كتاب من سيناء إلى الجلجلة – شهادة كاتالينا

7٬707

الكلمة السابعة
أَبتاه، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي!

بعد أن تَأمّلَت فى كلمةِ يسوع السابقةِ على الصليبِ، فْهمُت بأنّ الصليب سَيَتْبعنا جميعاً كمسيحيين، كما لو أنَّه جزء من وجودِنا. لَكنِّي حُذرت أيضاً بأننا لَسَنا جميعا قادرون على اليقظة، على دَفْن يسوع الذي سيَظْلُّ نائماً داخلنا.
يَعِيشُ العديد مِنّا معتِرضاً على الصليب سواء كان صغيراً أَو كبير، معتقدُين بأنّ نصيبنا من الحياةِ هو النصيب الأكثر حزناً، الأكثر ألماً، أنه ليس أحد سوانا قادر على حمله … وأسوأ شيءِ أننا نعتقد أنّ الرب قد تَخلّى عنا وأنّه لا يَسْمعُنا، أَو أنّه غاضبُ مَنا.
لَكن الأمر لَيسَ كذلك. يَقُولُ السيد المسيح بأنّ المعرفةَ التي لديه عنّا، خصوصاً عن الأكثر حزناً منا، أولئك الذين يتحمّلُون أكثر، الأضعف، تجْعلُه يَحبُّ بالأكثر الأفقر وأولئك الذين يَحتاجونَ إليه أكثر.

لو أدركنا حقيقة أنّ الأشخاصِ الأكثر احتياجاً ليسوا بالضرورة هم أولئك الذين في فقرِ، بل هم عُموماً أولئك الذين لديَهُم كُلّ شيء ماعدا الرب؛ حينئذ، ستقودنا طرقنا إلى أولئك الأشخاصِ الذين، بالرغم من غناهم، إلا أنهم في الحقيقة في عديد مِنْ الحالاتِ، أفقر.
ليس من الصّعبِ الوصول للفقراء ولا نُصْحهم بأن يضْعوا ثقتهم في الرب، فأن هؤلاء الأشخاصِ عادة ما يكون لديهم قلبَ مفتوح جداً نحو الإيمان. وببضع كلمات أَو بأي بادرة بسيطة مِنْ الحبِّ يكون فيها ما يكفي فى أغلب الأحيان لإظْهار الطريقِ لهم إلى الأبِّ. الذين من الصعبُ عليهم أَنْ يتغيّروا َهم أولئك الأشخاصِ الذين عِنْدَهُمْ كُلّ شيءُ، أَو الذين جعلوا من الخطيةِ سببَ لحياتِهم واقتنعوا بشكل مباشر بأنّهم لَيْسَوا بحاجةُ لأي شئ آخر.
هذا العملِ هو الأصعب للمبشرين. عندما يُواجهونَ الكبرياءِ، أنه مثل التعامل مباشرة مَع رئيس هذا العالم الذى يختبّئُ بمكر داخل بَعْض الناس الفقرِاء على الرغم من كونهم أغنيُاء، لكنهم في حاجةِ أن يحبوا الرب.

كم هو مفيد لنا أن نتأمّلُ من وَقتٍ لآخَرَ، على آلامِ السيد المسيح، على حُزنِ العذراءِ الكلية القدّاسةِ، التي قَاست بجانبِه استشهادَ الشهدِاء، برؤية ربها وابنَها مسمّراً على الصليبِ فى الجلجثةِ من أجل البشر.
وعلى الرغم من ذلك، فهي تَستطيعُ أَنْ تَتْركُ لنا أعظم الشهاداتِ، لأن بحبِّها اللانهائيِ وطاعتِها المُطلقةِ للأبِّ، تَحمّلتْ بتواضعِ الألمُ القاتل, برُؤية ابنِها يموت وسط الآلامِ المروّعةِ. علاوة على ذلك، تَرأّستْ البشرية، وصارت أمَّنا. بكلمة أخرى، اختارتْ طوعاً أَنْ تُظهرَ فينا حبِّها لأبنِها. لقد كَان عليها أَنْ تَعاني كخاطئة بجانب ابنِها، مع كونها بريئة مثله وكُلّ هذا، كي تتحقق فيها إرادة الأبِّ أيضاً.
قال السيد المسيح أنّه بسبب هذه اللحظةِ المأساويةِ اعتبر القلبان متّحدان كُلّ منهما بالآخر. لأنهم اتّحدا مع بعضهم البعض من خلال الألمِ, لقد كانا قلباً مجروحاً واحد في الجلجثة؛ كانا قلبان اندمجا معا لكي يحوّلا أنفسهم إلى قلب واحد؛ يشعر كل منهم بمعاناة الآخر، قلبِ واحدِ يحس بالحب لأجل طَاعَة الأبِّ، ومن أجل خلاص البشر.
أنى أَرى نفسي مرغمة أن أَوضح شيئاً للقارئَ، قَدْ يَبْدو في بادئ الأمر ذو أهميَّة قليلةَ، لكنه مع ذلك، يَتضمّنُ تعليم حاسم مِنْ الرب لنا جميعاً.
عديد مِنْكم يا إخوتي وأخواتي الأعزاء، لا بدَّ وأنْ يتَعجّبَ لماذا تظهر قائمة الوصايا العشرةِ المُعطاة إلى موسى على الغلافِ الأماميِ لهذا الكتابِ. لكي أقربَ الموضوعَ، يجب أولاً أَنْ أَجْعلَ الأمر واضحاً لكم أنّني لم أختار عنوانَ أيّ من هذه الكُتُبِ. وكي اختارَ الغلاف الأمامي، تنَشْغلُ مجموعة الصلاة في صلاةِ حارة، نطْلبُ مِنْ الرب مُسَاعَدَتنا في الاختيارِ.

قال لى السيد المسيح ذات مرة ” إن ظلمة العالمِ تقتربُ، لَكنَّ من يعيش مُحتضناً الصليبَ لَيْسَ لديه ما يخشاه. لذا، لا يَجِبُ على الإنسان أنْ يُقتَنعَ بالنظر فقط إلى صورةِ لي، أَو أن يذْهبُ إلى موكب الجمعة العظيمةِ. لَكنَّه يَجِبُ أَنْ يُحاولَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نفس مشاعرُي, أن يغُفْر كما غَفرتُ أنا له وأن يسُأل الصفحِ كما فعَِلتُ أنا له؛ أن يظل صامتِا تجاه التعليقاتِ الشائنة، كما فعلت أنا أمام بيلاطس، ومع ذلك، ينبغي أن يشعر بمثل هذا الحماسِ والشجاعةِ وأن يصبح قادراً على طَرَدَ الصرّافين خارج هيكلِ الرب بسوط؛ أن يحيا ليَعمَلُ إرادة الأبِّ كما فعَلتُ أنا؛ أن يُحب كثيراً لدرجة أن يَبذل حتى حياتَه من أجل الآخرين؛ وأن يسَمح لجسدِه أن يُسْحَقَ، وبفرحِ، أن يهْب نفسه كطعام، لكي يستطيع الآخرون أَنْ يَتغذّوا على ذلك الخبزِ.”
مباشرةً بعد صلاتِي بينما كنت أتأمّلُ، كُنْتُ أُفكّرُ فى موسى. أنى مُعجبة دائماً بمهمّتِه وبحياته … فجأة ذلك الفضاءِ, الذي ينفْتحُ عديد مِنْ الأحيانِ لكي يسْمحَ لي بمُشَاهَدَة مشهد بعيد، فَُتحَ أمام عينيي. كان أمامي مشهدَ التجلي، وبرؤيته تَسائلتُ: لماذا موسى وإيليا؟ اعتقدتُ بأنّ إيليا كان هناك لأجل قوّةِ “النبي الناريِ” التي يحتاجها يسوع كإنسان، لمُوَاجَهَة ما كان عليه أن يَحياه .

لكن رؤية موسى، أنا لم أَستطعُ أَنْ أَكتشفَ بمعرفتِي المحدودةِ، ما كان يَفعْله هناك. أحسستُ كما لو أنَّ النور التفَ داخلي، وضمن ما اعتبرُته بضع دقائق، تَحرّكَت أمامي عشرات من الصورِ، في مجموعاتِ, كل مجموعة تتكون مِنْ صورتان.
موسى يَخْرجُ مِنْ مصر وحده … وبعد ذلك السيد المسيح يعتمّدَ في الأردن.
موسى يَهْبطُ الجبلَ بعد أن تَلقّى مسؤوليةَ أَخراج شعبِ الرب من عبوديةِ فرعونِ … وبعد ذلك السيد المسيح يختارُ رسلَه الأثنى عشرَ، يعلم ويُشفي ويُسامح ويعيش بين شعبهِ.
موسى يُخرجُ شعبه من مصر … وبعد ذلك السيد المسيح يَعِظُ ويدعو إلى التوبة وإعلانِ ملكوت الرب على جبلِ التطويبات.
موسى يعبر البحر الأحمرِ … وبعد ذلك السيد المسيح يهب النظر للأعمى والنطق للأخرسِ والمشي للكسيح ويقيم المَوتى.
موسى يَأْكلُ مع شعبهِ المنّ الذي يرسله الرب مِنْ السماءِ ليحفظهم مِنْ المَوت جوعاً فى مسيرتهم نحو أرضِ المَوْعُد … وبعد ذلك السيد المسيح مَع تلاميذه، يتَعشّى لآخر مَرّة مَعهم ويَؤسس العشاء الربانى كي يَبْقى مَعنا، يَعطينا جسده ودمَّه كي يَغذّيانا ويُنقذنا مِنْ الموتِ الأبديِ.
لَكنِّي لاحظتُ بأنّ السيد المسيح، في تلك اللحظة، لم يكَنَ بمفرده مَع رسلِه، فَجْأة أصبحت الغرفة ضخمةً. لقد شملت كُلّ ما تستطيع عيناي أن تراه. لقد رَأيتُ مَعه بَعْض الأشخاص الذين يَجْلسُون علي كراسيِ المعوّقين بجانب الرسلِ، والباقين كَانوا يقِفون خلف السيد المسيح وتلاميذه, مِئات بل آلاف من الكهنةِ، يرتدون التونيات البيضاءِ والشالاتِ الحمراءِ. يمدّون أيادّيهم اليمنى تجاه المكانِ حيث كان السيد المسيح يَرْفعُ الخبزَ. لقد كَانوا يُرددون مَع الرب كلمات التكريسِ.

قال لى السيد المسيح : ” اعتنوا بإخوتِي، لأن من خلالهم سَأَبْقى مَعكم إلى الأبدِ.”
بعد ذلك رَأيتُ موسى ثانيةً على جبلِ سيناء، حافيا، كما طُب مِنه الرب. لقد كَانَ على رُكَبتيه، مرتِعدا بتَأَمُّل إصبعِ الرب يُدوّنُ الوصايا العشرةَ للبشر… وبعد ذلك، رَأيتُ السيد المسيح ثانيةً في بستان جثسيماني، على رُكبَتيه، ينَظْر آثامنا ويأخذها على عاتقه، يَتأمّلُ الألم الذي كَانَ عليه أَنْ يَتحمّلَه من أجلنا، رجالا ونِساءاً، مرتجفا بعرِّق دموي.
مرةً أخرى كَانَ العشاء الأخير أمام عيناي، السيد المسيح مَع رسلِه وكُلّ الكهنة الذين كانوا يُكرّرونَ معه كلماتَ التكريسِ. نظر نحوي يسوع للحظة وقُال لي: ” أَنا هو خبزُ الحياةِ، وهؤلاء سَيَكُونُوا من يَعطونَني للإنسان، كطعام للحياةِ الأبديّةِ.”
كَانَ جسدي يَرتعدُ بالكامل في تلك اللحظة، بسبب عظمة ما كُنْتُ أَراه وأَفْهمه. غَطّيتُ وجهَي بيدي وبكيت … وبعد بَعْض الوقتِ، ربما دقائق، التي بَدتْ لي كساعاتَ، رَفعتُ رأسي ورَأيتُ المشهدَ السابقَ ثانيةً.

رَأيتُ موسى يَرْفعُ راية عاليا بحية ملتفة، لكي يَشفي بها أولئك الذين لُدِغوا من قبل الحيّاتِ … وبعد ذلك رَأيتُ السيد المسيح، مرَفوعَ هناك أمامي على الصليبِ، لكي يَشفي نفوس أولئك الذين سَيُلْدَغونَ من قبل الشيطانِ ويتسمّموا بالخطيئةِ.
قال الرب لى : ” تذكّري ما أخبرتُك به في البِداية بأن أزمنةِ الظلمةِ تَقتربُ مِنْ البشريةِ، أزمنة سَتَهتز فيها المؤسساتَ ومَعها الشعب, كنيستي يَجِبُ أَنْ تعبر هذا الطريقِ المؤلمِ أيضاً، ولقد بَدأتْ عبوره بالفعل لأنه مكتوبُ: ‘ سَيَُضْربُ الراعي وستتشتت الخِرافُ ‘ … لكن تذكّري أنّني غلبت العالمَ.”
تَأمّلتُ العشاء الأخيرَ ثانيةً أمامي. تجلى وجه كُلّ أولئك الكهنةِ كوجهِ السيد المسيح. بعد ذلك كانت هناك ظلمةُ شاملةُ أمامي، وسَمعتُ صوتَ إلهنا حَزينَ جداً بينما يقول : “يهوذا، ما أنت فاعله، أفعله الآن …! “
عادتْ الصورة، لكن الآن مَع صورة أحد التلاميذ، أنصرف عديد مِنْ أولئك الكهنةِ، يُدفعون أحدهم الآخر، يركضون، لَمْ يَعُودوا بوجهِ السيد المسيح المضيء والهادئِ، بل بوجوهِهم الخاصةِ، ممتلئين بالحزنِ والألمِ.
مِنْ بعيد استطعت سماع الضوضاءَ الصَارِخةَ لآلاف الأصوات المجتمعة، كما لو أنَّهم كَانوا يَرْكضونَ نحو منحدر ويَسْقطونَ. بخوف حولت نظرَي إلى أولئك الذين كَانوا مَع الرب. بدوا كأنهم لا يسمعَون ولا يرون أيّ شئَ، هكذا كَانَ انغمارَهم فى صلواتِهم، انغمارَهم فى اللحظةِ التى كَانوا يَعِيشونَ فيها، أن سلام المسيح مَنحَهم علاقة ملوكية، مثل علاقة الأمراءِ.

فْهمُت بِأَنَّ هؤلاء الرجالِ المُكَرَّسينِ، الذين مكثوا مَع الرب، كَانوا أولئك الذين سَيَكُونونَ مخلصون للاختيار الذي جَعلوا لَهُ. وهم أولئك الذين سَيَدْخلونَ إلى تلك المرتبةِ الإلهية لأنهم استحقوا ذلك الحقِّ. هذا لأن هذا الحقَّ من ثمارُ الوفاءِ، والوفاء من ثمارُ العلاقة الوثيقة، من ثمار المودّةِ. المودّة هى من ثمارُ بذل الذات، وبذل الذات هو من ثمارُ المحبّة الباذلةِ، التي تُعطي دون أن تسأل عن أيّ شئِ بالمقابل، لسببِ بسيطِ أنها تنشد سعادةِ المحبوبِ.
أخيراً ذلك النوع من المحبةّ هو من ثمارُ معْرِفة ذلك الذي سَتَكُونُ مخلصا له بقيّة أيامك، بدون السَماح لأن تتَلاشي رغبةِ استنساخه داخل نفسك، أنها عطية بالكامل منه، من الذى استسلمت له.
تُوقّفتْ تأملاتي فجأة عندما سَمعتُ الرب يُطلق صرخته الأخيرةَ مِنْ على الصليبِ، بين أنفاس مرهقة، كُلّ مرة تكُونَ بعد فترة أبعد:

أَبتاه، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي!

في كتابِ “العناية الإلهية “، الذي نُشِرَ منذ فترة، كَتبتُ عن موتِ أمِّي والتعزيات العميقة التى تَلقّيناها جميعاُ نحن الذين كُنّا حولها أثناء مُوتها.
لأولئك الأشخاصِ الذين لمَ يقرئوا الكتابَ، أَذْكرُ بأنّه كَانَ موت سالم وهادئ وسعيد، لشخص يحْتَضر له ثقة تامّةُ في محبِّة الرب، لشخص مُتَلَهِّف للرحيل ومُلاقاة الرحمةِ، الذي كَانَ يَنتظرُها على الجانبِ الآخرِ مِنْ فراشِ موتها. لقد استمرّتْ فى سُؤالنا عن الصلواتِ والترانيم، بينما هي، بعينيها الزرقِاء الكبيرِة المفتوحة تكرّر مراراً وتكراراً طلب يسوع : “أبّتاه, فى أيديكَ أُستودعُ روحَي! “
بينما كَانتْ تَمُوتُ، واصلت التَفكير فى موتَ السيد المسيح. . . الآن يَسْمحُ الرب لي, أنا الخاطئة، أن أشَهدَ لحظةِ موت السيد المسيح وبوسائلِه أستعيدُ لحظة موت أمي. كلتا اللحظتين كانتا متحدتْين بقدرته الكليةِ، وفي محبِّته. بِضْع لحظاتِ مِنْ حياتِي سَتُكون دوما بغاية التأثير، وصعبة جداً للوَصْف. . .
في الجلجثة، كانت السماء سوداءَ تقريباً، الأرض كَانتْ تَرتعدُ وكُلّ الناس بْدئوا يرَكْضون، يهُرُبون. البَعْض يصُرخ في خوفِ برُؤية الطبيعةِ تتزلزلُ، وآخرون يَبْكونَ، يستجدون المغفرةِ قائلين حقاً كَانَ هذا الإنسانِ أبن الربَ.
قال لى السيد المسيح ” ها أنا أَرْجعُ إلى الأبِّ، وذات يوم, أولئك الإخوةِ الأشرار، الذين اتخذوا من مهمتهم عملا، سَيَفْهمونَ، المعنى الحقيقي لميلي لهم بمَنْحهم نعمةِ أن يَكُونوا قادرين على جَعْلي حاضراً في العشاء الربانى المقدسِ. . .
حينئذ، لَنْ يَستفيدوا من المذبحَ لكونهم يَعظون عِظة دينيّة‏ سَُتربك بدلاً مِنْ أنْ تساعدَ الإنسان، عندما يعظون لأجل صنع سياسةِ أو لتَبرير الراتب, أَو ببساطة بكونهم ” يُؤدّون خدمتَهم ” عندما لا يكون بإمكانهم تَفادي ذلك. ويفعلون ذلك بينما يُراقبون الساعةَ كي يرحلوا بسرعة لأداء واجباتِهم الأخرى.

يَجِبُ أَنْ يوقّفوا انحدارهم إلى الهاويةِ ويُعترفْون بأنّ حبَّهم لأنفسهم أعظمُ مِنْ حبِّهم لى ولرْغبُتهم فى خِدْمَة الرب والإنسان. لأنهم بموقفِهم هذا يَطْرحونَ الثقةَ ويُثبّطوا عزيمة أولئك الذين، يُقرّرون الذِهاب ليلتقوا مَعي, على الأقل مرة كل أسبوع
مِنْ على صليبِي أَقُولُ لهم ولكم: لا تُعترضْوا على الطوائفِ لكونها تغلغلت بدون أن تسُألوا أنفسكم إن كان هذا عاقبة سلوكياتكم.”
سَمعتُ تلك الكلماتِ ثانيةً، التي تُمثّلُ نهايةَ وبِداية كُلّ الأشياء: ” أبّتاه، فى يديكَ أُستودعُ روحَي! “ورأس مُخلّص كُلّ البشرية تستندْ على كتفِه وصدرِه. ومَكثَ هكذا للحظة، قَبْلَ أَنْ تنَزلَ لتستِند بالكامل على صدرِه. فى تلك اللحظةِ، التي كَانَت ممكنُ أَنْ تَكُونَ لانهائية والتي أَعتقدُ أحياناً أنّها سَتعِيشُ معي إلى الأبد، كُانْتُ بالتأكيد حاضرِة إلى عينِاي وآذانِي عندما قالَ لي:
” إن جسدي تحطم بالكامل. لكن فرحَي كَانَ عظيما جداً بِحيث أنني، مِنْ على تَلِّ آلامِي، نَظرتُ إلى السماء وصَرختُ أن كُلّ شئ قَدْ تم على أكمل وجه، واستودعتُ روحَي ليدي الأبِّ المحبِّ.
تلك الروحِ، التي أُظهرتْ للإنسان فى يومِ معموديتِي في الأردن، تُرجعُ إلى الأبِّ مَعي لكي يكتمل الثالوث القدوس ثانيةً في المجد، وكما انفتحت السماوات ذلك اليوم لكي يُشع نور حبَّ الأقنوم الثالثِ الذي كان، كما يقول الإنجيل، علي شكلِ حمامة؛ الآن حجاب الهيكلِ، الذى غَطّي تابوت العهدِ، تمُزّق لكي تجوز الدينونة على أولئك الذين أدانوني. وذلك، حقاً، كَانَ مُرعِبَا لهم بسبب تراثِ ونوعيةِ أولئك الأشخاص.
إن مهمّة الكلمةِ انتهت، وَصلتْ المعركةَ الهائلةَ لنهايتها. أبن الإنسانِ كَانَ يَمُوتُ، بَعْدَ أَنْ اسْتَسْلم بحرية للحبِّ. لقد كُنْتُ أَضِعُ نفسي بشكل واثق في يدي أبي، بسلام، بعذوبة. يهوذا ماتَ مشَنْوقا قبل ساعات قليلة، في يأسِ، كما يَمُوتُ الجبناءَ والخونة، كما يموت أولئك الذين لا يَحبّونَ أبي ولِذلك فأنهم لا يَثِقونَ فى مغفرتِه.”

فجأة عاد النور وتَلاشتْ الظلمة. برُؤية مفاجأتِي، تكلم السيد المسيح مِنْ على الصليبِ.
” هذا النور الذى رأيته منذ قليل، يَنهالُ على رسلِي لينيرهم ويسَاعَدَهم، كان من خلال روحِي، الذى كُنْتُ أَضِعه في يدي الأبِّ. أنه سيَجيءُ ليذكرهم بكُلّ ما سَمعوني أقوله وليسَاعَدَهم على جعل هذه المعرفةِ تَتغلغلُ فيهم بغاية العمق, كي تَسْمحُ لهم هذه المعرفة أن يكتِسبوا, من خلال قوّته, كُلّ الحكمة والقداسة الضروريتان، بالنسبة لي كي أمتد فيهم. بهذه الطريقة أواصل المسير بينكم، كي أواصل الإبراء، كي أواصل التطويب، كي أواصل الخلاص . . .
كُلّ هذا كَانَ لابد أن يُشاهد مِن قِبل شهودِ، كي تُفهم القيمة الحقيقية لتضحيةِ إنسان تَنازلُ عن حياتَه طوعاً، في هبة للإله وللبشريةِ.
لَمْ يُخبرْني الرب بهذا، لَكنِّي فَهمتُ أنّه كَانَ نفس الروحِ، الذي سيسْكبُ نفسه على ورثةِ الرسلِ، لأنه بطريقةٍ ما كَانَ يشير إلى الكهنةِ والأشخاصِ العلمانيّينِ الملتزمينِ. . .
ثمّ واصل السيد المسيح كلامه لي: ” لقد نفّذتُ إرادة الأبِّ. ها أنا أُرجعُ إلى الأبِّ وأنتم، أنتم الذين أحبّبتموَني، سَتُضطَهدون أيضاً، سيفتري عليكم، سيسَاء معاملتكم, ستُهانون. لَكنَّكم لَسْتَم بمفردكم. أنى باق مَعكم، وسأَتْركُ مَعكم من هى أثمنُ شئ في حياتِي، أمّي، التي سَتَكُونُ من الآنَ فَصَاعِدَاً أمَّكِم.”

بينما كان السيد المسيح يَنهي قوله هذا، رأيت جندي يقترب، وأَخْذ رمح، لقد هْمسُ بشّيء لم أَفْهمه تماماً. وبتعبيرِ ينم عن الشفقةِ بدا على وجهِه، طْعنُ جنبَ الرب، ونزلت كمية عظيمة مِنْ الدمِّ والماءِ، بللا وجهِ الجندي الذى غطّي عينَيه بيَدِّه وسقط على الأرضِ.
كَانَ صدر الفادى ممتلئ بالنور، في سيمفونية من الأشكالِ التي لا يُمْكن أنْ توْصَفَ. من ذلك الجنب المفتوح، جاء شيء ماً مثل الماءِ، لكنه مُنير جداً، بعد ذلك، أختلطُ الدمّ بذلك الماءِ. لقد بْدءا بفَتْح شقوقِ فى الأرضِ. وحيثما جرى الدمّ ، تَظْهرُ زنابقَ بيضاءَ بشكل رائع.
اختفي صليب السيد المسيح. أنى أَرى مكانِه الآن كنيسة ضخمة، وهذه الزهورِ تَدْخلها، كما لو أنَّها تنزلق. لكن مِنْ الجانبِ الآخرِ هناك كثيرين جداً مِنْ الشبابِ، يرتدون تونيات بيضاءِ، يَدْخلُون الكنيسة أيضاً.
فجأة، رأيت نفسي داخل تلك الكنيسةِ وكنت أَتأمّلَ: كُلّ تلك الزهورِ البيضاءِ كانت أمام المذبحِ، وتحوّلتَ الآن إلى شابّاتِ. وعلى الجانبِ الآخرِ شبابَ، يرتدون التونيات البيضاءِ. رجالُ ونِساءُ ساجدين في صلاةِ منسحقة، أياديهم ممدودة إلى جوانبِهم تُشكّلُ صليب. فْهمُت أنّهم النِساءَ والرجالَ الذين يُكرّسونَ أنفسهم، الذين يُسلّمُون حياتَهم إلى الرب.
سمعت كورس رائع، مثل الكورس الذى أسَمعه أحيانا أثناء القدّاسِ الإلهيِ، ورأيت السيد المسيح القائم من الموت، متمنطق بكل العظمة، كملك، وصنع فى الحال إيماءة وبدأ الشباب يقتربون مِنْه واحداً تلو الآخر. لقد كان يَدْهنُ أياديهم بنفسه، بينما كان يَبتسمُ بالحبِّ الذي أَراه أحياناً، في نظرة أَبّ، يَنْظرُ إلى أولاده.

نظر إلى السيد المسيح لبِضْع ثواني وبعد ذلك، قال لى بينما كان يسير نحو منتصفِ المذبحِ : “ من خلال رتبةِ الكهنوت، بسلطةِ الروحِ القدس، سَتَُغْفرُ كُلّ آثام الإنسانِ، وهم سَيَفْتحونَ أبواب السماءِ لَكم. . . لكني مُحب غيور، أطْلبُ منهم كُلّ إرادتهم. أنى أَتوقع كُلّ شيءَ مِنْ النفس طبقاً للمهمةِ التي دُعِيتْ إليها ذات يومَ وتتّوافق مع الدعوةِ بأن أُواصلُ الامتداد إليكم جميعاً، خلال أحوال كُلّ أيام حياتكم. ”
في تلك اللحظةِ، عادت رؤية موسى والسيد المسيح عَلى نَحوٍ رهيب. سَأُحاولُ وَصْفها بإخلاص بقدر ما أستطيع.
رَأيتُ موسى يقف على أرض مستوية على جبلِ سيناء. كَانَ يَحْملُ في كلتا يديه حجرين كبيرينِ ببَعْض النقوشِ عليهما. عْرفُت إِنَّهُمْ الوصايا العشرةَ. بأسفل كَان هناك الشعب وسطِ ضجيجِ كريهِ ومشاهدِ قذرةِ، لقد كان الشعب يَتمرّد. لقد بَدوا كوحوش أكثرَ من كونهم بشر. تحول وجهُ النبي إلى اللون الأرجواني تقريباً، مُتَوَهّجا. رَأيتُه يَتمايل يمينا ويسارا، وبعد ذلك يلقي كلا الحجرين علي الشعب بقوةِ وغضبِ.
كما لو أنّ مئات من الأطنان من الديناميتِ قد سَقطَ عليهم لأن عديد مِنْ الناسِ تبخروا وكثيرين مِنْ الآخرين ظلوا يتساقطون صارخين فى فتحة عظيمة في الأرضِ.
بعد ذلك، رَأيتُ السيد المسيح مرَفوعَا على الصليبِ، وخلفه، يوجد ملاكان هائلان بوجوهِ بغاية التألّق، لكن يُظهران تعبير قوي جداً مِنْ الغضبِ. احدهم كَانَ يَحْملُ بَعْض “الألواح”، (فلندعها هكذا) مثل الأحجارِ التي كان يَحْملُها موسى، لكن هذه صُنِعتْ من اللحمِ. بدوا كما لو أنها تُشكل قلبا عندما يُضعون معاً. مكتوب على مجموعة منها ” أَحبُّوا الرب قبل كل شيء ” وعلى المجموعة ألآخري ” أَحبُّوا قريبكم كنفسكم.” كان الملاك الآخر يَحْملُ في كلا يديه كأس ضخم مَمتلئ بالدمِّ.

بينما كان الملاكان عَلى وَشَكِ ألقاء ” تلك الألواحِ اللحميةِ ” وكأس الدمِّ على الكرة الأرضيةِ, سُمع صوت يقولَ: ” توقّفا. . . أنا سَأَغْرسُ ناموسي في قلوبِهم. هم سَيَكُونواَ شعبَي، وأنا سَأكُونُ إلهَهم. . .”
اعتقدُ أننا سنهلك جميعاً. متلقّين عقاب آثامِنا، إن لم نَطْلبَ المغفرة بكل ما فينا من قوة.
أمام هذا المشهد اَنتقلت لا لأعْمَلُ أي شيءُ سوي لأن أطلب أن يرحم الرب العالمِ.
أَنى متيقنة من أن القارئ لهذه الشهادةِ سَيفْهمُ فى أي لحظةَ نحن نَعِيشُ. والقارئ سَيَكُونُ متحد معي فى الرأي، بأننا إن لم نَسْجدُ أمام السيد المسيح الحيّ في العشاء الرباني المُبارك الذى على المذبحِ، فاعلين إصلاحاً وموحدين صلواتَنا، فأن ذلك الكأسِ سَيَفِيضُ وجزء عظيم مِنْ الإنسانيةِ سَيَُفقد .
بعد ذلك رَأيتُ العذراءِ الكلية القدّاسةِ تَجْلسُ على الأرضِ، مَع السيد المسيح راقداً على قطعة قماش، رأسه على صدرِها. كَانتْ تُداعبُه وتُقبّلُه ساكبة دموعَ وفيرةَ.
أَنا أمّ، وعندما يعاني أولادي أحياناً ولكَونهم مبتعدين عني، أشَعر بألم روحي وجسدي. في مُحَاوَلَة لشَرْح هذا أَقُولُ بأنّ صدرَي، الذى أرضع الأبن الذي يَعاني الآن أَو لديه مشاكلُ، يُتوجّعُ.
في تَأَمُّل هذه الصورةِ والتُفكّير فى قلبِ أمِّنا، تأثرت بمثل هذا الاحترام الذي أَعتقدُ بأنّ لَيْسَ للمرء خيارُ آخرُ سوي أن يطِرح نفسه على الأرضِ أمامه. كانت هناك امرأة، ممسّكُة برأس أبنها الميتِ، متقْبلُة الألمَ الذي يَطْعنُ قلبَها.
عندما يموت شخصِ غالي علينا، نتْركُ فى الألمِ. إن الشخص الراحل لا يَأْخذُ معه الحُزنِ.
في هذه الحالةِ، من أول قبول للعذراءِ المقدّسةِ حتى هذه اللحظةِ، كانت حياتها هي وأبنها الإلهي متّحدة بغاية القوة بحيث أن كل منهما كان ممْكِنُ أَنْ يتألم أَو يفرح بمشاعرِ الآخر.

إن أعلنت الكنيسةَ بأنّ كُلّ معاناة إنسانية لَها قيمةُ افْتَدائيةُ، إن أعلنت أنّها مفيدة لاهتداء النفوس، عندما تُقدم للرب بحبِّ، كَيْفَ يستطيع أي أحد أن يَشْعرُ بالمُهَانة بسماع أنّ مريم كَانتْ شريكة فداء أسفل الصليبِ؟
العلاقة التي تَرْبطُ امرأةَ سفر التكوينِ، التي سيَسْحق نسلها رأسَ الحية، مَع المرأة المتسربلة بالشمسِ في سفر الرؤيا، ألَيستْ هذه العلاقة بالضبط علاقة مشاركة الفداء؟ مشاركتها الفعالة، أيضاً كذبيحة، في تلك التضحيةِ المقدّسةِ التى كملَت أسفل الصليبِ.
أنى أَسْألُ المغفرةً لما قلته تَواً إن كنت أهنتُ أناسَ، بيد أنّي أتَركَ أمَّنا الكنيسةَ تَجيز الحكم على هذا، لكون تشكيلِي لَيسَ كافيَ بالنسبة لمحاولُة أن أقدم رأي فى هذا الموضوعِ. لكن الحبَّ يُميز بالحبِّ، ولهذا، لا ضرورة للذكاء.
بعد ذلك، ظهرت ثانية أمام عيناي الكنيسةَ العظيمةَ، لم يكن كهنةَ المستقبل فقط والنِساءَ المُكَرَّساتَ الذين كَانوا يَدْخلونِ، بل أيضاً عددَ لانهائيَ مِنْ النِساءِ والرجالِ، صغار وكبار السن وأطفال. . .
شيء ما جعلني أَنْظرُ نحو قبةِ الكنيسةِ. كانت هناك مريمُ العذراء، تغطي بعظمة كل المشهدِ بعباءة زرقاء. بابتسامة جميلة، مثل أُمّ تُحتضن طفلها الرضيعَ، تحْميه بحبِّ عظيمِ.
فى الداخل كَانَ السيد المسيح، مكتسي كما في صورةِ السيد المسيح الملك. كَانَ يَحتفلُ بالقدّاسِ الإلهي وكان يحتفل مَعه كُلّ أولئك الشبابِ الذين قَدْ دُهِنوا من قبل. فشَعرتُ بسعادةً عظيمة في قلبِي.

بعد ذلك أخبرني السيد المسيح : ” اخبري كُلّ أبنائي أنّه ليس كافيا أن يَعْرفونَ الخمس عشرَ محطة مِنْ محطاتِ طريقِ الصليبِ عن ظهر قلب, بل يجب أن يعَيْشوا ذلك ويتَمَتُّعون به، كي يكون كُلّ قدّاس إلهي حقاً حفل تأبين لآلامي .
أخبرْيهم أنّه مِنْ على الصليبِ، اتّكأتُ على كل واحد مِنْهم، لأن قوةَ الحبِّ مَنحَتهم أن يَكُونوا مسيحاً آخر.”
في تلك اللحظة رَأيتُ غرفة بجدرانَ ولاحظت نافذةً كبيرةً جداً والسيد المسيح، متألقاً، الجميع يرتدون ملابس بيضِاء، كَانَ يَنْفخُ على حوارييه ويَقُول لهم: ” أقبلوا الروحَ القدس. . . من غفرتم له يُغْفرُ له فى السماء . . .”
في هذه النقطةِ أَنْقلُ كلمات السيد المسيح الأخيرة التى أعطاها لى لكم في الوقت الذى كُنْتُ أَتمُّم كتابة هذه الشهادةِ في مطلعِ فجر عيدِ الغطاس.
” أَخّي العزيز، إن هذه الشهادةِ كَانتْ من أجلَك، ليتك تَكُون قادر أن تحيى وقت قليل في تأملِ عميقِ حول الإتحادِ الذي أُريدُ أَنْ يَكُونَ لى مَعك، ومن خلالك، يكون مَع شعبِي.
لا تسْمحُ لعقلانيةِ العالمِ أن تستبدل ردائك الأبيض بمنجلة ومطرقة . مكتبتكَ يجب أنْ تكون لأجل تَأَمُّلي على الصليبِ. أسلحتكَ، وأسلحة كُلّ مسيحي يَجِبُ أَنْ تكُونَ الصلاةً وشركة أمِّي وبابِ النجاة هو العشاء الرباني المقدس.
لكن تأكّدُ دائماً بأنّ احتفالك لهو مثل احتفال يوم خميسِ العهد، ذلك الاحتفال الذي يُحرّكُ بعمق قلوبَ جموع العلمانيين. تذكّرْ بأنّ شعبَي يُريدُ القداسةً في رعاتهم.”

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.