كتاب آلام يسوع المسيح كما رواها لكاتالينا

31٬278

يسوع فى طريقه نحو الجلجثة

فلنواصل يا ابنتي الصغيرة. أتبعيني في الطّريق نحو الجلجثة، مقهوراً تحت ثقل الصليب …. بينما كان قلبي مستغرقا فى الأحزان بسبب الضياع الأبدي ليهوذا، وضع الجلادون القساة ألعديمي الحس بآلامي الصليب القاسي والثقيل على أكتافي المجروحة، ذلك الصليب الذى ينبغي أن أكمل عليه سر فداء العالم. تأمّلوني يا ملائكة السّماء. انظروا خالق كل الأعاجيب؛ انظروا الإله الذي تقدم إليه كل الأرواح السّماوية الإجلال؛ انظروا الإله يسير نحو الجلجلثة حاملاً على كتفيه الخشبة المقدّسة والمباركة؛ انظروا الإله الماضي كى يلفظ أنفاسه الأخيرة.

أنظروا إلى أنتم أيضاً أيتها النفوس التي تريد أن يكونوا مقلدين لى مخلصين. إن جسدي المسحوق بكثير من العذابات يسير بلا قوّة، مستحمّاً بالعرق والدمّ …. إني أعاني بدون أن يكون هناك أي أحد آسف بشأن ألامي! يسير الغوغاء معي وليس هناك شخص واحد يشعر بالشفقة علي. أنهم يحيطونني جميعاً كذئاب الجائعة تريد التهام فريستها… كلّ الشياطين جاءت من جهنم لجعل معاناتي أسوأ.

إنّ الإعياء الذي شعرت به كان عظيماً جداً والصليب ثقيل جداً حتى إنى سقطت في منتصف الطريق، أنظروا كيف يقيمني أولئك الرجال المتوحشين بأسلوب بغاية الوحشية. احدهم يمسكني من ذراعي، أخرى يجذبني من ملابسي المتلصقة بجراحي فيمزّقها ويفتحها مرة أخري …. هذا يمسكني من رقبتي، آخر من شعري، آخرين ينهالون على بالضرب في جميع أنحاء جسدي بقبضاتهم وحتى بأقدامهم. سقط الصليب فوقي وتسبب بوزنه فى جراح جديدة. لقد نظّف وجهي أحجار الطريق والدمّ الذي نزف ألتصق بعيناي التي أغلقت تقريباً بسبب الضرب الذى تلقته؛ اختلط التراب والطين بالدمّ وتحوّلت لشئ بغاية التشوه.

أرسل أبّي ملائكة لمعونتي كي لا يفقد جسدي الوعي عندما يسقط، كي لا تنتهي المعركة قبل أوانها ويفقد كل أحبائي. لقد سرت على الأحجار التي أتلفت قدماي. لقد تعثّرت وسقط مراراً وتكراراً. لقد نظرت لجانبي الطريق، باحثاً عن نظرة حبّ صغيرة، عن نظرة استسلام، عن نظرة إتحاد بآلامي، لكني لم أرى أي أحد. أبنائي، يا من تسيرون على خطاي، لا تتركوا صليبكم حتى وإن بدا ثقيلا جداً. أفعلوا هذا من أجلي.

بحمل صليبكم ستساعدونني على حمل صليبي، وفى الطريق الصعب، ستجدون أمّي والقديسين الذين سيعطونكم المساندة والعزاء. استمرّوا معي لبضع لحظات، وبعد بضع خطوات ستروني في حضرة أمّي المقدّسة التي بقلبها المطعون بالألم خرجت للقائي لسببين: لتنال المزيد من القوّة لمواجهة آلامها، ولتعطي أبنها بصمودها التشجيع لمواصلة عمل الفداء.

خذوا بعين الاعتبار استشهاد هذين القلبين. من تحبّه أمّي أكثر هو أبنها…. أنها لا تستطيع تخفيف آلامي وهي تعرف أنّ زيارتها ستجعل آلامي أسوأ بكثير، لكنّ ذلك سيزيد قوّتي أيضاً لإتمام إرادة الأبّ.

إن أمّي هي أعظم حبيب لى على الأرض، وليس فقط لم أستطيع أن أعزّيها، بل أن الحالة الحزينة التي رأتني فيها سبّبت لقلبها آلام بعمق آلامي. لقد تركت زفراتها تفلت منها. متلقّية الموت الذي قاسيته أنا في جسدي في قلبها. آه كم ثبتت عينيها عليّ وكم ثبت عيناي عليها! أننا لم ننطق بكلمة واحدة، لكن قلبينا قالا عديد من الأشياء في هذه النظرة المؤلمة.

نعم، لقد شهدت أمّي كلّ عذاب آلامي، تلك الآلام التي كشفت لروحها من خلال رؤي إلهية. بعض التلاميذ، بالرغم أنّهم ظلوا بعيدين خوفا من اليهود، حاولوا اكتشاف كلّ شيء ويعلموا أمّي …. عندما علمت أنّ حكم الإعدام قد صدر، رحلت لتلاقيني ولم تتركني حتى وضعوني في القبر.

يسوع يُعان على حمل الصّليب

ها أنا في طريقي نحو الجلجثة. أولئك الرجال الأشرار، خوفاً من أن يروني أموت قبل الوصول للنهاية، بحثوا عن شخص ليساعدني على حمل الصليب، ومن منطقة مجاورة وضعوا اليد على رجل يدعي سمعان. انظروا إليه خلفي وهو يساعدني على حمل الصليب، وقبل كل شيء خذوا فى الاعتبار شيئان: إن هذا الرجل يفتقر إلى النيّة الحسنة، وهو مرتزق لأنه لم يجيء ويشاركني ثقل الصليب إلا لأن ذلك طلب منه. لذلك السبب، عندما أحس بالتعب، ترك كل الثقل يقع علىّ، وهكذا سقطت على الأرض مرّتين.

إن هذا الرجل يساعدني على حمل جزء من الصليب، لكنه لم يحمل كلّ صليبي. هناك نفوس تسير خلفي بهذه الطريقة. أنهم يوافقون على مساعدتي فى حمل صليبي لكنّهم يظلوا قلقين بشأن رفاهيتهم وراحتهم. كثيرين آخرين يوافقون على أن يتبعوني حتى النهاية، يحيون حياة مثالية. لكنّهم لا يتخلّون عن مصالحهم الخاصة، التى تظل تحيا داخلهم، في عديد من الحالات، تكون هى أولياتهم. لهذا فهم يتعثّرون ويسقطون صليبي عندما يثقل عليهم. أنهم يريدوا أن يتألموا بأقل قدر ممكن، أنهم يرفضون نكران ذواتهم، يتجنّبون الإذلال والتعب بقدر المستطاع، ويتذكّرون، ربما بحزن، ما قد تركوه خلفهم، أنهم يحاولون الحصول على الراحة لأنفسهم وعلى بعض المتع.

بكلمة واحدة، هناك نفوس بغاية الأنانية ومغرورة قد جاءت بحثاً عنّي من أجل أنفسهم أكثر من مجيئهم من أجلى، أنهم يسلمون أنفسهم فقط للتخلي عن ما يضايقهم وعن ما لا يستطيعون أن يضعونه جانباً… أنهم يساعدونني على حمل جزء صغير جداً من صليبي، وبمثل هذا الطريقة يستطيعوا أن يحصلوا بالكاد على استحقاقات لا غنى عنها لأجل خلاصهم. لكن في الأبدية، سيرون كم بعيداً جداً قد تركوا الطريق الذى كان يجب أن يسلكوه.

بالمقابل، هناك نفوس، وهي ليست قليلة، يقرّرون أن يتبعوني فى الطريق نحو الجلجثة متأثرين برغبتهم فى الخلاص لكنهم مدفوعين أساساً بالحبّ عندما رأوا ما قاسيته من أجلهم، لقد اعتنقوا حياة مثالية ويبذلون أنفسهم فى خدمتي، ليس ليساعدوني على حمل جزء فقط من الصليب بل كلّ الصليب. رغبتهم الوحيدة هى أن يعطوني الراحة وأن يعزوني. أنهم يقدمون أنفسهم إلى كلّ شيء تطلبه إرادتي منهم، باحثين عن أيّ شئ ممكن أن يسرني. أنهم لا يفكّرون فى الاستحقاقات أو الجوائز التي تنتظرهم ولا فى التعب أو الألم الذي سيلي ذلك. إنّ الشيء الوحيد الذى يشغلهم هو الحبّ الذى يستطيعوا أن يظهروه لي والراحة التى يعطونها لي…

إن قدم صليبي لهم كمرض، إن كان مخفياً تحت عمل يناقض ميولهم ويتّفق قليلا مع قدراتهم؛ إن جاء مصحوباً بفقدان الناس الذي يحيطون بهم، قبلوه باستسلام كامل. آه! هذه هى النفوس التي تحمل صليبي حقاً؛ أنهم يمجّدونه. يتحينون الفرصة ليؤكدوا مجدى بدون أدنى اهتمام أو مًقابل أخرى سوي حبّي. أنهم من يبجلوني ويمجّدوني. إن لم تروا ثمار لآلامكم، لنكران ذواتكم، أو إن رأيتم ذلك فيما بعد، تأكّدوا بإنّ آلامكم لن تكون بلا جدوى وغير مثمرة، بل بالعكس، فالثمار ستكون وفيرة.

النفس التي تحبّ حقاً، لا تحتفظ بكشف حساب عن مدى ما قاسته أو فعلته، ولا تتوقّع هذه الجائزة أو تلك، لكنّها تبحث فقط عن ما تعتقد أنه يمجّد إلهها…أنها لا تدخر الجهد ولا المشقة من أجله. أنها لن تضطرب ولا تستاء، لأنها لا تفقد سلامها إن وجدت نفسها مخذولة أو مهانة لأن الدافع الوحيد لتصرفاتها هو الحبّ، والحب لا يبالي بالعواقب ولا بالنتائج. هذا هو الهدف للنفوس التي لا تسعي للمقابل. الشيء الوحيد الذي يؤملونه هو مجدى وعزائي وراحتي، ولذلك السبب فأنهم يأخذون صليبي وكلّ الثقل الذى أريد أن أضعه عليهم.

أبنائي، أدعوني باسمي، لأن كلمة يسوع تعني كلّ شيء. أنا سأغسل أقدامكم، تلك الأقدام التي مشت على الطرق الموحلة وجرحتها الحجارة. أنا سأمسح دموعكم، سأشفيكم وأقبّلكم، وسوف تستعيدوا عافيتكم ولن تعرفوا أي طريق آخر سوي الطريق الذي يقودكم إلي. ها نحن الآن في الجلجثة! إنّ الرعاع متلهّفين لأن اللحظة الرهيبة اقتربت …. إني منهك من الإعياء، أستطيع بالكاد أن أمشي. أقدامي تنزف بسبب أحجار الطّريق … ثلاث مرات سقطت فى الطريق: مرة لأمنح الخطاة الذين اعتادوا الإثم القوّة ليتوبوا؛ الثانية لأشجع النفوس التي تسقط بسبب ضعفها والتى أعماها الحزن والضجر، كي تنهض وتباشر بشجاعة طريق الفضيلة؛ والثالثة لأعين النفوس على أن تتخلى عن الخطية في ساعة موتها.

يسوع يسمّر على الصّليب

أنظروا بأي وحشيّة يحيط بى هؤلاء الرجال القسّاة. بعضهم يجرّون الصليب ويضعونه على الأرض؛ آخرون يمزّقون ملابسي التى التصقت بجراحي فتفتحت ثانيةً وسالت الدمّاء منها. أنظروا يا أبنائي الأحباء، بأي خجل وحيرة أعاني برؤية نفسي فى هذا الوضع أمام هذا الكم من الغوغاء…. يا له من ألم تجرعته نفسي!

مزّق الجلادين سترتي والقوا قرعة عليها؛ تلك السترة التي كانت أمّي تلبسني إياها بكثير من العناية أثناء طفولتي، وكبرت في الحجم كلما كبرت. كم سيكون حزن أمي عندما تتأمّل هذا المشهد؟ كم كانت ستود أن تحتفظ بتلك السترة المًلطّخة والمشبّعة الآن بدمّي. ها هى الساعة قد حانت ومددني الجلادين على الصليب، أمسكوا ذراعي وشدوها لجعلها تصل للفتحات المًعدة فيه من قبل. إن كلّ جسدي يتخلع، أنه يتلوي من ناحية لأخرى وأشواك الإكليل تنغرس أعمق فى رأسي.

أنصتوا للضربة الأولى للمطرقة التي تسمّر يدّي اليمنى … أن صوتها يدوّي فى أعماق الأرض. أصغوا أكثر… ها هم يسمّرون يدّي اليسرى، أمام مثل هذا المنظر، السماوات ارتعدت، والملائكة طرحت نفسها. لقد احتفظت بأعمق صمت. لا شكوى ولا أنين فلت من شفاهي، لكن دموعي اختلطت بالدمّاء التي غطّت وجهي. بعد أن سمّروا يداي، شدوا قدماي بقسوة … تفتحت جراحي ، تمزّقت أعصاب يداي وذراعاي، تخلعت عظامي … يا لها من ألام رهيبة! ها قدماي قد تسمّرتا ودمّائي تتخلل الأرض! …

تأمّلوا للحظة هذه الأيادي والأقدام الملطّخة بالدماء … تأمّلوا هذا الجسد العاري والمغطى بالجراح وبالبول وبالدمّاء. تأمّلوا هذا الجسد المتسخ … تأمّلوا هذه الرأس الموخوزة بالأشواك الحادّة، المشبّعة العرق، الممتلئة بالتراب، والمغطّاة بالدمّاء … تعجبوا من الصمت، تعجبوا من الصبر، ومن الامتثال الذي قبلت به هذه المعاناة. من الذى يقاسي بمثل هذا؟ من الذى يضحيّ بمثل هذا الإذلال؟ أنه إبن الإله ! أنه من صنع السماوات والأرض والبحار وكلّ الموجودات… أنه من خلق الإنسان، أنه من يثبت كلّ المسكونة بقدرته اللانهائية… أنه هناك بلا حراك، مزدرى ومحتقر وعريان، وتتبعه حشود من النفوس التي ستتخلّى عن الممتلكات الدنيوية، ستتخلّى من أجله عن عائلاتها وأوطانها وكرامتها وخيراتها وأمجادها وكل ما قد يكون ضروريا لتعطيه المجد ولتظهر له الحبّ الذى تدين به له …

تفطني يا ملائكة السماء، تفطنوا أنتم أيضاً يا من تحبوّني … ها هم الجنود سيديرون الصليب ليثبتوا المسامير كي لا تنخلع منه بسبب ثقل جسدي وبهذا قد أسقط. ها هو جسدي سيهب الأرض قبلة السلام. وبينما تتواصّل أصوات المطارق خلال الفضاء، عند قمة الجلجثة، يكتمل المشهد الجدير بالإعجاب… بناء على طلب أمّي التي عايشت كلّ ما يحدث دون أن تكون قادر على إغاثتي، متضرعة لأجل مراحم أبي السماوي … نزلت طغمات من الملائكة لتمجد جسدي، ولتحمّله كي لا يمسّ الأرض، وتتفادى انسحاقه تحت ثقل وزن الصليب.

تأمّلوا يسوعكم معلّقاً على الصليب دون أن يكون قادرا على آتيان أدني حركة …تأمّلوا يسوعكم عريان، بلا سمعة، بلا كرامة، بلا حريّة … لقد سلبوا منه كلّ شيء! ليس هناك أحد يأسف عليه ويشعر بالأسى لأجل آلامه! أنه يتلقّى فقط التعذيب والسخرية والهزء! إن كنتم حقاً تحبّوني، فهل أنتم مستعدّين أن تكونوا مثلي؟ ما الذى سترفضونه كي تطيعوني، كي تسروني وتواسوني؟ أطرحوا ذواتكم على الأرض ودعوني أقول لكم بضع كلمات:
لتسود إرادتي عليكم!
لتحيطكم محبتي!
ليمجّدني بؤسكم!

أكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.