15- يوسف ومريم يَصِلان إلى الناصرة | قصيدة الإنسان – الإله

1٬350
كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا | الإنجيل كما كُشف لي

الجزء الأول
{الحياة الخفية}

15- يوسف ومريم يَصِلان إلى الناصرة

06 / 09 / 1944

تمتدّ سماء شهر شباط (فبراير) الدافئ والأكثر زُرقة على روابي الجليل. الروابي اللطيفة التي لم أرها أبداً في مرحلة طفولة العذراء بدت وكأنّ المشهد كان مألوفاً بالنسبة لي، كما لو كنتُ قد وُلِدتُ فيها.

الطريق الرئيسيّة المبلّلة بفعل أمطار سبق هطولها، ربّما تكون قد هطلت في الليلة السابقة، ليست موحلة ولا مغبرّة. إنّها منتظمة ونظيفة كما لو كانت شارعاً في مدينة، وهي تمتدّ بين سياجين مِن الزعرور الـمُزهِر. إنّها مثل سطح ثلجيّ يضوع منها عطر المرّ والخشب، مُقطّعة بحسب مجموعات كبيرة مِن الصبّار ذات الأوراق الضخمة والمسطّحة، بأشواكها المنتَصِبة، ومزيّنة بمجموعة كبيرة مِن الثمّار غير المألوفة التي نبتت بشكل عشوائيّ على أطراف الأوراق. شكلها ولونها يوحيان إليّ بأعماق البحار بكلّ ما فيها مِن مدخات (شِعاب مرجانية) وقناديل بحر وحيوانات أخرى مِن الأعماق المائيّة.

فيما بعد الأسيجة -التي تقوم مقام الحدود للمُلكيّات، والتي تمتدّ في كلّ الاتّجاهات، مُشكّلة رسوماً هندسيّة غريبة، منحنيات وزوايا، متوازيات أضلاع ومعيّنات ومربعات وأنصاف دوائر ومثلّثات حادّة أو منفرجة الزاوية غير معقولة، إنّه رسم موشّى كلّه بالأبيض كشريطة متبدّلة مُدّت هكذا، للمتعة، على طول الحقول،

وعليها يطير مئات العصافير مِن كلّ نوع، وتزقزق وتَصدح بفرح الحبّ وبناء الأعشاش- وبعد الأسيجة تأتي الحقول مع القمح والعشب، وهو الآن أطول مِن القمح في جبل يهوذا والمروج الـمُزهِرة، وعليها -بالتجاوب مع غيوم السماء الخفيفة التي يضفي عليها الغَسَق صبغات مِن الزهر والليلك الفاتح، والبنفسج والدفلة، وعين الهرّ اللازورديّ والمرجان البرتقاليّ- مئات ومئات مِن سُحُب الأشجار المثمّرة: بيضاء وحمراء مع كلّ الدرجات البَينيّة.

مع نسيم المساء الخفيف، ترفرف وتقع طلائع بتلات الأشجار الـمُزهِرة، وكأنّها أسراب مِن الفراشات أثناء البحث عن غبار الطلع على أزهار القرية. ومِن شجرة إلى أخرى ضفائر كرمة عارية إلاّ مِن قِمَمها حيث تلفح الشمس أكثر، إنّه التفتّح البريء، المندهش، الخافق للوريقات الأولى.

تنام الشمس مطمئنّة في السماء العذبة بزرقتها التي يجعلها النور أكثر إشراقاً، كما يجعل ثلج حرمون والقمم البعيدة الأخرى تلمع مِن البعيد.

عربة تسير على الطريق. إنّها هي التي تحمل يوسف ومريم مع الأنسباء. انتهت الرحلة.

تنظر مريم نظرة متلهّفة تَروم بها معرفة، بل التحقّق مِن كلّ ما تراه ولا تتذكّره، وتبتسم عندما تعود إحدى الذكريات غير المحددة وتتوقّف عند هذه أو تلك مِن الأشياء، عند نقطة معيّنة، أليصابات ومعها زكريّا ويوسف يساعدونها على التذكّر بتحديد هذه القمّة أو تلك، هذه الدار أو تلك. مِن هنا تبدأ البيوت، فالناصرة تَظهَر الآن ممتدّة على سفح الرابية.

المدينة التي لَفَحَتها شمس المغيب مِن جهة اليسار، تَظهَر بيوتها الصغيرة البيضاء واسعة ومنخفضة، تعلوها سطوح ملوّنة بالورديّ. بعضها، التي تلفحها الشمس بالكامل، تبدو مضاءة وكأنّه الحريق، وذلك لاحمرار الواجهة بسبب الشمس التي تجعل المياه تلمع، مياه القنوات والآبار المنخفضة غير المسوّرة، والتي تَخرُج منها الدِّلاء للمنازل والـمِرشّات للمَبقَلة.

يقف الأطفال والنساء على قارعة الطريق، يَنظرون إلى العربة ويحيّون يوسف الذي يعرفه الجميع. ولكنّهم يبقون بعدها في نوع مِن الخشوع والرهبة أمام الثلاثة الآخرين.

لدى دخولهم فعليّاً إلى المدينة، لم تعد هناك حيرة ولا خوف. كثيرون مِن كلّ الأعمار يتواجدون عند أوّل البلدة تحت قوس ريفيّ مِن الزهور والأوراق، ولم تَكَد العربة تَظهَر مِن خلف منعطف آخر منزل ريفيّ شذَّ عن الصف، حتّى عَلَت كرة مِن الهتاف الحادّ؛ الناس يهزّون السعف والباقات. إنّهم نساء وشابّات وأطفال الناصرة يحيّون العروسة. أمّا الرجال فيقفون برزانة أكثر خلف السياج المهتزّ والضاجّ، ويحيّون برصانة ووقار.

تُكشَف العربة قبل الوصول إلى البلدة، فالشمس لم تعد مزعجة، وهكذا يتاح لمريم أن ترى جيّداً مسقط رأسها. تبدو مريم جميلة مثل زهرة، بيضاء وشقراء مثل ملاك، تبتسم بطيبة للأطفال الذين يرشقونها بالزهور ويُرسِلون لها القبلات، وللفتيات مِن عمرها اللواتي ينادينها باسمها، كذلك للعروسات والأُمّهات والعجائز اللواتي يباركنها بأصواتهنّ الـمُنشِدة. ثمّ تنحني أمام الرجال، خاصّة أمام أحدهم الذي ربّما كان الحاخام أو الشخصيّة الرئيسيّة في البلدة.

تتقدّم العربة بتمهّل على الطريق الرئيسيّة، يتبعها قسم كبير مِن الحشد الذين اعتبَروا هذا القدوم بالنسبة لهم حَدَثاً.

«ها هو منزلكِ يا مريم» يقولها يوسف مشيراً بالسوط إلى منزل صغير موجود تماماً في أسفل سفح هضبة، وله مِن الخلف حديقة جميلة واسعة، مليئة بالزهور، وتنتهي بشجرة زيتون صغيرة. وأبعد مِن ذلك قليلاً السياج المعتاد مِن الزعرور والدفل الذي يُعَيّن حدود الملكية.

يقول زكريا: «الحقول التي كانت يوماً ليواكيم أكبر مِن ذلك، وقد بقي لكِ منها القليل فقط لأنّ مرض والدكِ كان طويلاً ومُكلفاً، وكذلك مصاريف الإصلاحات كثيرة التكاليف، وآخرها ما أُتلِفَ مِن قِبَل روما. أرأيتِ الطريق وقد طُمِسَت معالم الملحقات الثلاث الأساسيّات، وكذلك المنزل وقد صَغر؟ ولتوسيعه دون تحمّل تكاليف باهظة استخدمنا جزءاً مِن الهضبة، حُفِرَت كمغارة كان يواكيم يحفظ فيها مؤونته، وحنّة تضع فيها مصنوعاتها. أمّا أنتِ فستتصرّفين حسب ما ترينه مناسباً.»

«آه! وإن يكن صغيراً، لا يهمّ! هذا يكفيني دائماً. سوف أعمل…»

يُجيب يوسف: «لا يا مريم، فأنا مَن سيعمل، أمّا أنتِ فلن تقومي سوى بأعمال البيت مِن غسيل وخياطة. إنّني شاب وقويّ، وأنا زوجكِ. فلا تذلّيني بعملكِ.»

«سأفعل ما تريد.»

«نعم، في هذا الموضوع، هذه هي إرادتي. أمّا في باقي الأمور فرغباتكِ ستكون قانوناً، ولكن ليس في هذا الأمر بالذات.»

يَصِلُون، تتوقّف العربة.

كان رجلان وامرأتان بكلّ وقار، وهما بين الأربعين والخمسين مِن العمر، قُرب الباب مع عدد كبير مِن الأطفال والشباب.

«ليمنحكِ الله السلام يا مريم» يقولها الرجل الأكبر سنّاً، وتدنو امرأة مِن مريم تعانقها وتقبّلها.

يقول يوسف: «هذا أخي حلفا، وهذه مريم زوجته، وهؤلاء أولادهما، وقد جاءوا خصّيصاً للاحتفال بكِ، وليقولوا لكِ إنّ منزلهم هو منزلكِ لو أردتِ.»

تقول مريم زوجة حلفا: «نعم، تعالي يا مريم، إذا كان العيش وحيدة يضنيكِ. الريف جميل في الربيع، ومنزلنا وسط الحقول الـمُزهِرة. وستكونين أنتِ فيه أجمل زهرة.»

«أشكركِ يا مريم. سوف آتي بكلّ سرور بين الحين والحين، دون الإساءة لعرف الزواج. ولكنّني أرغب كثيراً رؤية واستكشاف منزلي. كنتُ صغيرة جدّاً عندما غادرتُه، وقد نسيتُ ملامحه… أمّا الآن وقد وجدتُه… فيبدو لي أنّي ألاقي أُمّي التي أضعتُها، وأبي المحبوب، أُلاقي صدى كلماتهما… وعطر آخر تنهيدة لهما. يبدو أنّي لم أعد يتيمة، لأنّني أمتلك حولي عناق الجدران… افهميني يا مريم.» وهنا يَفضَح صوت مريم تأثّرها، وتتلألأ الدموع على أهدابها.

تُجيب مريم التي لحلفا: «كما تريدين يا حبيبتي. ولكنّي أريدكِ أن تحسّي بي كأخت لكِ وصديقة وكأمّ لكِ إلى حد ما، فأنا أكبر منكِ سنّاً.»

تقترب المرأة الأخرى: «أحيّيكِ يا مريم. أنا سارة صديقة أُمّكِ، ولقد حَضَرتُ ساعة ولادتكِ. وهذا هو حلفا، ابني الصغير حلفا، وهو الصديق الأكبر لأمّكِ. وما كنتُ أفعله لأُمّكِ سأفعله لكِ لو أردتِ. أترين؟ إنّ بيتي هو الأقرب إلى بيتكِ، وحقولكِ هي الآن لنا. ولكن لو أردتِ المجيء فتستطيعين ذلك في أيّة ساعة تشائين، وسنجعل لذلك ممراً في السياج فنكون معاً مع بقائنا كلّ في بيته. وهذا هو زوجي.»

«أشكركم جميعاً وعلى كلّ شيء، مِن أجل كلّ صنيع أردتم أن تُسدوه لأهلي وتريدون أن تُسدوه لي. فليبارككم الله الكلّي القدرة.»

أُنزِلَت الصناديق الثقيلة وأُدخِلَت إلى البيت. يَدخُلون، وأتعرَّف على بيت الناصرة الصغير كما هو فيما بعد أثناء حياة يسوع.

يأخذ يوسف مريم مِن يدها -حركة طبيعيّة واعتياديّة- ويَدخُلان هكذا. وعند العتبة يقول لها: «والآن، على هذه العتبة أريد منكِ وعداً: أيّ شيء يعترضكِ أو يحصل لكِ فلا يكن لكِ صديق آخر أو مُساعِد تلتجئين إليه إلّا يوسف. وكذلك ألّا تُخفي ألمكِ لأيّ سبب مِن الأسباب. أنا بِكُلّيتي تحت تصرّفكِ، تذكّري هذا، وهنا سيكمن فرحي في أن أجعل دربكِ سعادة، وبما أنّ السعادة ليست دائماً في متناول يدنا، فعلى الأقلّ أن أجعلها لكِ هادئة وأمينة.»

«أعدكَ بذلك يا يوسف.»

وتُفتَح الأبواب والنوافذ لتدخل الشمس المائلة للغروب بفضول.

تَخلَع مريم الآن المعطف والوشاح، ذلك أنّها ما تزال بثوب العرس ماعدا زهور الآس. ثمّ تَخرُج إلى الحديقة الـمُزهِرة. تنظر وتبتسم، ويدها ما تزال في يد يوسف، تدور حول الحديقة. تبدو وكأنّها استعادت ملكيّة مكان فَقَدَتهُ سابقاً.

يدلّها يوسف على أعماله: «أترين؟ هنا حَفَرتُ هذه الحفرة لتجميع مياه المطر، لأنّ الكروم عطشى دائماً. أمّا شجرة الزيتون هذه، فقد قصصتُ أغصانها القديمة لتنتعش. وزَرَعتُ أشجار التفّاح هذه لأنّ اثنتين كانتا قد ماتتا، وهنا زَرَعتُ أشجار التين، فهذه عندما ستنمو سوف تحمي المنزل مِن حرقة الشمس ومِن النظرات الفضوليّة. هنا العريشة القديمة، وقد بدّلتُ فقط الحوامل المهترئة، كما أَعمَلتُ المقصّ في الكروم، سوف تعطي الكثير مِن العنب، هذا ما أتمنّاه. وهنا، انظري»

ويقودها مفتخراً إلى المنحدر خلف المنزل، وهو حدود الحديقة، «وهنا حَفَرتُ مغارة صغيرة ودَعَّمتُها، وعندما ينمو هذه الزرع الصغير، ستصبح بحجم تلك التي كانت لكِ سابقاً تقريباً. إلاّ أنه لم يعد هناك نبع… ولكنّي سأعمل على جلب سلسال ماء. وسأعمل في ليالي الصيف الطويلة عندما سآتي لرؤيتكِ.»

فيقول حلفا: «ولكن كيف؟ ألن تتزوجا هذا الصيف؟»

«لا، فمريم ترغب في إخاطة الأغطية الصوفيّة، الشيء الوحيد الذي يفتقده الجهاز. وأنا سعيد. فمريم ما تزال شابّة، ولا يهمّ إن انتظرتُ سنة أو أكثر. وأثناء ذلك ستتعوّد على المنزل…»

«آه! كنتَ دائماً مختلفاً عن الآخرين، وما زلتَ إلى الآن. أتساءل إذا ما كان هناك مَن هو على غير عَجَل لتصبح زهرة مثل مريم زوجة له، وأنتَ تنتظر أشهراً!…»

فيجيب يوسف بابتسامة عذبة: «كلّما طال انتظار الفرحة جاء طعمها أحلى وألذ.»

يرفع الأخ كتفيه ويسأل: «متى تفكّر بالزفاف؟»

«عندما تبلغ مريم السادسة عشرة. بعد عيد المظالّ. وستكون أمسيات الشتاء أعذب بالنسبة لعروسين جديدين!…»

ويبتسم ثانية وهو ينظر إلى مريم نظرة انتظار سرّي مليئة عذوبة وعفّة أخويّة لطيفة. ثمّ يتابع: «ها هنا الغرفة، داخل الأَكَمَة. إذا رغبتِ فسأجعلها مَشغَلي عندما آتي، فهي متّصلة بالمنزل، ولكنّها ليست داخله، وهكذا لن يكون هناك ضجّة ولا فوضى. أمّا إذا كنتِ مع ذلك تريدين غير هذا…»

«لا يا يوسف، هكذا سيكون جيّداً جدّاً.»

يَدخُلان إلى المنزل ويُنيران المصابيح.

يقول يوسف: «مريم تَعِبة، فلندعها ترتاح مع الأنسباء.»

يحيّي الجميع وينصرفون. يبقى يوسف لبضع دقائق أخرى، يتحدّث إلى زكريّا بصوت منخفض.

«سوف يدع نسيبكِ أليصابات عندكِ لبعض الوقت، أمسرورة أنتِ؟ أنا مسرور لأنّها ستعينكِ كي… تصبحي ربّة منزل عظيمة. معها سوف تنظّمين كلّ شيء حسب ذوقكِ وترتبين الموبيليا، وسوف آتي كلّ مساء لمساعدتكِ. معها ستستطيعين تأمين الصوف وكلّ ما يلزم، وأنا مَن سيتولّى أمر المصاريف. تذكّري أنكِ وعدتِ أن تلتجئي إليّ في كلّ شيء. إلى اللقاء يا مريم. نامي أوّل ليلة كامرأة في هذا البيت الذي هو بيتكِ، وليجعله لكِ ملاك الله هادئاً. وليكن الرب معكِ على الدوام.»

«إلى اللقاء يا يوسف، فلتكن أنتَ أيضاً تحت جناح ملاك الله. شكراً يا يوسف على كلّ شيء. بقدر استطاعتي، سوف أجعل حبّي متجاوباً مع حبّكَ.»

يحيّي يوسف الأنسباء ويَخرُج. وفي الوقت ذاته تنتهي الرؤيا.


كتاب قصيدة الإنسان – الإله
ماريا فالتورتا
 →  السابق       البداية       التالي  ← 
مواضيع ذات صلة
أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.