كتاب من سيناء إلى الجلجلة – شهادة كاتالينا

7٬516

الكلمة الخامسة
“إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟”

كَانَ وجه يسوع شاحبَا جداً، الناحية أليسري مشوّهة بالكامل بعينِ مُغلقةِ بالكامل بسبب ورمِ صدغه وجفنِه, لقد كان الضرب الذي تَلقّاه بغاية القسوة، حتى أنه فَتحَ عظامَ خدّه. لقد بَدا جرح وجهه مثل فَمّ مفتوح لدرجة أنه سَمحَ برؤية لحمِ ابن الربِ!
لَمْ يَفْتحْ يسوع شفاهَه، لَكنِّي استطعت أَنْ أَسْمعَه. سَمعتُ كلماتَه الموجّهة إلى الأبِّ. أنها كَانت خليط من الحبِّ والشكر، خليط من الاستسلام والضعف، خليط من الألم والوداعة … شَعرتُ بأنّ قلبَي قد سُحِقَ بالحزنِ.
“أبتاه، أنْظرُ إلي … كشمس كَُسفَت باختيارها! لقد سَمحتَ لي أن أشُرْب الكأسِ المرِّ لليلِ الروحِ المُثلج وها أنا أَعطيك الشكرً لأجل هذا.”
بعد ذلك خاطبَني قائلاً: ” في هذا الألمِ العميقِ الذي يُسبّبُ ازْدياَد ظلمة بصري لدرجة أنّني لَمْ أعُدْ أَستطيعُ رُؤية تلك الكائناتِ التي أَحبُّها بوضوح, أولئك الذين مكثوا عند قدمِي مُتألمين، أَعْرفُ بأنّ الحبِّ غلب، أعرف أنّه سَيَغلب إلى الأبد.
كما ترين، يَبْدو أنه لم يكن كافيا أن أعُبُر هذا العالمِ فْاعلا الخير لكُلّ شخصِ. لقد سلكت كل الطّرق حتي نهايةِ الحبِّ. لقد بذلت الحياةَ حتى النقطة التى أوصيتُ بها سابقاً: ‘ ليس لأحد حبُّ أعظمُ مِنْ أن يبذل أحد حياتَه من أجل أصدقائِه. ‘ ولقد بذلت حياتي أيضاً حتى من أجل أعدائي، من أجل أولئك الذين كَانوا يَصْلبونَني …
بالتأكيد أنا لَمْ أُفقد الثقةَ في أبي بسبب ذلك الحبِّ الغير محدودِ الذى أكنه له, بالتأكيد أنني في وسطِ معاناتي التى لا تدركِ، غمرني فرحِ هائلِ لكوني كُنْتُ أُنفّذُ إرادتهَ، وهكذا، برهنت على محبَّتي لَهُ ولكُلّ البشرية.

إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟

أعطاَني الرب نعمةَ هائلةَ أنْ أكُونَ قادرة على تَأَمُّل تلك اللحظةِ. حَدثَ ذلك بهذه الطريقة:
كُنْتُ في الصلاةِ وعينِاي مغَلقة أمام مذبحِ بسيطِ في غرفتي حيث عِنْدي صورة المسيح المصلوب، صورة العذراءِ المقدّسةِ وعلبة بسيطة بها رفات بعض القديسين. فَتحتُ عينَاي وأمامي كَانَ شيء آخر. ذلك المكانِ لَمْ يَعُدْ هناك بعد، لكن بدلاً مِن ذلك، كُنْتُ أَنْظرُ إلى سماء مُظلمة، برق يدوي برعدِ قوى وثلاث رجالِ مَصْلُوبينِ.
اقتربَ المشهدُ أكثر حتى بدا أنه على مسافة مترينِ تقريبا مِنْ حيث كُنْتُ أقف، والمشهد شَملَ السيد المسيح المُتألم فقط أمامي. لقد كَانَ بغاية القُرْب لدرجة أنني مُدِدتُ يَدَّي. لكن عندما أدركتُ أنّني لا أَستطيعُ أَنْ أَصِلَه، فَهمتُ أنّها كَانَت مجرد رؤيةً.
لَهثَ يسوع واستطعت أَنْ أَرى أنّه كَانَ يَبذل مجهودَ ليتنفس. هذا أَعْلمه جيداً، لكوني عشَت ذلك عديد من المراتِ … عينيه جاحظة ومفتوحة على أتساعها، الفَمّ جاف جداً بِحيث أصبح كُلّ مرة يجد المزيد من الصعوبةً ليصوغ الكلماتِ.
بَدأَ يتنهّد بأنفاس سريعة‏ والدموعِ الداميةِ كَانتْ تسيل على خديه المجروحين عندما قالَ ناظرا نحو السماءِ، “أيلي، أيلي … لما شبقتني …؟ “
لم أَستطعُ أَنْ أَتحمّلَ ذلك وواكب تَنهُّدي سْكبُ مثل هذه الدموعِ التى سكبتها نادراً جداً في حياتِي. بعد ذلك سَمعتُ صوتَه داخلياً: ” ابنتي العزيزة، هناك عديد مِنْ الصفحاتِ كَتبتْ عن هذه الكلماتِ التي تَبْدو أنها تعْطي فكرةِ بأنني شَعرتُ في تلك اللحظة، كإنسان، بأنّني تُرِكتُ مِن قِبل أبي. أن تلك الكلمات تعني أكثر مِنْ ذلك بكثير. تذكّرْي بأنّني مِنْ الصليبِ، كُنْتُ أَنْظرُ على مدى الأزمنة العتيدة أن تجئ وعلي كل الرجالِ والنِساءِ الذي سيَعانونَ: البعض لأنهم اختلقوا صلبانَهم وآخرين بسبب صلبانَ فُرضت عليهم مِن قِبل إخوتِهم، وهم لا يستطيعون حَمْلها…

في ذلك النداءِ، تَذمَّر‏ت على تركِ كُلّ الإنسانية على طريق الصليبِ. لقد شَعرتُ في جْراحُي بالجراحَ الغير محدودة لكُلّ الأجساد التي سَتتعذّبُ بالجوعِ والبؤسِ. ملايينُ من الأصواتِ أتحدت بصوتي قائلة ‘ إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ ها أنا أَمُوتُ جوعِا، بينما هناك أشخاص يموتون من التخمة… إن حياتي صوم مستمر وإجباري بينما هناك أشخاص لا يَعْرفونَ ماذا يعني الصومِ مع أنهم يَدْعونَ أنفسهم مسيحيين …!
لقد شَعرتُ بالجراحَ التي يعانيها المَصْلُوبينِ نتيجةَ الظلمِ والقسوةِ على مدى الأزمنة بعيدا عن أوطانهم، الذين يُبعدون إلى أماكن الإيواء. لقد شَعرتُ بألأم جراحِ أولئك المُزدَرى بهم والمَرْفُوضِين والمحتقَرين‏ من قبل ذويهم الذين أَرسلوهم إلى تلك الأماكنِ تحت تأثير أنانيتِهم … وتلك الأصواتِ الصامتة وحّدتْ نفسها بصوتي, قائلة : إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ أنك لَمْ تَخْلقْ الحدودَ. أنت لَمْ تَصْنعْ السجونَ. أنت لَمْ تُردْ مجتمع من قلة غنية وآخرين بكثير من التهمّيشِ …
في ذراعي ورجلِي أحسستُ بالألمَ الذي يشَعرَ به المُعاقينِ. في رأسي، أشعرتني الأشواك بما يعانيه ناقصي العقل أَو المرضَي الذين يُهانون عديد مِنْ المرات من قبل رفضِ حتى عائلاتهم. إن صراخ هؤلاء الناسِ اتحد بصراخي قائلين ‘ لماذا تَسْمحُ لهم يا أبّي أن يسُخْرِوا مِني، أن يهمشوني، أن يغلقوا علي الأبواب، إنه لم يكن خطأي أَن أكون في هذه الحالةِ …؟ ألا يَعتقدون بأنّهم كان ممكنُ أَنْ يَكُونوا مثلي ويَحسّون بنفس شعوري؟
لقد شَعرتُ في قلبِي بالألم الذى يَشْعرُ به شخصَ مسنَ عندما يُهمَل من قبل ذويه وكذلك من قبل الآخرون عندما يُتركُ في بيوت المسنين تحت رحمة المشرفين وأيدي الغرباءِ. متروك لأن يديه لم تعد قادرة الآن على العَمَل كي يَطعم عائلتَه أَو لأن أصدقاءَ أولاده وأحفادِه لا يَستطيعونَ أَنْ يَفْهموا إمكانيات الشخصِ المسنِ.

أنهم متعبين بالفعل من عدم منعه من الكَلام، لأنه قد يَقُولَ أشياءَ غير ملائمةَ، لأن ذاكرتَه لَمْ تعد تعملَ … في بَعْض الحالاتِ، يقتلهم أشخاص “رحماء” يشفقون عليهم كي يَوقّفوا مُعَاناتهم. وحينئذ تتحد أصواتهم مع صوتي قائلين ‘ إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تَسْمحُ لمن علّمتهم يداي ذات يومٍ أن يمَشوا، أن يلْقوني في الشارعِ؟ لماذا تَسْمحُ للآخرين الذين كنت سبب مكانتهم الحالية أن يشُعُروا بالاشمئزاز من فقرِي ومن ملابسي القذرة؟ أنهم يُذلونني، يَتباهون بشبابِهم وبغناهم. لماذا يريد ابنِي أنْ يطبق على موت الرحمةَ ليقصر أيامِي ويَزِيد من دينونته في الجحيم؟
لقد أحسستُ في بَشَرَيتِي بالإحساس الحْارِق لكُلّ أولئك الذين سَيُحجّمونَ لأنهم ينتمون إلى جنس مُعين وأنه لنفس السببِ، سَيُجبَرون أن يضْعوا أنفسهم في نفس شروطِ الكلاب, حيث التجوال مقيّدُ لأجزاء معيَّنِة فقط من البيتِ. إن أصواتهم، ممتلئة بالعجزِ والألمِ، تصْرخُ بجانب صوتي : إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تَسْمحُ لإنسانِ آخرِ، َرُبَّمَا يكون أكثر شرّاً مِنْي، رُبَّمَا يكون غير مخلص أكثر، رُبَّمَا يكون أقل ذكاء، بغرائز أكثر شبها بغرائز الحيوانات أكثر من كنوها تشبه غرائزنا، أن ينزل نفسه مِنْ حالتِه الإنسانيةِ وأن ينزلني مِنْ حالتِي كإنسان لأنني ليس لدي بَشَرَةُ مثل بشرته؟
لقد أحسستُ بحزنَ كُلّ أولئك الرجالِ والنِساءِ، الذين عند لحظة موتِهم، يَجِدون أنّهم كَانوا مخطئينَ. بأنّ حياتهم كَانتْ ضياع مستمر في الخطيةِ، في الملذّاتِ وفي رفضِ الرب وبأنّ دينونتهم وشيكةُ … لأنهم خسروا الأبدية، قايضوا بها لكونهم عاشَوا بطريقَتهم الخاصَة عدد من السَنَين! يا له من ألم! …
بيد أنّي أحسستُ بألمَ أولئك المسيحيين الذين يكتشفون أيضاً، عند لحظة موتِهم، أنّهم كَانوا غير محقّينَ: لكونهم صدّقوا وأرضوا أنفسهم وعِاشوا بافتراض أنهم مسيحيين صالحين، بمعنى آخر، أنهم مارسوا عديد مِنْ الأمور لكن أهملُوا أمور عديدة آخري. إهمال نقل معرفتِهم إلى الآخرين، معتقدُين بشكل أناني أنهم يُنقذَون أنفسهم، متجاهلُين ما يَحْدثُ لجيرانهم الذين يَعِيشُون بدون أي معْرِفة عن الرب. وكلتا المجموعتين مدانة, أولئك الذين لَمْ يُريدوا معْرِفة الرب, وللذين امتنعوا عَنْ إشراكهم في إيمانِهم، لكونهم لم يكونوا من حاملي الرجاء للباقين!

لقد أحسستُ في كُلّ سنتيمتر فى جسدِي، بألم كُلّ طفل قَتلَ داخل جسدِ أمِّه. وبراءتهم انضمّتْ إلى صيحتِي مِنْ انعدامِ قوّتي البشريِة صارخا: إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني؟ لماذا تُجيزُ لهذه المرأةِ، التي تستطيع أَنْ تَحْتضنَي في ذراعيها، أن تدفّئُ جسدَي الصغيرَ، أن تحُكْم علي بألا أري نور النهار وتحُكْم على نفسها بألا ترى نور السماءِ؟
هكذا، متأمّلا جراحَي وجراحَ الإنسانيةِ، فكّرتُ فى يهوذا وفى كُلّ الخونة، وأيضاً، فى كُلّ الذي سَيُخانوا من قبل أصدقائَهم، مُباعين بثلاثين قطعة نقود من جهنم : من أجل موقف اقتصادي أفضل؛ من أجل مقايضة لسلطةِ أكثرِ، لكي يَسْمحَوا لكبّرِيائهم بالظُهُور على السطح؛ من أجل الحسدِ الذي ممْكِنُ أنْ يُرْوَى فقط بتَكذيب الشخصِ المحَسودَ؛ من أجل الطموحِ لامتلاك ما لا يُمْكن أنْ يُمتَلكَ …
بعد ذلك أحسستُ بنداءَ أولئك الذين يَشْعرونَ بقبلةَ الخيانة على خدِّهم، كرائحة كريهة، كما أحسستُ بقبلةَ من كان ذات يومِ أَخَّي الحبيبَ. في تلك اللحظة صَرختُ بكُلّ قوّتِي ” إلهي، إلهي … لماذا تَركتَني ” ؟
إن الرمز الأكثر جدارة بالإعجاب في الإنسان فيما يتعلق بإنسانَ آخرَ، هو ألقدره على الإحساس بأنّ ذلك الأخر لهو صديق قَريبِ بما يكفي أن يَتلقّى مِنْه النصح أَو التحذير بحبِّ، عالما بأنَّ المرء يعطي ذلك بحبِّ إلى الصديقِ إلى حدّ القدرة على تَقويمه بإخْباره، ‘ لَيسَ ذلك الطريقِ يا أخي، لأنك فى طريقك لارتكاب خطأ ‘ وإلى حدّ القدرة على فَهْم أحدكم الآخر بنظرةِ واحدة، بابتسامة وأنْ يَكُونَ كل منكم قادر على دَعْم الآخر من خلال المصافحة التي تعْني، ‘ها أَنا هنا، يُمْكِنُك أَنْ تَعتمدَ علي دائماً ‘.

الصديق هو الذي يُزعجُ نفسه، الذي يَحْرمُ نفسه مِنْ شيءِ أَو من عديد مِنْ الأشياءِ ليقدمها لك. الصديق هو الذي يَتخلّى عن وقتَ راحته من العَمَل من أجلَك. الصديق هو مَنْ يَسْتَطيع فى لحظة أن يَتخلّى عن راحةَ بيتِه لِكي يَجْعلَك تَبْدو مرتاحَ ومحبَّوب ويقدّرَك حق قدرك. الصديق هو ذلك الذي يَتْركُ أرضَه ليسَاعَدَك فى إنقاذ أرضك. الصديق هو الذي تعْهدُ إليه بحُزنَك وبفرحك، أنه صريح دائماً مَعك ويأْخذك دائماً نحو النمو في الإيمانِ وفي محبِّة الرب. الصديق هو الذي يَبْني، الذي يَوحدُ، الذي يَجمّعُ … لَيسَ الذي يُمزّقُ، الذي يُحطّمُ، الذي يُسقطُ، لكي يستطيع أَنْ يَجْلسَ على قمةِ الأنقاضِ. الصديق هو الذي يَبذل حياتَه من أجل أن ينْقذك … كما فعلت أنا .
ولأني أَنا صديقُ البشر، كل جرح مِنْ هذه الجروحِ هى جراحي التى نلتها، أنها تثيرُ شفقتَي وتدْفعَني للبَحْث عن الدواءِ المناسبِ. أَقْصدُ أن أقول بأنّني لدى ذاكرة جديدة وواضحة جداً عن كُلّ ظلم، عن كُلّ إهانة، عن كُلّ ‘ قبلة زائفة ‘، عن كُلّ إذلال …
كلا، أنى لا أَنْسي الذين تنسونهم أيها البشر! أن أصغي لمن لا تصغون إليهم لأن ضجيجَ نفوسكم يَمْنعُكم من امتلاك السلامِ للإصغاء للآخرين ولفَهْم ما تُعنيه تصرفاتِهم، بغض النظر عن كَمْ غيْر منطقيين‏ قَدْ يَبْدونَ لكم!
أنى أَضِعُ بشكل حلوّ في قلبِي القدّوسِ، أولئك الذي تَتْركُونهم متروكَين بقسوة على الطريقِ، أولئك الذين تَفترون عليهم، أولئك الذين تُدمّرُونهم مُحَاوَلَين بُلُوغ ما يمتلكونه، ألا وهي التطويبات ! “

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.