقد انتهى، لقد أفرَغَ جعبته مِن الأسئلة والأخبار، وها هو يغفو على السرج تاركاً القيادة لمطيّته التي تعرف الطريق جيّداً.
تَغتَنِم مريم فرصة الهدنة هذه لتستجمع أفكارها وتصلّي. إنّها حتماً صلاة تُرنّمها بصوت خافت وهي تنظر إلى السماء اللازورديّة واضعة ذراعها على صدرها. وبانفعال الروح يرتسم على وجهها نور وغبطة.
لم أعد أرى شيئاً.
الآن وقد توقَّفَت الرؤيا فقد مكثتُ كالأمس والأُمّ إلى جانبي، أراها في داخلي على درجة مِن الصفاء والوضوح، حتّى إنّني أستطيع أن أَصِفها: خدّاها بلون ورديّ فاتح، ممتلئان قليلاً ولكن بعذوبة ممتعة، فمها الصغير أحمر زاه، وعيناها الزرقاوان تتألّقان تحت حاجبيها الشقراوين الداكنين.
يمكنني الكلام عن شعرها الذي فُرِقَ عند قمة الرأس، وهو يتدلى بشكل ممتع بجدلات ثلاث مِن كلّ جهة، حتّى تغطي نصف كلّ مِن الأذنين الصغيرتين، ثمّ تختفي بلونها الأشقر الذهبي البرّاق خلف الوشاح الذي يغطّي رأسها. (أراها بالفعل بثوب مِن الحرير الفردوسيّ، ومعطفها على رأسها، معطف خفيف كوشاح وهو مع ذلك غير شفاف ومِن قماش الثوب نفسه.)
يمكنني القول إنّ ثوبها محصور عند رقبتها بمشدّ ينزلق منه حبل عُقِدَ طرفاه عند أسفل العنق، كما شُدَّ الثوب عند الخصر بحبل أغلظ مِن الأول، ولكنّه مِن الحرير الأبيض كذلك، ويتدلّى على الجانبين بشرّابتين.
كما يمكنني المضيّ في القول إنّ ثوبها المحصور عند العنق والخصر ينثني عند الصدر سبع ثنيات مدوّرة قليلاً، تُشكّل الزينة الوحيدة لثوبها العفيف.
وكذلك بإمكاني التحدّث عن انطباع العفّة المنبعث مِن مَظهَر مريم، مِن تقاسيمها الرقيقة والمتناغمة التي تجعل منها امرأة ملائكيّة.
وكلّما نظرتُ إليها أتألّم لتصوّري إلى أيّة درجة جَعَلوها تتألّم، وأتساءل كيف كان مِن الممكن عدم الإشفاق عليها، عذبة هي ولطيفة ورقيقة حتّى في مظهرها الجسمانيّ. أَنظُر إليها وأَسمَع صيحات الجلجلة ومـا وُجِّه إليها مِن سخرية وتهريج، وكذلك كلّ اللعنات التي تلقّتها لكونها أُمّ المحكوم عليه.
أراها جميلة وهادئة الآن، إلاّ أنّ مظهرها الحالي لا يمكنه أن يمحو ذكرى وجهها المأساويّ ساعة النزاع، والأسى الذي كان يُعبِّر عنه في بيت أورشليم بعد موت يسوع. كنتُ أرغب لو أُلاطِفها وأُقبّل وجنتيها الورديتّين برقّة شديدة، لأنتزع بقبلتي ذكرى دموعها المقيمة فيها مثل إقامتها فيَّ…
لا يمكنني تصديق مدى السلام الذي يَمنَحه وجودها إلى جانبي. تُخامِرني فِكرة أن موتي وأنا أراها سوف يكون بعذوبة، بل أكثر مِن أكثر ساعات الحياة عذوبة. في الآونة الأخيرة، عندما لم أعد أراها هكذا بشكل كامل، تألّمتُ لغيابها كما لغياب أُمّ لي. يُعاوِدني الآن الإحساس بالفرح فائق الوصف الذي لم يفارقني طيلة كانون الأول (ديسمبر) وأوائل أيّام كانون الثاني (يناير). فأنا سعيدة رغم وشاح الألم الذي عَتَّمَ صفو هنائي برؤية تَمزُّقات الآلام.
إنّه مِن الصعب القول وإفهام ما اختبرتُه وما حَدَثَ منذ الحادي عشر مِن شباط (فبراير)، عشيّة رؤيتي يسوع يعاني مِن آلامه. لقد كان مَنظَراً غيَّرَني جذريّاً. فلو مُتُّ الآن أو بعد مائة عام، فستبقى تلك الرؤيا بجدّتها وتأثيرها مطبوعة في مخيّلتي. قبل ذلك كنتُ أفكّر في آلام يسوع، أمّا الآن فقد رأيتُها، لذا تكفيني كلمة أو نظرة إلى صورة لكي أتألّم مِن جديد ذلك الألم الذي أحسستُ به ذاك المساء لاختباري فظاعة تعذيبه، واختباري ضيق ألمها وهي مفجوعة، حتّى ولو لم يذكّرني به شيء، فذكراه تَعصر قلبي.
تبدأ مريم بالكلام وأَصمُت أنا.
تقول مريم:
«لن أطيل كلامي لأنّكِ تَعِبة جدّاً، يا ابنتي المسكينة. إنّني فقط ألفت انتباهكِ وانتباه القرّاء إلى عادة يوسف الثابتة وكذلك عادتي إعطاء الأولويّة دائماً للصلاة. فالجفاء والعَجَلَة والهمّ والانشغالات كلّها لا تعيق الصلاة أبداً، بل على العكس، إنّها عوامل مُساعِدة. الصلاة دائماً مَلِكَة اهتماماتنا وسلوانا ونورنا وأملنا. وإذا كانت السلوى في ساعات الحزن، ففي ساعات السعادة تُصبِح ترتيلة. إنّها الصديقة الصَّدوقة الوفيّة لروحنا. إنّها تُحرّرنا مِن الأرض، مِن المنفى وتسمو بنا إلى أعالي السماء، إلى الوطن.
لم أكن الوحيدة التي أحمل الله فيَّ، ولم يكن يشغلني سوى التطلّع إلى أحشائي لأعبد قدس الأقداس، إنّما يوسف أيضاً كان يشعر باتّحاده بالله في الصلاة، لأنّ صلاتنا كانت عبادة حقيقيّة لكلّ كياننا الذي كان يذوب في الله في عبادته وتلقّي عناقه بعد ذلك.
انظروا إليَّ، أنا التي كنتُ أحمل الأزليّ، لم أكن أتصوّر نفسي مُعفاة مِن التردّد بإجلال إلى الهيكل. فالقداسة الأكثر سموّاً لا تعفي مِن الشعور بالعَدَميّة أمام الله، وبتواضُع هذا العَدَم، لأنّه هو يسمح لنا به بأوشعنا متواصلة لمجده.
هل أنتم ضعفاء، مساكين، ومُفعَمون أخطاء؟ تضرّعوا إلى قداسة الربّ: “قدّوس، قدّوس، قدّوس!” ادعوا هذا القدّوس المبارَك إلى نجدة بؤسكم. سوف يأتي ويملأكم بقداسته. هل أنتم قدّيسون وأغنياء بالاستحقاقات في عينيه، فهذه القداسة اللامتناهية ستجعل قداستكم تنمو أكثر وباستمرار. الملائكة، مع كونهم كائنات تفوق ضعف البشريّة، لا يتوقّفون لحظة عن ترتيل “قدّوس”، وجمالهم فائق الطبيعة ينمو ويزداد في كلّ تضرُّع إلى قداسة إلهنا. فاقتدوا بالملائكة.
لا تتخلّوا أبداً عن حماية الصلاة التي تتكسّر عليها أسلحة الشيطان ومكر العالم وشهوات الجسد وكبرياء الروح. لا تُلقوا أبداً هذه الأسلحة التي تفتح السماء وتُمطِر النِّعم والبركات.
الأرض في حاجة إلى حمّام مِن الصلوات لتتطهّر مِن الأخطاء التي تجلب قصاصات الله. وبما أنّ نفوس الصلاة قليلة جدّاً، فيجب عليها أن تصلّي كثيراً كي تُعوِّض عن تقصير الآخرين. يجب عليهم مُضاعفة صلواتهم الحارّة ليَصِلوا إلى القَدْر اللازم للحصول على النعمة. تصبح الصلاة حيّة حارّة عندما تبلغ نبعها في الحبّ والتضحية.
أن تتألّمي يا ابنتي وتتّحد آلامكِ بآلامي وآلام يسوعي، هذا رائع ومرْضيّ لدى الله وله استحقاقاته، فإنّ محبّتكِ مشاطرتنا عزيزة على قلبي جدّاً. ولكن هل لكِ أن تعطيني قبلة؟ قبّلي إذن جراح ابني، اسكبي عليه عطر محبّتكِ. إنّ الإحساس بألم السياط والأشواك وعذاب المسامير والصليب، يُعاودني في نفسي. ولكنّني كذلك أعود لأحسُّ بكلّ التودّدات الممنوحة ليسوعي. إنّها أكثر مِن القبلات الممنوحة لي. ثمّ تعالي. أنا مَلِكَة السماء ولكنّني سأظلّ أُمّكِ…
وإنّني لسعيدة!»