46- وداع يسوع لأمه ومغادرته الناصرة | قصيدة الإنسان – الإله

1٬223
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الثاني
{السنة الأولى في الحياة العلنية}

46- وداع يسوع لأمه ومغادرته الناصرة

09 / 02 / 1944

بَدَأَت الرؤيا أثناء التناول المقدّس.

أرى بيت الناصرة مِن الداخل. غرفة، تبدو وكأنّها غرفة المعيشة حيث تتناول العائلة طعامها وتسترخي في ساعات الاستراحة. إنّها غرفة صغيرة جدّاً، تحوي بكلّ بساطة طاولة مستطيلة وصندوقاً مُلاصِقاً لأحد الجدران، وهو يُستَخدَم ككرسيّ في أحد أطراف الطاولة. وعلى بقيّة الجدران يوجد نول نسيج وكرسيّ، ثم كرسيّان آخران ورفّ عليه قناديل زيت وأغراض أخرى، وباب مفتوح على الحديقة الصغيرة. حتماً هو المساء، إذ لم يبقَ سوى بقيّة شُعاع شمس على رأس شجرة باسِقة، وهي بالكاد بدأت بالاخضرار مع أولى وريقاتها.

يَجلس يسوع إلى الطاولة يأكل، ومريم تخدمه، فتذهب وتعود مِن باب صغير أظنّه يؤدّي إلى حيث الـمُوقِد الذي نرى وميضه مِن خلال الباب الـمُوارَب.

يَطلب يسوع مِن مريم مرّتين أو ثلاث مرّات أن تجلس وتأكل، ولكنّها تأبى وتهزّ رأسها وهي تبتسم ابتسامة حزن. ثمّ تجلب الخضار المسلوقة التي تبدو أنّها تحلّ محلّ الحساء، وسمكاً مقليّاً، ثمّ جبناً طريّاً بشكل كتلة تذكّرني بحجارة السيل المتدحرجة، ثمّ بعض الزيتون الأسود الصغير. على الطاولة خبز مدوّر واسع مثل طَبَق عاديّ سميك قليلاً. إنّه بالأحرى أسود لأنّه يحتوي على النخالة. أمام يسوع جَرّة ماء وكأس. وهو يأكل بصمت، بينما يَنظر إلى أُمّه بحبّ متألّمِ.

مريم تعاني بشكل جليّ. إنّها تذهب وتجيء لتتمالَك نفسها. وعلى الرغم مِن أنّ نور النهار ما يزال كافياً فقد أَشعَلَت قنديلاً ووَضَعَته أمام يسوع، وهي تمدّ يدها لتُداعِب رأسه خِلسة. ثمّ تَفتَح خِرجاً مِن الصوف الخام منسوجاً يدويّاً وهو غير نَفوذ، بنيّ اللون، تبحث في داخله، وتَخرُج إلى الحديقة الصغيرة ماضية إلى آخرها، تَدخُل بيت المؤونة لِتَخرُج بعدها ومعها تفّاحات مجعّدة، مِن المؤكّد أنّها تحتفظ بها مِن الصيف، وتضعها في الخِرج، ثمّ تأخذ رغيفاً وقطعة جبن وتضيفها رغم أنّ يسوع لا يريد ويقول إنّ بقيّة الأغراض تكفي.

تقترب مريم مجدّداً مِن الطاولة، مِن الجانب الأكثر ضيقاً على يسار يسوع وتنظر إليه يأكل. تنظر إليه بأسى، بهيام، بوجه أكثر شحوباً مِن المعتاد، يبدو وكأنّ المعاناة جَعَلَته يشيخ، بعينين أكثر اتّساعاً بسبب هالة مُزرَورَقة حولهما، وهي دليل على الدموع الـمَذروفة. إنّهما تبدوان أكثر بريقاً مِن المعتاد وقد غَسَلَتهُما الدموع التي تملأهُما، وهي على وشك أن تنهَمِر. عينين متألِّمَتَين وتَعِبَتَين.

واضح أنّ يسوع يأكل بدون شهيّة، إنّما فقط ليُرضي والدته. إنّه يفكّر أكثر مِن المعتاد، يرفع رأسه وينظر إلى مريم، يُقابِل نظرة مليئة بالدموع فيخفض رأسه احتراماً لمشاعرها. يكتفي بأخذ يدها الناعمة التي تسندها على حافّة الطاولة. يمسك بها بيده اليسرى ويَحملها إلى خدّه الذي أسندها إليه ومرّره عليها ليشعر بملاطفة تلك اليد المسكينة التي ترتجف، ثمّ يُقَبِّلها مِن ظهرها بكثير مِن الحبّ والاحترام.

أرى مريم تأخذ يدها الحرّة، اليسرى، إلى فمها، كما لتخنق بكاءها. ثمّ تمسح بأصابعها دمعة تجاوزت الرموش وسالت على خدّها. يُعاوِد يسوع الأكل وتَخرج مريم بسرعة إلى الحديقة الصغيرة التي ما زال فيها بقيّة مِن نور، وتختفي.

يَسند يسوع مِرفقه الأيسر على الطاولة، ويَسند جبهته على يده ويَغرَق في أفكاره ناسياً الأكل، يصيخ السمع ويَنهَض.

يَخرُج هو كذلك إلى الحديقة، وبعد أن ينظر حوله يتوجّه إلى يمين المنزل ويَدخُل إلى مغارة، تَعَرَّفتُ مِن داخلها أنّها مشغل النِّجارة، إنّما هذه المرّة بشكل مرتّب دون ألواح، دون زوائد خشبيّة ودون نار مُضطَرِمة. توجد طاولة النِّجارة والعِدَد، كلّ غرض في مكانه. وهذا كلّ شيء.

مريم منحنية على الطاولة تبكي وكأنّها طفلة. تسند رأسها على ذراعها الأيسر المنثني. تبكي دون صوت ولكن بألم. يَدخُل يسوع بهدوء ويقترب بخفّة، حتّى إنّها لم تتنبّه إلاّ حينما يضع ابنها يده على رأسها وهو يناديها «ماما!» بنغمة فيها عَتَب مُحِبّ.

تَرفع مريم رأسها وتَنظُر إلى يسوع مِن خلال وشاح مِن الدموع. تَستَنِد إليه ضامّة يديها على ذراعه الأيمن. يمسح يسوع وجهها بطرف كُمّه العريض، ويشدّها بذراعيه إلى قلبه طابعاً قبلة على جبهتها. يسوع وَقور، يبدو أكثر رجولة مِن المعتاد، ومريم تبدو أكثر شباباً ما عدا وجهها الـمُتَّسِم بالألم.

يقول لها يسوع: «تعالي يا ماما» وهو يشدّها بذراعه الأيمن إليه بقوّة، يسير عائداً إلى الحديقة حيث يَجلس على مقعد مُلاصِق لجدار المنزل.

الحديقة صامتة الآن وقد أقبَلَ الليل. هناك فقط نور قمر جميل، ووميض مُنبَعِث مِن غرفة الطعام. الليل ساكن. يسوع يتكلّم مع مريم. لم أُدرِك في البدء الكلمات التي كانت بالكاد مهموسة والتي تُوافِق مريم عليها بانحناءة مِن رأسها.

ثمّ أَسمَع: «دعي الأهل يأتون. لا تبقي وحيدة. سأكون أكثر اطمئناناً أثناء تأدية رسالتي. ولن يسيء حبّي إليكِ. سوف آتي غالباً، وسأخبركِ حين أكون في الجليل ولا أستطيع العودة إلى البيت، فتأتين حينذاك لرؤيتي. ماما، كان يجب أن تحين هذه الساعة… لقد بَدَأَت هنا عندما ظَهَر لكِ الملاك؛ والآن هي تدقّ ويجب أن نحياها، أليس كذلك يا أُمّاه؟ وبعدها سيأتي سلام الاختبار الذي سنجتازه والفرح. إنّما ينبغي أوّلاً أن نَعبُر هذه الصحراء مثل أجدادنا للدخول إلى أرض الميعاد. ولكنّ الربّ سيساعدنا كما ساعَدَهم. سـوف يمنحنا عونه مثل مَنّ روحيّ لتغذية أرواحنا عندما يشتدّ الاختبار. فلنقل معاً لأبينا…»

يَنهَض يسوع ومريم معه. يرفعا نظريهما صوب السماء. إنّهما ذبيحتان حيّتان تتألّقان في الليل. يسوع يقول ببطء، إنّما بصوت جليّ، مُفَصِّلاً الكلمات، الصلاة الربّانية. وشَدَّدَ على الجملتين: «ليأتِ ملكوتكَ. لتكن مشيئتكَ.» مُفَصِّلاً إيّاهما جيّداً أكثر مِن الجُّمَل الأخرى. إنّه يصلّي وذراعاه ممدودتان، ليس بالضبط على شكل صليب، إنّما مثل الكاهن حينما يقول: «ليكن الربّ معكم». وتُبقِي مريم يديها مضمومتين.

ثمّ يَعودان إلى البيت، ويسوع الذي لم أَرَهُ أبداً يشرب الخمر، يَسكُب في كأس، مِن جرّة على الرفّ، قليلاً مِن النبيذ الأبيض ويحملها إلى الطاولة. يأخذ مريم مِن يدها ويجعلها تجلس إلى جانبه وتشرب مِن هذا النبيذ، حيث يَغمِس كِسرَة خبز ويُطعِمها إيّاها، ومريم تُذعِن نتيجة الإلحاح. ويَشرَب يسوع ما تَبَقَّى مِن الخمر.

ثمّ يشدّ أُمّه إليه، إلى قلبه. يسوع ومريم ليسا متَّكِئَين، بل هُما جالسان مثلنا للطعام. لقد توقّفا عن الكلام، إنّهما ينتَظِران. مريم تُلاطِف يد يسوع اليمنى وركبتيه. ويسوع يُلاطِف ذراع مريم ورأسها.

ثمّ يَنهَض يسوع وتَنهَض مريم معه. يتعانقان ويتلاثمان مرّات كثيرة، كثيرة. يبدوان في كلّ لحظة أنّهما يريدان الافتراق، ولكنّ مريم تُعاوِد شدّ ابنها إليها. إنّها السيّدة العذراء… ولكنّها أُمّ، وباختصار هي أُمّ فُرِضَ عليها الانفصال عن ابنها، وهي التي تَعرِف إلى أين سينتهي به هذا الانفصال. فلا يقولنَّ بعد أحد إليَّ إنّ مريم لم تتألّم. لقد كنتُ أعتَقِد بذلك سابقاً، أمّا الآن فاعتقادي أكثر رسوخاً.

يَأخذ يسوع معطفه الأزرق القاتم، ويتدثّر به على كتفيه، ويغطّي رأسه بالقبّعة. ثمّ يَحمِل الخِرج وَربَاً على صدره لكيلا يضايق مسيره. ومريم تساعده ولا تنتهي مِن ترتيب ثوبه، المعطف والقبّعة، وبين الحين والحين تُلاطِفه أيضاً.

يتوجّه يسوع صوب الباب بعد أن يقوم بإشارة بَرَكَة للبيت، فتتبعه مريم، وعند العَتَبَة يتلاثمان للمرّة الأخيرة.

الطريق صامتة ومُوحِشة، مضاءة بالقمر. يبدأ يسوع رحلته. يلتَفِت مرّتين لينظر إلى أُمّه التي تظلّ مُستَنِدة إلى الباب، أكثر بياضاً مِن القمر، ومُشِعَّة خلف دموعها الصامتة. يبتعد يسوع باطّراد على الطريق البيضاء، ومريم ما تزال تبكي مُستَنِدَة إلى الباب. ثمّ يختفي يسوع عند المنعطف.

لقد بَدَأَ طريقه كَكارِز، الطريق التي ستنتهي في الجلجلة. تَدخُل مريم وعيناها تدمعان وتُغلِق الباب. وهي كذلك قد بَدَأَت طريقها التي ستقودها إلى الجلجلة…


يقول يسوع:

«إنّه الألم الرابع لمريم أُمّ الله. الأوّل كان في التقدمة إلى الهيكل؛ الثاني في الهرب إلى مصر؛ والثالث في وفاة يوسف؛ والرابع في انفصالي عنها.

عالِمَاً رغبة الآب، قلتُ لكِ أمس مساء إنّني كنتُ سأستعجل في وصف آلامنا لنجعلها معروفة. إنّما كما تَرَين فلقد ظَهَرَت للنور مِن خلال آلام والدتي. لقد شَرَحتُ الهرب إلى مصر قبل التقدمة لأنّه كان عليَّ فعل ذلك آنذاك. أعرف سبب ذلك وتدركينه أنتِ وستشرحينه للأب بصوتكِ.

إنّ لي قصداً معيّناً في تَعاقُب تأمّلاتكِ والشروحات التي أقدّمها لكِ بعدها، مع “إملاءات” بالمعنى الصحيح، لأرفعكِ وروحكِ مانحاً إيّاكِ غبطة الرؤيا، وكذلك لأنّ، بهذه الطريقة، يصبح الفرق جليّاً في الأسلوب بين عرضكِ وعرضي. عدا عن ذلك، فبوجود كُتُب كثيرة تتحدّث عنّي، وبلمسة هنا وتنقيح هناك وتغيير هنا وتنميق هناك، تُصبِح غير حقيقيّة؛ وأنا أرغَب في أن أَمنَح مَن يؤمن بي رؤيا تعود إلى حقيقة إقامتي على الأرض. لن أُنتَقَص بذلك، إنّما على العكس، سوف أُصبِح أعظم في تواضعي الذي، مِن أجلكم، أَصبَحَ خُبزاً ليعلّمكم أن تكونوا مُتواضِعين وأن تتشبّهوا بي، أنا الذي كنتُ إنساناً مثلكم، وحَمَلتُ تحت ثوب الإنسان كمال الله. فيجب أن أكون مثالاً لكم، والـمُثُل العليا ينبغي لها أن تكون دائماً كاملة.

لن أَتَّبع في التأمّلات ترتيباً زمنيّاً مُعادِلاً للذي في الأناجيل. سوف آخذ النقاط التي أراها أكثر نفعاً في يوم محدَّد مِن أجلكِ ومِن أجل الآخرين، مُتَّبعاً ترتيبي في التعليم وفي الصَّلاح.»

العِبرة التي تَبرز مِن انطلاقي تَهُمُّ بشكل خاصّ الأهل والأبناء الذين تدعوهم إرادة الله لإنكار ذات مُتبادَل بقصد أسمى أنواع الحُبّ. وبالمرتبة الثانية يخصّ كلّ الذين يتوجّب عليهم إنكار ذات مُضنٍ.

كم تُصادِفون ذلك في الحياة! إنّها أشواك إقامتكم الأرضيّة التي تخترق القلب: أعرف ذلك. إنّما لِمَن يتقبّلها بإذعان -انتبهي، لم أقل: “لِمَن يَرغَب بها ويتقبّلها بفرح” فهذا هو الكمال؛ بل قُلتُ: “بإذعان”- فهي تتبدّل بورود متفتِّحة للأبد. ولكن الذين يتقبَّلونها بإذعان قليلون جدّاً. وكالحمير الحرونة تتمرّدون وتصطَدِمون بإرادة الآب، هذا إذا لم تَسعون أيضاً إلى جرحه برفسات ولسعات روحيّة، أي بثورتكم وبتجديفكم ضدّ الله.

لا تقولوا: “أنا لم يكن لي سوى هذا الخير وقد انتَزَعَه الله مِنّي. إنّما أنا لم يكن لي سوى هذه العاطفة وقد انتَزَعَها الله مِنّي”. كذلك مريم المرأة الـمُحِبَّة والعَطوفة بشكل كامل، إذ في “الممتلئة نعمة”، فحتّى الأشكال العاطفيّة كلّها والحسيّة كانت كاملة، لم يكن لها سوى خير واحد، حُبّ واحد على الأرض: ابنها. لم يكن باقياً لها سوى هذه الـمَوَدَّة. فأَبَواها كانا مُتَوَفَّين منذ زمن، ويوسف منذ أكثر مِن سنة. لم يكن لها غيري لأحبّها وأجعلها تُحِسُّ أنّها ليست وحيدة. فالأهل كانوا مُعادين لها قليلاً بسببي أنا، جاهِلِين طبيعتي الإلهيّة. فهي بالنسبة لهم الأُمّ التي لا تعرف فرض رأيها على ابنها الذي لا يُبالي بالحسّ السليم المشترَك، والذي يرفض مشاريع الزواج التي كانت ستزيد عزوة العائلة وترفع شأنها وحتّى تساعدها ماديّاً.

الأهل، صوت الحسّ العام، الحسّ البشريّ -تُسَمُّونه الحسّ السليم، ولكنّه ليس سوى شعور بشريّ، يعني أنانيّة- كان الأهل يريدون تغييراً عمليّاً في حياتي. وفي الأعماق كان الخوف مِن المتاعِب التي ستُرهِق كاهلهم يوماً بسببي أنا الذي كنتُ أجرؤ على التعبير عن أفكار مِثاليّة جدّاً، حسب تفكيرهم، وقد كان ممكناً أن تغيظ المجمع. والتاريخ اليهوديّ كان مليئاً بالعِبَر حول مصائر الأنبياء. فرسالة النبيّ لم تكن سهلة، وغالباً ما كانت تجلب الموت للنبيّ والمتاعب لأهله. في الأساس كانت دائماً فكرة وجوب تَحَمُّلي يوماً مسؤوليّة والدتي.

لم يكونوا إذن مُوافِقِين على ألاّ تعاندني في أيّ أمر، وأن تكون عاشقة دائمة لابنها. كان ينبغي لهذه المقاومة أن تنمو فيما بعد، خلال سنوات الكِرازة الثلاث إلى درجة أن تَصِل إلى الاتّهامات العَلَنيّة، عندما كانوا يأتون لِيَجِدوني وسط الجموع، ويعتريهم الاحمرار مِن جنوني، حسب رأيهم، في الاصطدام بالطبقات ذات النفوذ. اتّهامات لي ولها، أُمّي المسكينة!

كانت مريم تعرف طِباع الأهل، إذ لم يكن الجميع مثل يعقوب ويهوذا وسمعان، ولا مثل والدتهم، مريم التي لكلاوبّا، وكانت تتوقّع كيف ستصبح هذه التصرّفات. وكانت تَعلَم ماذا سيكون مصيرها في غضون هذه السنوات الثلاث، وماذا ينتظرها فيما بعد، وتَعلَم كذلك مصيري أنا؛ ومع ذلك لم تكن تتمرّد مثلما تفعلون. بل لقد بَكَت. مَن منكم لم يكن ليبكي على فراق ابن يحبّه كما كنتُ أحبّها، لمجرّد التفكير بالأيّام الطويلة التي كنتُ سأتغيّب خلالها عن منزلها الذي بَقِيَت فيه وحيدة، أمام مستقبل ابن مُهيّأ للاصطدام بشرور الناس الذين يُحِسّون بأنفسهم مُذنِبين، وأنّ ذنوبهم تدفعهم لمحاربة البريء حتّى إرادة قتله.

لقد بَكَت لأنّها كانت الـمُشارِكَة في الفِداء وأُمّ الجنس البشريّ الذي تَقَبَّل مِن الله حياة جديدة. كان ينبغي لها أن تبكي مِن أجل كلّ الأُمّهات اللواتي لا يعلَمنَ أن يجعلن مِن آلامهنّ كأُمّهات إكليل مجد أزليّ.

كَم مِن الأُمّهات في العالم يختطف الموت مِن بين أيديهنّ ابناً! كَم مِن الأُمّهات تَنتَزِع إرادة فائقة الطبيعة ابناً مِن جانبهنّ! فَمِن أجل كلّ بناتها كأُمّهات لمسيحيّين، مِن أجل كلّ أخواتها في ألم بقائهنّ وحيدات، بَكَت مريم. وكذلك مِن أجل كلّ أبنائها، المولودين مِن المرأة، وقد أُعِدّوا ليُصبِحوا رُسُلاً لله وشهداء لحبّه، بالوفاء لـه أو بوحشيّة الناس.

دمي ودموع مريم هما المزيج الذي يُقوّي المدعوّين إلى مصير بطوليّ، يمحو نقصهم وحتّى الأخطاء الـمُرتكَبَة بسبب ضعفهم، بمنحهم، عدا عن الشهادة، مهما كانت، سلام الله، وإذا تألّموا مِن أجل الله، فمجد السماء.

أمّا الـمُرسَلون فيجدونه كالشعلة تدفئهم في البلاد التي يسودها الثلج. يَجِدونه كالندى في البلاد التي تَسودها شمس مُحرِقة. لقد انبَثَقَت دموع مريم مِن محبّتها وتدفَّقَت مِن قلب زَنبقيّ. فهي تمتلك إذاّ محبّة بَتوليّة متّحدة بالحبّ وبالنار، وطهارة بَتوليّة، رطوبة مُعطَّرة تشبه الماء المتجمّع في كأس زنبقة بعد ليلة غارقة بالندى.

تَجِدهُ النفوس الـمُكَرَّسة في هذه الصحراء التي هي الحياة الرهبانيّة الشاملة: صحراء، لأنّ لا شيء فيها حيّ سوى الاتّحاد بالله، وأنّ كلّ عاطفة أخرى تتفتّح فقط حين تُصبِح محبّة فائقة الطبيعة: للأهل والأصدقاء والرؤساء والـمَرؤوسين.

الـمُكَرَّسون لله يَجِدون هذا المزيج الإلهيّ وسط العالم الذي لا يفهمهم ولا يحبّهم، صحراء كذلك بالنسبة لأولئك الذين يَحيون كما لو كانوا وحيدين بقدر ما هم غير مَفهومين ومُستهزَأ بهم بسبب الحبّ الذي يحملونه لي.

تَجِده “ضحيّاتي” المحبوبات، لأنّ مريم هي الأولى التي كانت ضحيّة حُبّ يسوع، وكذلك اللواتي تَبِعنَها. إنّها تَهِب مِن يدها كأُمّ وكطبيبة، دموعها التي تقوّي وتثير الحماس مِن أجل التضحية الكبرى. دموع أُمّي المقدّسة.

مريم تصلّي. لا ترفض الصلاة لأنّ الله يبتليها بالألم. احفَظوا هذه الذكرى، إنّها تصلّي مع يسوع. تصلّي للآب، أبينا وأبيكم.

لقد تَلَيتُ الصلاة الربّية: “أبانا” للمرّة الأولى في حديقة الناصرة، عزاء لمعاناة مريم، لتقديم إرادتنا للأزليّ في اللحظة التي كانت تبدأ لأجل إرادته، مرحلة نكران ذات مُتنامية، بَلَغَت ذروتها بالنسبة لي عند نكران حياتي، وبالنسبة لمريم لدى موت ابنها.

لم يكن لدينا شيء يغفره الآب، ونحن الـذين “بلا خطيئة” قد طَلَبنا حينئذ مغفرة الآب ليَغفر لنا، وهذه المسامحة لم تكن سوى لِتنهيدة لا تَرقَى إلى جَلال رسالتنا. لتعليمكم أنّه بقدر كوننا في حالة نعمة مع الله، بقدر ذلك تكون الرسالة مُبارَكَة ومُثمِرة. لتعليمكم احترام الله والتواضع. فبحضور الله الآب، حتّى كمالاتنا كرجل وامرأة أَحَسَّت بالعدميّة وطَلَبَت المغفرة كما طَلَبَت “خبزنا كفاف يومنا”.

ماذا كان خبزنا؟ آه! لم يكن ذاك الذي تعجنه يدا مريم الطاهرتان ويخبزه الفرن الصغير الذي طالما حَزَمتُ له العيدان والحطب. فهذا أيضاً ضروريّ طالما نحن على الأرض. ولكنّ خبزنا اليوميّ كان أن نؤدّي يوماً إثر يوم مهمّة رسالتنا. فليهبنا الله ذلك كلّ يوم لأنّ إتمام الرسالة التي يكلّفنا بها الله هو فَرَح يومنا، أليس كذلك يا صغيرتي المحبوبة؟ ألا تقولين كذلك أنتِ إنّ اليوم الذي يترككِ فيه صلاح الربّ دون رسالتكِ في الألم يبدو فارغاً وكأنّه غير موجود؟

مريم تصلّي مع يسوع. إنّ يسوع هو الذي يُقَوِّمكم يا أبنائي. وأنا الذي أجعل صلواتكم للآب مقبولة وذات نفع. لقد قلتُ ذلك: “كلّ ما تطلبونه مِن الآب باسمي يعطيكموه”. والكنيسة تُقَوِّم صلواتها بالقول: “بيسوع المسيح ربّنا”.

عندما تُصَلّون اتّحدوا دائماً، دائماً، دائماً بي. وأنا سوف أصلّي مِن أجلكم بصوت مرتَفِع مُجَلِّلاً صوتكم كبشر بصوتي كإنسان-إله. سوف أضع صلاتكم على يديَّ الـمُختَرَقَتَين وأرفعها للآب، فتصبح ذبيحة ذات قيمة لا حدّ لها. وصوتي الذائب بصوتكم سيرتَفِع كقُبلة بنويّة للآب، وحُمرة جراحاتي ستجعل صلاتكم أكثر قيمة. اثبتوا فيَّ إذا أردتم أن يثبت الله فيكم ومعكم وبكم.

لقد أنهيتِ الرواية بقولكِ: “ونحن…” وقد أردتِ القول: “ونحن الجاحِدِين بحقّ الإثنين اللذين صَعَدا الجلجلة لأجلنا”. لقد فَعَلتِ جيّداً بوضع هذه الكلمات. ضعيها في كلّ مرة أُظهِر إحدى آلامنا. ولتكن مثل الجرس الذي يرنّ ويدعو إلى التأمّل والنَّدَم.

هذا يكفي الآن. استريحي. السلام معكِ.»


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.