كتاب من سيناء إلى الجلجلة – شهادة كاتالينا
الكلمة الرابعة
أَنَا عَطْشَانُ
تَضمّنَت تعاليم السيد المسيح أظهار وجهِه لى في هذه اللحظة وَسْمحُ لي أن أرى أنّه كَانَ شاحبَ جداً خلف ذلك الحمّامِ الدمِّوي. في تلك اللحظة، أظلّمتْ السماء حتى بدت كأنها ليل؛ كما لو أنّ هناك كسوفُ.
كَانتْ الغيوم المُظلمة تُنبئ عن عاصفة. كانت هناك عشراتُ من الصواعقِ في الأفق ودمدمةِ عاليةِ جداً مِنْ الرعدِ كَانتْ مصاحبة لزلزالَ.
ظَهر فجأة المِئات من الملائكةِ حول المشهدِ. في إتّحادَ وتَزامنَ حركي مثالي، طرحوا أنفسهم جميعاً ليمجدوا يسوع، الجميع بأيديهم متشابكة معا وفي صمتِ، بينما أظهرتْ وجوههم المتألّقة حُزن عميق.
لسانه وشفتاه يبسا وصار شاحِباً. اكتسي صوته مرةً أخرى بالتعبَ، وبدا وكأنه من الصعب أن يتكَلم معي. وقالَ: ” تأمّلُي هذا المشهدِ يا حبيبتي، واعلّمُي بأنّ خاصتي لا يَستطيعُون المضي عبر الحياةِ بدون صليب.
اذهبْي وأخبرْي العالمَ بما تعلّمتيه، وإن أرادوا إسْكاتك، صِيحُي أعلى. افعلُي هذا من أجل قوَّة الحبِّ الذي من خلاله وحّدُتكم بى، الذي وحد مثل هاتين القطعتين من الخشبِ اللتان تُشكّلانِ أداة خلاص كُلّ البشر, آلا وهو الصليب.
أخبرْي النفوس المُكَرَّسةَ بأنّ الصليبَ الذي يَرتدونَه، ليس فقط لتَزيين صدورِهم أَو ليَرْبطُهم بشكل سطحي بى. أنهم يَجِبُ أَنْ يُثبّتوا أنفسهم أولاً بالصليبِ ويَتعلّمونَ أَنْ يَجْعلُوا أنفسهم مستقرين عليه بدلاً مِنْ الهْربَ منه. أخبرْيهم أنهم لا يَستطيعونَ الاشتياق إلى جبل طابور ما لم يمَرّوا أولا بجبل الجلجثة. أنه هنا, على الصليبِ, سَيَتعلّمونَ المحبة والتواضع ومسكنة الروحِ والاعتدالِ في كُلّ أَعْمالِ حياتِهم.
أكدي عليهم بأنّني أَعطيت برهان وشهادةَ بأنّ الشيطان مُمْكِنُ أَنْ يُهْزَم بسهولة مِنْ خلال تجربةِ الصليبِ. تأمّلْيني: أَنا إنسان حقيقي، الذي في الجسد يُظهرُ حدوده، وإله حقيقي، في أظهار القوةِ العنيدة للحبِّ العجيب.
صلي من أجل أولئك الذين لا يَعْرفونَ شئ عن الآلامِ، لأنهم بالتَأَكِّيد لَيسوا من خاصتي… لاحظي هذين المُدانين الذين يحيطانِني وتأمّلي الطريقِة التى يصرخ بها الرجالِ الذين يَحْملونَ صلبانَهم.
البعض يَحْملونَه بغضبِ، بمرارةِ، وسط أحزان كثيرةِ. كل من يَحْملُ صليب في ظروفِ مماثلةِ وبتلك المشاعرِ، يَحْملُ بالتأكيد صليب، لكنه صليب لَيْسَ لهُ مشاعر لأنه بدلاً مِنْ أنْ يَجذبَه بقربي، فأنه يَدْفعُه بعيدا عنّي. عادة يكون ذلك صليبُ أولئك الذين يَرْفضونَ فَهْم معنى الألم، الذين يَدْخلون في أبعاد خارقةِ. ذلك هو صليبُ اللصِّ الذى على يسارِي، أنه الصليبُ الذي سَيَكُونُ دائما ثقيلَ ولكن لَنْ يَكُونَ قادر على الافتداء.
ديماس، على يمينِي، قْبلُ صليبَه باستسلام وبكرامةِ؛ لقد تظاهر بذلك في بادئ الأمر لأنه لَيْسَ لهُ ملجئُ أخر. لكن فجأة، عندما ميّزُني وَعْرفُ بأنى أَنا ابن الربُ، َقْبلُ ذلك الصليبِ، مُقرُّ بنفسه كأثيم، وَسْألُ أن تتذكره الرحمة من خلاله.
أخيراً، ها أنا هنا أمامكم، مُحتضناً صليبي, صليب الفداء, لأعلّمُكم جميعاً أن تحَمْلوا صلبانكم. ها أنا أَدْعوكم أن تَكُونَوا شركاء فداء مَعي، صانعين كفارة عن ذنوبِكَم وعن ذنوب كل البشر. اعلموا بِأَنَّ حَمْل الصليبِ بهذه الطريقِة ينعكسُ علي سلوككم، عندما تكون أمامكم صعوباتَ وآلامَ فأنكم تَقتربون مني أكثر من خلالها وتنتفعون منها لإعْطاء شهادةِ أمام البشر. عندما تَحتضنون صليبَكَم، تستطيعوا أَنْ تَشعروا بأنّ الشيءَ الوحيدَ الذي تَرْغبُوه هو القوّةُ، لأن العطشَ للنفوس يلتهمكم
أَنَا عَطْشَانُ
نعم، كَانَ فمي ولسانَي جافان. لقد يبسا واشتعلتُ بالحُمَّى. لِهذا أَخذوا رمح، وبخرقة، وَضعوا مر وخلّ على شفاهي، كي يَسْخرَوا مِني أكثر عندما يتقرح فَمَّي.
عندما قُلتُ، أنا عطشان، كان نظري مازِال مثبّتاً على أمِّي، على يوحنا، وقليلاً أبعد للخلف، على المرأةِ الخاطئة التي أمام مثل هذا المشهدِ، لَمْ تَشعر حتى أنها مستحقة أن تدنوا مني بما يكفي كي تلمسني بحنو. عظيما جداً كَانَ شعورها بالذنبِ الذى غَمرَها، حتي أنّها حَصرتْ نفسها فى البُكاء، نْاظرُة إلّي بعجزِ. طوباك يا مجدلية، يا من مكثت عند صليبِي، سْامحُة لدموعِكَ أن تمتزج بالدمِّ الفادى الذي واصل السُقُوط على الأرضِ!
بحبِّكَ وحُزنِكَ، افتديت وكوفئت بظهورِي الأولِ أمام البشر. لكونك أحببت كثيراً، آثامكَ مُسِحتْ وأراد الأبَ مُكافئة توبتك وتضحيتِكَ، وضِعُك على المذابحِ بجانب أمِّي ويوحنا لكي ينحني كُلّ من يعتقد أنه بار وحكيم أمام مَنْ كَانت مُدانة، وهكذا، تتمُّ تسبحةَ العذراء مريم التي تَقُولُ بأنّ الرب رْفعُ المتواضعين وأشبع الجياعَ بالخيرات
بعد ذلك بَدأَ السيد المسيح يوضح لي الأسباب والمشاعر التي غمرته عندما قالَ: “أنا عطشان”. وكُلّ هذا يعنى أبعد كثيراً مِما يستطيع أى أحد أَنْ يَتخيّلَ. لَمْ يَقُلْ يسوع “ماءَ”، الذي كَانَ يمكنُ أَنْ يَكُونَ أسهلَ وعمليَ أكثر، إن كان أرادَ حقاً أن يشُرْب. أنه في الحقيقة لَمْ يُفكّرْ فى الماء؛ لأنه كَانَ يَقُولُ لنا أنّه عطشان لنا، عطشان للنفوس، عطشان أن نفَهْم جميعاً القيمةِ الغير محدودة لما كَان يحْدثُ.
أي شخص أختبر العطشَ الحقيقيَ … العطش لشرب الماء، يَعْرفُ ماذا يعنى ذلك… أنى أَدْعو القارئَ لاختبار ذلك بعض الوقت بتعقلِ ويُقدّمُ ذلك إلى الرب…
ضمن الاحتياجات الإنسانيةِ، ربما يكون العطش هو الأكثر ضَغْطا، ولدرجة أكبر في مواقفِ الإعياءِ الشديد …أعتقد أنّ ذلك كَانَ بالضبط السبّبُ الذى قالَه الرب, أيّا كان العطش لا يَستطيعُ المرء الانتظار كي يُروي ذلك العطشِ، أنه لهفة عارمة.
كَانَ المسيح عطشانَ لرُؤيتنا متّحدينَ حول تعاليمه. كَانَ عطشانَ لرُؤية كنيسة متحدَة ولَيسَت منقسمة، لأن في هذه المجموعةِ هناك منشدون أفضل أَو وعّاظ يَعظونَ أفضلَ، يتكلّمُون أفضل وبلغات أكثرِ مِنْ الآخرين … أَو لأن هذا يعملِ مَع هذا الكاهنِ وذلك مع آخرِ … أَو لأن في هذه الجماعةِ تقوى كاذبة أكثر من اللازم، بينما الآخرين يُميّزونَ الفقراء أكثر … أَو لأن هنا لا يَعطونَني المساحة التي أَستحقّها وهناك يعطونني …
لقد كَانَ عطشانَ للرُؤية كُلّ منا يُعلنُ المسيح كمُخلّص، متّحدَين بحبِّ ولَيسَ منفصلَين بسبب منافعِ ماديةِ وأنانية وضيِّق أُفُق. لقد أرادَ أن تصبح التطويبات التي أعلنَها من قلبِه ذات يوم بكُلّ قوّة وعذوبة هي الطريق الوحيد لنجاة كُلّ البشر, أن تصبح جزءَ من لحمِ قلوبِنا. باختصار، لقد كَانَ عطشانَ لرُؤيتنا نُساعدُ بعضنا البعض: إنسان لإنسان، جماعة لجماعةِ، أبرشية لأبرشيةِ, مُبشر لمُبشر، لا نتنافسُ ولا ندمّرُ بعضنا البعض كما لو أنَّنا أعداء نبحث عن الغنائمِ.
لقد كَانَ عطشانَ لرُؤية أساقفتِه وكهنتِه متّحدينَ، يؤسسون ويَسْكبُون رحمته، يسَاعَدَون ويسندون ويُشيرون ويُشجّعونَ الخطاة. نحن لا نعرف عديد مِنْ المراتِ من أين نبْدأُ العملَ، لأنهم يُحمّلونَنا بمثل هذه الأعباءِ الثقيلةِ. وعديد مِنْهم لا يَستطيع حَمْلها، بالرغم مِنْ أنهم على الطريقِ الروحيِ منذ وقت طويل وبافتراض أنهم يُحاولونَ الازدياد في الإيمانِ.
” لقد أردتُ أن أصرخ للإنسان أن يأتي كما هو كي يشربِ من عطشِي، مِنْ ذلك الينبوعِ, ينبوع الألمِ, الذي كَانَ يولدَ مِنْ الحبِّ نفسه. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أرُي أن كُلّ الأطفال لديهم بيوت سعيدة بدون أباء وأمهات بلا مبادئ. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أرُي أطفالِ متمتعين بالصحّة، بدون إهانات لكونهم يرون انتهاكَ محبتهم وبراءتِهم. لقد كُنْتُ عطشانَ أن أري هؤلاء الصغار الذين أَحبُّهم كثيراً، ممتلئين برغباتِ بناء عالم أفضل، ويعْرفُون القِيَمَ الإنجيليةَ…”
يسوع كَانَ عطشانَ للشبَّاب الذين يَعطونَه حياتَهم، تاْركينَ العالمَ، ولأولئك الذين يعيشون في العالمِ، الذين يبشرون ببشارة الملكوت مِنْ المكانِ الذى اختاروه بحرية.
كَانَ يسوع عطشانَ للنِساء اللواتي يتخذن من النِساءَ القدّيساتَ كنموذج ويبدأن مع الكنيسةِ فى بناء مجتمع عادل ذو قِيَمِ أخلاقيةِ، يُعلّمُن أطفالَهم وأطفال الآخرين أَنْ يَتخذوا من الرب بِداية ونهاية لمسيرتنا عبر هذا العالمِ.
كَانَ يسوع عطشانَ للنفوس، لكُلّ النفوس, عطشان لمَنْ كَانَ يَسْكبُ دمه من أجلهم حتي القطرةِ الأخيرةِ. لقد رأي مِنْ علو الصليب آثامَكَم وآثامي وصُرِخَ إلى البشر : ” أنا عطشان لهذه النفس …هذه هى النفس التي من أجلها أَعاني كثيراً. أنا عطشان، أَنا جائعُ، أنا لفي احتياج لهذه النفس لأهدأ هذه الحرارةِ التى سببتها الحُمَّى مِنْ هذه الجراحِ، التي جَرح تَلَوُّثها إنسانيتَي …
أنا عطشان للصلاةِ، للسلامِ في العائلات، في الجماعات، في كُلّ العالم. أنا عطشان لمعْرِفة أنّ كُلّ شخصِ سَيَستجيب لندائِي ذات يوم. أنا عطشان للنفوس الكريمةِ التي تَمْنحُ نفسها كمانعات صواعق أمام العدالةِ الإلهية، كي ينقذَون نفوس أخرى.
أنا عطشان لَك يا ابنتي، عطشان لمساعدتِكَ، لمثابرتِكَ. لكن احْذري مِنْ الذئابِ التى في ملابسِ الحملان. إن رأيت شخصا ما يُحاولُ إيقاْف رحلتِكَ, شخص ما يَصْنعُ صفقاتَ، كُونُي حذرةَ جداً. لا تدعْيه يغريك بمُبَادَلَة الصليب الذي أعطيتُه لك بصليب فاسدُ، زْاعماً أنّه اختيار أفضل.
واصلُي رحلتَكَ يا بُنيتي بصمت، ومع ذلك بيقظةِ كثيرةِ، محتضنة الخشبَة التي تُثقل كاهلك بأعظم تأجّجِ. واتْبعُي آثارَ دمِّي كي يَقُودك دائماً تجاهي … وإن بدأ أحد معذّبيكَ بصفع وجهِكَ، لا تغطّي وجهَكَ ضدّ الأهانة أَو الصفعة، ولا تحاولي حتي أن تدِافَعي عن نفسك … بل قدمي له ظهرَكَ أيضاً لكي يستطيع العالم أَنْ يَرى من جراحِكَ أَنْك من خاصتى. لأني أؤكد لك بأنّ الذين يضَربونك هم نفس الذين ضَربوني. أفرحي لكونك أحد الذين يَنتمون إلى يسوع! ”
ذلك العطشِ، الذي عاناه يسوع، كَانَ شهادة منه أنه َتْركُ لنا، نحن الخطاة، استحقاقاته لكي َنُخلص استناداً عليها. يسوع كَانَ عطشانَ حتى لأولئك المُلحدين وللذين لا يؤمنون بأنه الإله, اقنوم الابن الذى نزل من السماء كي يستردهم لنفسه, عطشان للمُرتدين الذين، بعد عشرون قرن، يَقُولُون إن الشيطان والجحيم لا يَوجِدانِ؛ إن العشاء الربانى المقدس ليس سوى رمز وتذكار؛ يقولون أنّه، بكُونَه إله، لَمْ يُشعر بآلامِه ولِهذا لَمْ يُعاني ما يُعانيه أيّ إنسان آخر؛ يقولون أنّها مبالغةُ عندما تصور الإيقونات يسوع يتألم كثيرا؛ يقولون أن يسوع التاريخي يختلف عن يسوع المثّالَي الذى يتخيله الوفاء الشعبيِ؛ يقولون أن يسوع لا يَستطيعُ أن يتكلم فيما بعد للبشر لأنه قال كُلّ شئ أثناء رحلتِه على الأرضِ … الذين يتساءلون ماذا لو كانوا لا يَعْرفون كَيفَ يَستمعون إليه، إن كانوا فَقدوا إمكانيةَ أن يندهشوا بتعاليم الإنجيل وباكتشاف التمسك بيسوع المُتألم وبتعلم مَحَبَّة أخوتهم ؟
كَانَ يسوع عطشانَ لرُؤية المسيحيين الذين يُلزمُون أنفسهم بالعملِ على انتشار ملكوت السموات في قلوبِ البشر. أنه لَمْ يُردْ قدرتنا المتوسّطَة المريحة كحاضرين لقدّاسِ الأحد وبعضويتنا في بعضِ أعمال التبشير كما لو أنَّها انضمام إلى نادي لخَلْق عِلاقاتِ اجتماعية أفضلِ في محاولة عابرة لتَخفيف ثقلِ ضمائرِنا.
يسوع رآنا مِنْ أبديته وشَعر بالعطش. شَعرَ بحاجة حقيقية وملحّة لتَغييرنا، لإيْقاظنا مِنْ نُعاسنا المتواصل, من فتورِنا الروحيِ الذي يقع فيه الجزءِ الأعظمِ منّا لكوننا لدينا إحساس كاذب بأننا مسيحيين صالحين, بأننا أبرار .
بتلك الأسباب وبآلاف من الأسباب الأخرى التي من الممْكِنُ أَنْ تملئَ مِئاتَ الصفحاتِ، كَانت سَبَّب أن يقول يسوع ” أنا عطشان.”