كتاب من سيناء إلى الجلجلة – شهادة كاتالينا
تأملات في اخر كلمات يسوع على الصليب
شهادة كاتالينا
مقدمة الكاتبة
حَثَّني الرب أن أكِتبَ هذا الكتابِ الجديدِ، الذى يستند محتواه على كُلّ ما كُشِفَ لي خلال شهران ونِصْف تقريباً. منذ وقت طويل لَمْ أكن أَعْرفْ متى أَو كَيفَ أَبْدأُ بكِتابَة هذه الشهادةِ، على الرغم من أنَّي كُنْتُ مُتَأَكِّدة إِنَّها سَتكون ذات يوم ذات أهمية كبيرةَ لتاريخِ خلاصنا. وظهر أنه بالضبط اليوم، عندما تُحيي الكنيسةَ تذكار تلك المرأةِ، التي يسّرتْ بقبولها إنجازَ أعظم عمل رحمةِ لله للبشر ألا وهو مجيء فادينا إلى العالمِ.
يَتضمّنُ هذا الكتابِ الصغيرِ تعليم جديد يتعلّقُ بكلماتِ الحبِّ والحكمةِ، يتعلّقُ بكلماتِ الاستسلام لإرادة الأبِّ وسط أكثر الآلام بشاعة، يتعلّقُ بكلماتِ الشفقةِ والرحمةِ تجاه الإنسانيةِ، يتعلّقُ بكلماتِ القوّةِ والعْطاء الذاتيِ للإنسان.
هذه هى الساعات الأخيرة للسيد المسيح على الصليبِ، واليوم، ها هي تتجدد كي تَتأمّلُوا فيها بعمّق وتَعِيشُوا مَع مٌخلصنا فى لحظات حياته الأخيرة كإنسان، قبل العَودة إلى الأبِّ وإرسالْه الروحَ القدس لنا.
أَتضرّعُ أَنَّ يُرشدُنا روحِ الرب من خلال هذه الصفحاتِ، أتوسل لأجل معونتَه وأكرّسَ له عملي المتواضع، لكي يكون بطريقةٍ ما قادر على المُسَاعَدَة في خلاص النفوس.
قال الرب لي في بدايةِ تأملِي ” عندما وَصلتُ إلى الجلجثة، وَجدتُ اللصان اللذان كانا سيصُلِبان، كَانا يَصْرخان وشْعرُت بالشفقة تجاههم، بينما كُنْتُ أنا في حالةٍ جسدية أسوأ مِنْ حالتهم …”
لقد استطعت أَنْ أَرى مِئاتَ الأشخاصِ، مئات الرجال فى طريقهم ليَصْلُبوا، يسيرون ببطيء لكن في يأسِ، يصُرخون، يسبون، أعينهم ممتلئة بالذعرِ والكراهيةِ، مَع رغبة عمياء للثأرِ. أنهم لم يكَونوا سويةً. أدركتُ بِأَنَّ هذه كَانتْ مشاهدَ مِنْ أيامِ وساعاتِ مختلفةِ. لَكنَّهم يشتركون في قاسم مشترك: كُلّهم مُدانين بالصلبِ ويتَكلّمون كلّهم تقريباً نفس الكلماتِ وينَطقون بإهانات وتهديداتَ مماثلةَ إلى جلاديهم.
في أكثر مِنْ ثلاث مناسباتِ رَأيتُ جندي أَو عِدّة جنود يَقتربونَ من أحد هؤلاء السجناءِ ويَجذبون سكين أَو سيف ويقَطعَون لسان الرجل لإسْكاته، وبذلك يُصبحُ الطريقِ نحو الموتِ فظيع وحزين لدرجة أكبر.
ظَهرَ هناك أمام عيناي مشهد يوم الجمعة العظيمةِ. هذا الإنسانِ المحَكومَ عليه بالموت كَانَ يختلفَ. كان ظاهريا مهزوماً … مجروح ألاف المرات أكثر مِنْ الآخرين، مُكلّلَ بإكليل من الأشواكِ التي جرحت جلدَه ونفذت إلى لحمِه، مغطى بالدمِّ والترابِ، مرتجف ومحموم وبعينين متألمة للغاية بسبب العرقِ والجروحِ. لكن نظرتَه كَانتْ ممتلئة بالسلامِ، بالرحمةِ، بالحزنِ، وفي لحظات معيَّنةِ يستطيع المرء أَنْ يعي حتى السعادةَ، عندما علم يقيناً بِأَنَّ هذا الآلام ستنقذُ الإنسانيةَ مِنْ الموتِ الأبديِ.
الآخرونُ لفظوا الإهاناتَ، لْعنوا وشوحوا. لكنه ظْلُّ صامتَاً، ولا شكوى واحدة فْلتُت مِنْ فَمِّه، فقط البركات وكلمات المغفرةِ. على نقيض ما تُعلمنا قِيَم هذا العالمِ، كان ممْكِنُ أَنْ يُرى بشكل واضح بأنّه المُنتصر العظيم، قاهر الموتِ. إن جلادينه هم الأداة المسكينة للشيطانِ، الشيطان مع يهوذا كانا هما أعظم الخاسرُين.
الكلمة الأولى
أَبِتاه، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا يَفْعَلُونَ!
عندما مزّقوا ملابسِه، أنتظر الجميع في صمتِ مُطلقِ أن يثور الرجلِ أَو أن يسُأل الصفحِ والرحمةِ مِنْ خصومِه. توقع البعض ذلك، لابد أَنْه سيَثُورَ أَو أن يُنشدَ الصفح مِنْ تلك العقوبةِ. أنتظر الآخرين منه, كابن الرب، كما أدعي، أن يُناشدُ أبّاه أَنْ يرسل أمطار من نارُ مِنْ السماءِ لمُعَاقَبَة أولئك الذين أساءوا معاملته كثيراً. بْدا لهم إن الزمن قد توَقفَ؛ على الرغم من هذا، حرّكُ هذا الرجلِ شفاهِه بالكاد وصلى بشكل صامت …
لكن هناك أربعة أشخاصِ توقّعواَ شيئا آخر: يوحنا ومريم المجدلية ومريم التى لكلوبا والعذراء مريم.
لقد توقّعوا رؤية أولئك الأشخاص الذين برئوا بتلك الأيادي، تلك الأيادي التي تُثْقَبَ الآن. أين أولئك الذين سْمعوا تعاليمه على جبلِ التطويبات ؟ أين أولئك الذين تلقّوا المغفرة مِنْ شفاهِه؟ أين الرجال الذين عِاشوا معه ثلاث سَنَواتِ تقريباً؟ … أين أولئك الذين أقامهم من الموت, سواء بالجسدِ أو بالروحِ؟
ما رأيته جرحني وعْرفَت بأنّ عينَاي تنظران لأعلى. بعد ذلك سَمعتُ صوتَ السيد المسيح الذي تَكلّمَ وأخبرَني أنّه فكر ليس فيهم فقط بل فى كُلّ البشر أيضاً، فكر فينا جميعاً، على مدار كل الزمن, أولئك الذين سيديرون له ظهورهم ذات يومُ، على الرغم مِنْ كونهم عَرفَوه وكونهم تلقوا منه عديد من المنافعِ، البعض سيَفعل ذلك بسبب الجبنِ، للخوفِ من الاضطهاد، آخرون خوفاً من أَنْ يهزئ بهم للاعتراف بمسيحيتِهم، آخرون بسبب راحتِهم، آخرون لأنهم يَعتقدونَ بأنّهم يَستحقّونَ كُلّ خير وأنانيتهم لا تسْمح لهم سوي بالتَفكير فى أنفسهم. الأغلبية ستَفعَلُ ذلك بسبب اللامبالاةِ، بسبب الإهمال أَو بسبب الشكِّ وقلةِ الإيمانِ.
بعد ذلك كرّرَ لي السيد المسيح كلمات الإنجيلِ “لا تَخَافي، لأنه ليس هناك شيء أخفىَ لَنْ يُعْرَفُ. الذي أَقُولُه لك في الليل، قُولُيه في وضح النهار والذي أَقُوله لك في أذنيك، بشّري به مِنْ على الأسطح …”
لِهذا ها أنا أُدوّنُ ذلك، مُعانة من قبله، لكي لا تكونوا من بين أولئك الذين يٌشير إليهم السيد المسيح بمثل هذا الألمِ.
أتمَّ الجنود وَضْع السيد المسيح على الصليبِ. حتى قبل دقائق قليلة، كان ممْكِنُ أَنْ تَستمعَوا لصوت الطرق على المساميرِ أولاً فى جسده البتول، وبعد ذلك، فى الخشبِ. أنه لَمْ يُجاوبْ. لقد صَفحَ, لقد صَلّى, ونَما الصمت في حناجرِ أولئك الذين انتظروا أمّا الكلماتَ الأولى أَو الأنين الحزينَ للمَصْلُوبينِ.
عندما رَفعوا الصليبَ عاليا، كسرَ بُكاء النِساءِ القديسات حالةَ الصمت، وبعد ذلك، بَدأَ الرعبَ من جديد: الصُراخ، الإهانات، الهَزْء، البَصْق. تحدّي الرب في تلك اللحظةِ الدقيقةِ مِنْ المجابهةِ بين الكراهيةِ والحبِّ, بين التكبّرِ والتواضعِ، بين الشيطان والإله, بين التمرّد وطاعة إرادة الرب!
نظر يسوع إلىّ وكما لو أن عينَيه رَفعتْني لأعلى، أُيقظُتني مِنْ نفسِي لأنى شَعرتُ بأنّني كُنْتُ أَفْقدُ نفسي في عمقِ ذلك الألمِ … بَدأَ يتكلم معي ثانيةً. ترددت كلماته في قلبِي، كما لو أنَّ هاوية هائلة فُتحت فيه. وقال بحزنِ ” لقد خضعتُ لمحاكمة لم يجدوا فيها شيء ليتِّهموني به، لكوني لم أفعل شيءَ خطأ. لم يكن هناك أَبَداً غش في فَمِّي وحتى الشهود الكذبة، الذين دُعِوا أمام هذه المحاكمةِ المُشينة للتَحَدُّث ضدّي، افتقروا لأيّ تماسك في كُلّ شهاداتِهم. جريمتي الوحيدة وسبب عقوبتِي بالموتِ كَانَ إقرارَي بشّيء لا أَستطيعُ أَنْ أَتبرّأَ مِنْه أمام أي شخص, بأنّني ابن الأله.”
لقد تَوقّفَ عن الكَلام وشعرت بأنى أتحطم بسبب ذلك العذابِ المعنويِ والجسديِ. كم عديد من الأشياء عَبرتْ فكري في ثواني! كم من مشاعر قد لَنْ أكُونَ قادرة على تَفسيرها! بعد ذلك، بنغمة مذكرة وهادئة وبكلماتِ أيقظْني صوته مِنْ الزمن الحاليِ واستمعت لما لم يتوقع أحد ممن كَانوا هناك سماعه مِنْ شفاهِ هذا المُدانِ المحَكومَ عليه بالموت.
أَبِتاه، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ مَا يَفْعَلُونَ!
أستسلم الجميع للصمت أمام هذه الكلماتِ، كثيرين مِنْهم صُدِموا كما لو أنهم أدركوا الآن فقط في حضرِة من هم يكَونوا.
يا لها من سخرية ظالمة! أنه يُعاقب لكونه يُعْلن نفسه ابن الربِ. لأنه تَجاسرَ أن يدَعوا الرب: “أبّ”، “آبا”، أَو أبّ محبوب أو ” دادى “، كما يَقُول كثيرين مِنّا اليوم. لذلك السببِ عاقبوه … ورغم ذلك ها هو يَسْألُ أبِيه أن يرحم جلادينه.
أنه يَطلُب بألا تؤخذ تلك الخطيةِ الخطيرةِ في الحسبان من قبل الرب، أبوه. وبهذا العملِ، يَتْركُ أفضل مثالِ عن كُلّ ما أوصي به في سَنَواتِ خدمته. في هذا العْملِ يَعطي شهادة حيّة عن ما علّمَه لنا: أن نحَبَّ ونصَلي من أجل الأعداء، من أجل أولئك الذين جَرحونا.
الكلمات التي سُمِعتْ مِنْ شفاهِه ذات يوم على جبلِ التطويبات، كَانَ يُحوّلُها الآن إلى تصرّفِ على جبلِ يُدَعي جبل الجلجثة أَو الجمجمةِ …
كَمْ تمتع إبليس بآلامِ أبن الربِ! على أية حال، إن كان قد سَخرَ مِنْ ألامِ السيد المسيح، فهو بَعْدَ أَنْ سمع هذه الكلماتِ أنفجر غضباً وذَهبَ رّاكضاً نحو تلك الوحوشِ التي كَانتْ تُعذّبُ أبن الإنسانِ، ذلك الإنسانِ الذي كان على عاتقه إلقاء “الملاك الشرير” أَو” الشيطان ” مِنْ السماءِ.
بهذه الطريقة، أرادَ زيَاْدَة قسوةِ المعذّبين ضدّ السيد المسيح، إلى حدّ تحديه ودْعوته للنُزُول مِنْ على الصليبِ. ذلك كَانَ ممكنُ أَنْ يَكُونَ نصرَ الشيطانِ، لو وافق السيد المسيح على ذلك التحدي وبذلك، يسقط فى تجربة العصيانِ والكبرياءِ.
تلوّي عدو النفوس من الغضبِ لأن العقوبةَ نُفّذتْ: فها هو أبن المرأةِ يَسْحقُ رأسهَ على الأرضِ، بينما يَرْبحُ لنا دخول السماءِ. ولَيسَ بسيوفِ أَو بأسلحةِ، لا بدباباتِ أَو بطائرات حربيةِ، كما يكون رْبحُ المعارك هنا على الأرضِ لتَبرير تعاستِنا، بل بالأحرى بإنسانِ واحد، مُحطّمَ على ذلك الصليبِ. ذلك الإنسانِ الذي كما غَفرَ لبطرس والمرأة الزانية والمجدلية ولعديد من الآخرين … يَطْلبُ بتواضع من الأبِّ المغفرة ليعلمنا أن العذوبة والمحبّة ممْكِنُ أَنْ يَفعلا أكثر مِنْ الكبرياء، أكثر من إذلال الآخرين، من السوط ومن الاكتفاء بالذات والغطرسة.
ليعلمنا أن الشخصِ النبيلُ والحكيم والمقدّسُ يُعرف من قبل بساطتِه وتواضعِه ولَيسَ بالصُراخ أَو بالممتلكاتِ الدنيويةِ، وأيضاً بنوعيةِ قبولِه للألم ولَيسَ بجَعْل الآخرين يَقاسون.
كلا، ليس هناك رحمة لَهُ. لَكنَّه يَطْلبُ الرحمةَ من أجلهم، لنا جميعاً، رجال ونِساء، مِنْ آدم وحواء حتى الإنسانِ الأخيرِ الذي سَيَولد قبل نهايةِ العالمِ.
أنه يَعْرفُ بأنّه ستولد كنيسة مِنْ هذا الألمِ العميقِ. هذه هى الثمرةُ العظيمةُ واللذيذةُ، النتيجة السعيدة لمزيجِ الماءِ والدمِّ اللذان سيَتدفّقانِ حالا مِنْ جنبِه المفتوحِ, ثمرة حبِّ من يَتْركُ وصيتان تُلخّصانِ الوصايا العشَر المُعطاة مِن قِبل أبّيه إلى موسى على الجبلِ الآخرِ، جبل طور سيناء.
إن حفظتم هاتين الوصيتين, سَيَسْكبُ نهر الرحمةِ عليكم بالكامل وستنجون. هناك شرط وحيد لنَيْل تلك الرحمةِ ” أن تُحَبَّ الرب فوق كل شيء وأن تحب جارِكَ كنفسك”. أنه لم يجئ لإلْغاء شريعة الأنبياء بل بالأحرى لإتْماْمها. حياته بالكامل لم تكن سوي إنجازِ النبوءاتِ التى كَُتبَت عنه في الأزمنةِ الماضية، قبل الحبل به في الرحمِ الطاهر لعذراء صغيرة …
نحن كبشر كان عِنْدَنا مثل هذه الصعوبةِ لتَقْبلُ عشْرة قواعدَ كبديل لكثير من الحبّ، لعديد من البركاتِ، لموهبة الحياةِ، لحريةِ الاختيار … حتى أن الرب بنفسه قرّرَ أَنْ يُتجسّدَ مِنْ رحم بشري ليُرينا ذلك، نعم، أنه بالإمكان حفظ تلك الوصايا.
لكن لكون بؤسِنا وأنانيتِنا عظيمان جداً، فأنه أَخذَ خطوةَ واحدة على نحو إضافي لصالحنا. لقد قرّرَ تَسهيل الأمور لنا أكثر. أنه يَقُولُ لك ” أقرُّ بأنّك لك أبُّ واحد، هو من يَجِبُ أَنْ تَحبَّه قبل كل راحتكَ، قبل كل شيء, قبل كل أحبائكَ، قبل كل سلطة وكرامة وملذّات قد يقدمها لك العالم، وعامل الآخرين كما لو أنَّهم هم أنت نفسك. أحبهم بنفس قدر الحبِّ الذي تَحبُّ به نفسك وليس أقل. أعطِ الرجالَ والنِساءَ الاحترام والاعتبار الذي تَطْلبه مِنْ الآخرين. كنُ قادر على إعْطاء كُلّ ما تَطْلبُه لنفسك ولا تفعل للآخرين ما لا تريدَه أَنْ يفعلوه لك …”
أنّ ذلك سهلِ، بسيطِ، لدرجة أنه حتى الأطفال والجُهلاء بإمكانهم أن يَفْهمونَه.
أَعْرفُ يا أخوتي وأخواتي بأنّ عند هذه النقطةِ فى قراءتكِم، لَنْ يكُونَ هذا سهلَ. أنه ليس مشروعَ صغيرَ أن تُفصل النفس عن كُلّ شيءِ لمصلحة الآخرين. أن ذلك لأمر بطوليُ! ذلك كل ما يدور حوله الباحثُون عن القداسةِ وكل المُعَمَّدون يَجِبُ أَنْ يُجاهدوا كي يَكُونوا قدّيسَين.
إذا كَانَ لديكم الشجاعةُ للمُوَافَقَة علي ذلك، لا تسْمحُوا لأيّ شئِ أن يُعيق طريقِكَم. أنكم سَتُواجهُون لحظاتَ فيها الكثيرَ من الظروف وكثير مِنْ الأشخاصِ, أحباء وغير أحباء، معروفين ومجهولين، من نفس ديانتكم ومِنْ ديانات أخرى، من بَلَدِكَم ومِنْ أراضي أخرى, سَيُحاولونَ إيقاْفكم. فى هذه اللحظةُ تكون فضيلةُ المثابرةِ ضروريةُ جداً.
كيف ستَفعلون ذلك…؟ لديكم الضمانُ أن السيد المسيح تَركَ لكم كنيسة لترْشدكم عندما لا تَعْرفُون فى أَيّ طريقَ ينبغي أن تسلكوا، لترَفْعكم عندما تَسقطون، لتغُفْر لكم في اسمِه، لترحب بكم عندما تَنْشدُون ملجئاً لنفوسكم، لتَشكلكم بكلمتِه ولتَغْذِيكم بجسدِه ودمِّه … لكي تستطيعوا أَنْ تُكونوا امتداد له, علامة ظاهرة عنْ حضورِه الحيِّ لكي تستطيعوا أَنْ تُشعوا بتلك النقاوةِ والتألقِ. ذلك هو طابعُ شهودَه، أولئك الذين تَلقّوا شرارة نوره ومحبِّته.
إن استحقاقاتنا لا تَستطيعُ إنْقاذنا لأننا ليس لدينا أيّ استحقاقات مقابل ضخامةِ القدرة الإلهية. نحن لَنْ نُنقَذَ لأننا كُنّا أباءَ وإخوةَ وأخواتَ وأبناءَ وبناتَ أَو أصدقاءَ صالحين. إن ذلك هو التزامُنا. نحن سَنُنقذُ لأن المسيح أحبنا وسَيحبنا ويَنتظرُنا أن نقبله في حد ذاته. إن هذا الحبِّ باستحقاقاتِه اللانهائيةِ فاز لنا بالمغفرة. لقد طَلبَ هذا مِنْ أبّيه من على الصليبِ.
كثير من المرات يكون لومَ ضميرِنا عظيمُ جداً لكوننا اقترفنا إثماً أَو لكُلّ العمر الذى عبر فى الخطيئةِ، بأنّنا لا نَستطيعُ تَصْديق أن الرب يُمْكِنُ أَنْ يَغْفرَ لنا، بأنّه فازَ لنا بالفعل بالمغفرة، مُسمّراًَ على صليبِ الحبِّ …
قالَ السيد المسيح بأنّنا عندما نَطْلبُ المغفرةَ عن آثامِنا بينما نصلّي أبانا الذى فى السموات …. فلنَتذكّرُ أنّه كَانَ قادر على طَلَب المغفرةِ لنا لأنه لمَ يشَعرَ بالمرارةَ ضدّ أي شخص …
النفس البسيطة والمتواضعة هى فقط القادرة على طَلَب المغفرة عن إهاناتِ الأعداء. إن ذلك يَستلزمُ مزيد من القوّةً والاستسلام، يستلزم ذلك نَزْع الغرائزِ الأساسيةِ التي تَنْشدُ ما هو معتاد ألا هو الثأر واقتلاع الآخرين لمحاولَة البُرُوز، أَو حتى كي تبقي النفس فوق الماءِ …لكننا بالتأكيد مُلزَمون جميعاً أن نصفح عن الإهانات التى اُُقترفت ضدّنا بنفس القدرِ الذي نُريدُه من الرب أن يغُفْر لنا به.
إن قُلُنا أنّنا نَغْفرُ لهم، لكن لا ننْسي، فنحن نَطْلبُ من الأبّ أن يفعل نفس الشئ مَعنا. إن كنا نَغْفرُ من القلب لأولئك الذين أهانونا، وعندما نَصلّي، نَسْألُ الرب لأجل الغُفْران لنا كما نَغْفرُ لهم، فأننا في تلك الحالةِ، نستطيع أَنْ نَلتمسَ أن يَمْنحُنا الرب رحمتَه لكوننا تَصرّفنَا برحمةِ.
بعد ذلك قال لى السيد المسيح: ” إن قلبي مُعذّبَ بالألم، أنني أشَعرَ بالشفقةِ على الإنسان الأخر الذى كان يَقاسي بجانبي. لقد أستمر الإنسان المَصْلُوب علي يمينِي، ديماس، المُسمّي اللصِّ البار” بمُرَاقَبَتي بشفقةِ، هو الذي كَانَ يَقاسي أيضاً.
بنظرةِ واحدة، زِدتُ الحبَّ في ذلك القلبِ. آثم، نعم، لكنه قادر على الإحساس بالشفقةِ الحنونةِ على إنسانِ آخرِ. ذلك الخاطئِ، قاطعِ الطريق الذي علّقَ على صليب، كَانَ مجدلية أخرى، متي آخر، زكا آخر … خاطئ آخر كَانَ يَقرُّ بى كابن الرب, ولِهذا أردتُ أَنْ يُرافقَني نحو الفردوسِ فى ذات نفس المساء، ليكون مَعي عندما أَفْتحُ أبوابَ السماءِ لدخولِ الأبرار.
تلك كَانتْ مهمّتَي وتلك هى مهمّتُكِم: أن تفَتْحوا أبوابِ السماءِ أمام الخطاة، أمام التائبين، أمام الرجالِ والنِساءِ القادرين على طَلَب المغفرةِ، كي يَضْعون رجائهم على وجودِ الحياةِ الأبديّةِ ويَضِعونَ ذلك الرجاء بجانب صليبِي …
ديماس، اللصّ البار علي يمينِي وجيستاس، اللصّ الشرير علي يساري. الذي على يساري ممتلئ بالكراهيةِ؛ الذى على يمينِي، تَغيّرَ في لحظةِ بسماعي أَقُولُ تلك الكلماتِ: أبّتاه، اغْفرُ لهم، لأنهم لا يَعْرفونَ ما يَفعلونَ .
ذلك الرجل أمام حضورِي الهادئِ، أمام ألمي، لكنه لَيسَ يائسَ, وجودي كحاملِ السلامِ أشَعرهَ بعديد مِنْ الأشياءِ تَنكسرُ داخله. لم يعد هناك أي موضع للكراهيةِ بعد. لم يكن هناك موضع للخطيئةِ ولا للعنفِ ولا للمرارةِ.
فقط القلب الصالح هو القادر على تمييز ما يَجيءُ مِنْ السماءِ. ديماس ميز ذلك. لقد كُنْتُ أَطْلبُ المغفرةَ لأولئك الذين كَانوا يَصْلبونَني. كُنْتُ أَطْلبُ الرحمةَ لخطاة مثله. وانفتحتْ نفسه الصَغيرةَ لتقبل تلك الرحمةِ.
لِهذا، عندما سْمعُ جيستاس، اللصّ الشرير، يَقُولُ بشكل هازئ لي إن كُنْتُ ابن الربَ فلأنقذ نفسي وأنقذهم. شْعرُ ديماس بمخافَة الرب. أنه يَعْرفُ أنّ حياتَهم كَانتْ بائسةَ، رديئة للغاية، يعرف أنّهم قد يستحقّون ألم أعظم مِما كَانوا يَجتازونه.
ذلك الخوفِ، ذلك التمييز للنور الذي كَانَ يَُشرق أمامه، جْعلُه يُجاوبُ “ألا تَخَاف الرب، أنت الذى تَقاسي تحت نفس العقوبةِ؟ وها نحن نقاسى بعدل، نَحن نستحقُّ ذلك بسبب أعمالِنا، لكن هذا لم يفعل شيءَ خطأ . ”
عند هذه النقطةِ، سَمحَ لى الرب أن أشَهدَ النظرةِ التي تَبادلَها مَع اللصِّ البار, لقد كانت نظرة امتنان، نظرة مغفرةِ , نظرة أبّ مسرور مِنْ الرَدِّ المُعطىَ مِن قِبل ابنه. هناك الآن مشهد جديد أمام عيناي وفْهمُت أنّ السيد المسيح يَسْمحُ لي أن أشَهدَ ما كَانَ يَتذكّرُه، الذي حَدثَ ليس منذ عهد قريب، عندما بَدأَ يعَيْش بين تلاميذه … رأيت السيد المسيح يختارُ أتباعَه. واحداً بعد الآخر، يَنْظرُ إليهم بعمق، بمحبّة لكن بِحزم، بسلطة لطيفة، تلك السلطةِ الغير نابعة من أهمية الذات، وكان من ثمار هذه النظرة هذا الاقتناع أمام من لا يُستطيع أحد أَنْ يرْفضَه. ومن يَدْعوهم أن يتّبعونه.
عن تلك الأيامِ، قال لى السيد المسيح : ” لقد أردتُ أنّ يَكُونوا تلاميذي، إخوتي، أصدقائي. أن المرء يَختارُ أصدقائَه وأنا اخترتُ خاصتي … كَمْ عديد من المرات يَجِبُ أَنْ أَجْلبَ السلامَ بينهم لأعلّمَهم قيمةَ الصداقةِ! أنى أُحاولُ حتى اليوم تَعليم البشر معنى الجماعةِ والحبِّ المنشود في هذه العلاقةِ مِنْ الصداقةِ مَعي ومَع كُلّ الآخرين.
لقد أحببتُهم ليس فقط كإله ولكن كإنسان أيضاً. استطعت أَنْ أَتحدّثَ مَعهم، استطعت أَنْ أَمْزحَ مَعهم، وفي الواقع، فعَلتُ ذلك … عندما كُنّا نَنزل النهرِ للسباحة، مَزحنَا ورَششنَا كُلّ منا الآخر بالماءِ كالأطفالِ الصِغارِ. كُنّا نَلقي بالحصى، كأننا في مسابقة، وكنا نحتفل بالتصفيقِ والضحكِ بالحصاة التى تبتعد أكثر .
كنا نتسلق الأشجارَ، كأيّ شبابّ. كنا نَتسابقُ، نتسلّقُ التلالَ للصَلاة أَو لنتناول وجباتنا الخفيفةِ والبسيطةِ. اشتركنا في الحكاياتِ والضحكِ، كما يفعل كُلّ الرجال عندما يحيون في جماعةِ. لَكنَّنا كنا ننهي دائما تلك الاجتماعات بصلاة الشكر للأبِّ لأجل السَماح لنا أَنْ يَكُونَ لدينا تلك اللحظاتِ. رغم ذلك، كانت هناك أيام لم يكن لدينا فيها وقتُ حتى للأَكْل، وهي لم تكَن قليلة، لَكنِّي حاولتُ دائماً أَنْ أعْمَلُ عملُهم كي يستطيعوا أَنْ يُقدّروا مثالَي. طعامي كَانَ أَنْ أعمَلُ إرادة أبي. ذلك كَانَ هدفَي، راحتي، سعادتي … لقد استطعت أن أعلمهم وأن أَستمعَ لاهتماماتهم وأسرارهم. وعلى الرغم من أنَّي فَحصتُ أعمق أفكارَهم، إلا أني أحسست بالسعادة لكونهم أرادوا جعلي جزء من صداقتهم. من ناحيتي، أعطيتُهم الكثير من الحبّ والصبر والتعاليم والالتزامات … كُلّ ما يُمْكِنُ أَنْ يُعطي إلى صديق … لكن، لم يكن ذلك كافيا، كان لا بُدَّ أنْ أبذل حياتَي من أجلهم ولَمْ أُتردّدْ أن أفعَل ذلك, لِهذا ها أَنا مُسَمَّرُ ومُعذب على هذا الصليبِ، من أجلهم، من أجلكم جميعاً …”
إلهي، كَمْ من ألم وكَمْ من حبّ! لقد رَأيتُ دمعتان تَنْزلانِ مِنْ عيني السيد المسيح وأنى لكُنْتُ أَهِبُ حياتَي لأن أجففهم بشفاهِي. تلك الدموعِ مليئة للغاية بالألمِ وبالحبِّ! ذلك عندما فَهمتُ بأنّ لا أحد يستحقُّ مكافأة السيد المسيح. ولا حتي تلاميذه وأصدقائه فى تلك الأيامِ كانوا يستحقّْونها، ولا حتي نحن اليوم نَستحقُّها.